الاثنين، 13 أكتوبر 2014

تحديات الظاهرة الجهادية



أحدثت الظاهرة الجهادية تغييرا هائلا في الموازين، وأعادت رسم الخريطة الاجتماعية والنفسية، وفرضت نفسها كأولية على كثير من الدول. ولم تقف الظاهرة الجهادية عند كونها خطرا على بعض الأنظمة، أو مشكلة إرهابية لحكومات غربية وشرقية، بل في كونها تحديا شاملا لجهات كثيرة، وفي مناحي كثيرة. (١)

ومع الأسف لا يعترف كثير من المثقفين بضخامة هذه الظاهرة، إما عجزا عن إدراكها، أو تحاشيا لها، أو عيشا في وهم احتقار المنافس. ولا يمكن إدراك حقيقة هذه الظاهرة وأبعادها والتعامل معها بطريقة سليمة، إلا بالاعتراف بها ومعرفة عمقها وامتدادها وتقصي كل تحدياتها. (٢)

وبعد تمرين ذهني جيد فيه تجرد من ضغوط إعلام الحكومات، والتداولات الفكرية الباردة، والاستغراق في الواقع المباشر، يستطيع المثقف رصد مجموعة من التحديات التي فرضتها هذه الظاهرة. هذه التحديات ليست من تخطيط جماعة أو حزب، بل هي نتيجة تلقائية لطبيعة هذه الظاهرة، كونها منطلقة من ثقافة المجتمعات، ومن مرجعيتها ومعاناتها. (٣)


التحدي الشرعي 

يعتقد البعض أن الطرح الجهادي ليس إلا حزمة من العواطف المتدفقة والحماس الزائد، مدعومة ببعض النصوص التحريضية التي فُهمت خطأ، ووجهت على غير المراد بها. وبتأمل أدبيات الجهاد، يتبين أن الطرح الجهادي الحالي أوسع من ذلك بكثير، فهو متسلح بكمية كبيرة من نصوص القرآن والسنة الصحيحة، التي يمكن أن تعتبر منظومة متكاملة في مشروع ضخم.

والنصوص التي يحتج بها الجهاديون، تشمل كل النصوص المرتبطة بالهوية، والمرجعية، والعلاقة بالآخر، والحاكمية، وبأحكام الطوائف المختلفة، فضلا عن أحكام القتال. والتحدي الأصعب هنا أن سَوقهم لهذه النصوص، ليس تكلفا، ولا تعسفا، ولا حشرا في غير محله، بل إنها تساق بمعناها المباشر المحرج لكثير ممن يطرح طرحا مخالفا لهم.

ويتصاعد التحدي حين يروي الجهاديون فهم علماء الإسلام الكبار لهذه النصوص، بما يؤيد طرحهم، بدءا بعلماء الصحابة والتابعين، ومرورا بالأئمة الأربعة وكبار علماء التفسير والحديث، وابن تيمية وابن القيم، وانتهاء بعلماء الدعوة النجدية. ويضطر كثير ممن يخالفهم لأن يبحث عن مخارج مرهقة من أجل أن يصمد أمام هذا الطرح. 

لا شك أن التهور الشرعي والعملي عند بعض جهلة الجهاديين، يوفر وسيلة ممتازة لبعض العلماء المخالفين للجهاد في الرد عليهم، لكن مواجهة الشخصيات المؤصلة في الجهاد، أمر آخر وربما لم يحصل حتى الآن. (٤)


التحدي الفكري 

فضلا عن النصوص، يقدم الجهاديون رؤية واضحة لمشروعهم، سواء من ناحية الغاية النهائية، أو تحديد طبيعة جماعاتهم وشخصيتهم الفكرية، أو تقويمهم للوضع العالمي والإقليمي، أو خططهم المرحلية. وفي عرضهم لهذه الرؤية، فهم لا يسوقون كلاما إنشائيا كوجهة نظر عابرة، بل يؤصلون له شرعيا وتاريخيا وإداريا بل وفلسفيا. 

ويلاحظ في التيارات الجهادية، أن صاحب الرؤية عادة يكون في سدة المسؤولية، أو قريبا منها، مثل الظواهري والعدناني، بخلاف كثير من التيارات الإسلامية الحالية، التي يفتقر فيها القياديون للرؤية والعمق الفكري. هذا التمكن الفكري لدى القيادة، يفسر تتابع الأحداث بطريقة توازي الطرح الفكري الذي تتبناه تلك القيادة. ومثال ذلك استراتيجية "أمريكا أولاً" عند ابن لادن والظواهري، مقابل التمدد الأفقي عند البغدادي والعدناني. (٥)

هذا الوضوح لا ينطبق على كثير من التجمعات الجهادية المبعثرة هنا وهناك، من المنتسبين للقاعدة أو داعش أو الأفراد المتعاطفين معهم، لأن الرؤية لديهم مرتبكة جدا. وغالب من يخالف الجهاديين، يستخدم هذه التجمعات المبعثرة كنماذج، فتفوت عليه الفرصة في فهم الرؤية الجهادية الأصلية.(٦)

ولا يشكل الطرح الجهادي المؤصل تحديا للمثقفين غير الاسلاميين، لأنهم خارج دائرة الحرج من المرجعية الإسلامية، لكن المثقفين الإسلاميين يجدون أنفسهم في خانة ضيقة أمام الطرح الجهادي، بسبب مهارة الجهاديين في استخدام المرجعية الإسلامية، في تقوية حجة الطرح الجهادي.


التحدي الأمني 

أثبتت التجربة خلال العشرين سنة الماضية، أن التيارات الجهادية لديها القدرة على البقاء والتوسع، رغم كل الجهد المبذول لاستئصالها، أو إيقاف نموها. هذا التوسع ليس في خطرها الأمني فقط، بل التمدد في النفوذ، وتكاثر في الأعداد، وتعمق في التأثير الفكري والنفسي بالجمهور، ونمو في القوة العسكرية والسياسية. وربما يعزى سبب قدرتها على البقاء، والنمو لعدة أسباب منها:

أ) سهولة التجنيد، وذلك لأن دعاة الجهاد يجيدون توظيف النصوص الموجبة للجهاد والمحرّضة عليه، وتنزيلها على ظروفنا الحالية، وأسباب أخرى مذكورة في فقرة التحدي النفسي.

ب) الإصرار والقدرة على التحمل، وذلك بسبب الثقة العارمة بالمشروع الجهادي عند أفراده، فهم يعتبرون أنفسهم أفضل أهل الأرض، وكذلك لأنهم يعتبرون الصبر وطول النفس جزءا من الجهاد نفسه.

ج) الشجاعة والاستعداد للمواجهة، وذلك بسبب الاستعداد الدائم للموت، بل الحرص عليه إلى درجة أن الموت صار أهم جزء في مشروع الجهاد.

د) المرونة في الحركة، والاستعداد النفسي للتنقل، بعد التخلي عن المواطنة والنظرة القطرية، وتبني النظرة العالمية، والانتماء الديني المتجرد من العلاقة بالمكان.

في المقابل، يجري التعامل مع التيارات الجهادية كمشكلة أمنية، أو عصابة خارجة عن القانون، أو جماعة تشكل خطرا على النظام، دون أي إدراك لهذه الأسباب القوية في مقدرتها على البقاء. ولذلك يلاحظ حتى لو تمت محاصرة التيار الجهادي في بلد واستئصال المقاتلين، تبقى جذوة الانتماء الجهادي ممتدة في المجتمع، قابلة للانفجار في أي لحظة، أو الهجرة لبؤرة جهاد في مكان آخر. (٧)


التحدي النفسي 

التعطش للهوية وإغلاق الطريق أمام الإصلاح السلمي، وعجز الأنظمة الحالية عن مواجهة استفزاز أعداء الإسلام للمسلمين وغيرها، أسباب يسرت تجنيد الشباب في التيارات الجهادية. والجهاديون لا يكتفون بتجنيد الشباب مستغلين هذه الأسباب، بل يثبتون أنهم قدر التحدي النفسي، حين تتجاوب القوى العالمية، فتجيش قدراتها العسكرية والسياسية والأمنية والمالية والمخابراتية ضدهم. (٨)

هذا التفاعل العالمي بصوت مرتفع جدا، يمثل اعترافا صارخا بندّية التيارات الجهادية لهذه القوى العالمية، وهو ما يمثل إشباعا نفسيا إضافيا فيه نشوة وانتعاش للشباب المتطلع لهذا الدور. وخصوم التيارات الجهادية (وخاصة الغربيين) لا يدركون أن تجييش العالم ضد الجهاد بصوت مرتفع، إنما هو أفضل وسيلة لتجنيد الشعوب المسلمة مع الجهاد. 

هذا الشعور بالنشوة من اعتراف الخصم الكبير بك وبخطورتك، يمكن أن يخفت لو كان لوحده، لكنه مستصحب لشعور أصلي بثقة عارمة بالمنهج، ومسؤولية عن العالم كله. ولذلك تتحول هذه الثقة العارمة بالمشروع إلى تحدٍ نفسي يستحيل كسره، رغم الحملات العسكرية والأمنية والتعاون العالمي. (٩)


التحدي الحضاري 

يتبنى الجهاديون مجموعة مبادئ، تضعهم في مواجهة كل المنظومة العالمية القائمة على حضارة علمانية بمبادئ علمانية. والأمر الذي يجعل هذه المواجهة شاملة في تحدٍ حضاري، هو أن الجهاديين لا يكتفون بوضع الأطروحات في كتب أو مقالات، بل يترجمون ذلك عمليا في مشروعهم القتالي. ومنطلقهم في ذلك قناعتهم أنهم يتحملون مسؤولية البشر على وجه الأرض، لما يعتبرونه إخراجهم من الظلمات إلى النور.

يرى الجهاديون أن العالمية في الإسلام لا تقتصر على نشر الإسلام بين أفراد البشر في كل مكان، ومن كل جنس، بل تعني عولمة المشروع الإسلامي الاجتماعي والسياسي كاملا. أما الهيمنة، فتعني السعي لأجل أن يتفرد المسلمون بالسلطة، فوق كل الأديان والأفكار، ولا يسمح لأي دين بأي مظاهر، إلا بقدر ما تسمح به الشريعة، داخل الدولة المسلمة التي تتوسع دائما. وأما الحاكمية، فتعني الالتزام بمرجعية الكتاب والسنة، ورفض كل القوانين أو التشريعات التي ليس مصدرها الكتاب والسنة. 

والجهاديون يعتبرون أنفسهم تلقائيا خصوما للقوى العظمى، مثل أمريكا، وروسيا، والاتحاد الأوربي، وخصوما للمؤسسات العالمية، مثل الأمم المتحدة، والمؤسسات المالية العالمية وغيرها. هذه الخصومة عند الجهاديين ليست خصومة إزعاج وتخويف، بل هي خصومة صراع تاريخي حضاري، يعتقدون أن النصر في نهاية المطاف سيكون حليفهم فيه. ولذلك يعيش الجهاديون جوا عارما من الاستعلاء، واحتقار القوى العظمى، وتجد لديهم قناعة راسخة أن النصر حليفهم، وأن القوى العظمى إلى هزيمة حتمية. (١٠)


التحدي الحركي 

يمتلئ العالم الإسلامي والعربي بتيارات إسلامية سلمية كثيرة، استقطبت عددا كبيرا من الناس، وصار لها نشاط متفاوت في هذه البلدان، بحسب الهامش المسموح به. لكن حين ظهرت التيارات الجهادية، شكّلت تحديا حقيقيا لهذه التيارات، سواء في استحواذها على جزء كبير من الشباب، أو في حضورها السياسي والإعلامي الذي فاق هذه التيارات كثيرا.

منافسة التيارات الجهادية للتيارات السلمية، يعود بالتأكيد للأسباب التي تُشبع تطلعات الشباب كما ذكر أعلاه، لكن هناك سبب آخر ربما يكون أكثر أهمية، وهو الاختلاف الحركي في طريقة الطرح الجهادية. التيارات الجهادية لأنها تحمل مشروعا عالميا، فهي بالضرورة لا تعمل بطريقة حزبية، وتعتبر كل من يخدم المشروع الجهادي جزءا منها، حتى لو لم يكن مبايعا أو منتظما في داخل الجماعة. ولهذا السبب فإن المحسوبين على التيارات الجهادية يمكن تصنيفهم لثلاث دوائر: 

الدائرة الأولى، الذين هم داخل التنظيم، ويعملون مباشرة بأمرة مسؤول التنظيم. 

الدائرة الثانية، هم الذين تدربوا على القتال في مكان ما، ويشكّلون خلايا لهم، ويجتهدون بطريقتهم في خدمة المشروع الجهادي.

الدائرة الثالثة، هم كل المتعاطفين والمجتهدين في خدمة التيار الجهادي، مثل كتاّب الشبكة العنكبوتية "الانترنت"، أو المتعاونين داخل أجهزة الأمن والجيش، أو الداعمين ماديا، إلخ. 

بهذه المرونة الحركية، يتفوق الجهاديون كثيرا على التيارات السلمية التي يغلب عليها الحزبية، والتي لا يمكن خدمة رسالتها إلا بتبعية تنظيمية مباشرة، أو على الأقل بعلاقة حركية من نوع ما. هذا التفوق الحركي، مكّن الجهاديين من اختراق المجتمعات، ويسر عليها الذوبان داخل الكيان المجتمعي، بسبب صعوبة الفصل بين الدوائر الثلاث. (١١)


الإدراك ضروري 

ربما يظن البعض أن هذا الطرح تضخيم للظاهرة، وهذا غير صحيح، بل اعتقاد التضخيم هو جزء من العجز الفكري عن رصد التغييرات الاجتماعية والفكرية في المجتمعات. وغياب هذا التصور عن ضخامة التحديات من مخيلة كثير من المثقفين، والعلماء، والمهتمين بالشأن العام، يثير التساؤل عن مدى المعايشة للصورة الكاملة. 

ولا يمكن أن يكون المثقف رائدا في المجتمع وصانعا للفكر، إلا إذا كان لديه إدراك تلقائي لأي تغيير في الموازين، وتصور واضح للخريطة الاجتماعية، والنفسية، ومعرفة ذاتية للأوليات.(١٢)

-------------------------------


(١) لماذا تختلف الظاهرة الجهادية الحالية، عن الجهاد أيام الاستعمار الأول، في مصر والعراق والشام وليبيا والجزائر وشبه القارة الهندية؟ لماذا لم يسبب ذلك الجهاد قلقا عالميا، ولم يسبب تعاونا دوليا، بل دائما يتم احتوائه بعد خروج المحتل، وإقناع الشعوب بنسيانه، حتى لو تسلط عليهم ظالم منهم وكيلا عن المحتل؟.

والملاحظة ذاتها تنسحب على الجهاد في فلسطين، فلمَ لم تنجح إسرائيل بكل نفوذها العالمي، في صناعة قلق عالمي ضد ذلك الجهاد؟ لماذا لم يتفاعل العالم مع جهاد القاعدة وداعش بنفس الطريقة؟ لماذا لا ينظر العالم لهذا الجهاد كمشروع مؤقت محدود، بإخراج محتل أو إزالة ظالم؟ لعل في المقال أعلاه محاولة إجابة على هذا السؤال. 

(٢) المشكلة الأصعب ليست في الإجابة على هذا السؤال، بل في غياب التفكير بهذا الاتجاه، والعجز عن ملاحظة أهمية الظاهرة الجهادية الحالية. صحيح أن بعض المثقفين يستخف بالظاهرة قصدا، لكن كثيرا منهم لا يدرك أهميتها، ولا أهمية تحدياتها.

(٣) هذا جهد ذهني فردي، وأنا على يقين أن لو كان الاهتمام بالظاهرة جماعيا، لأمكن رصد تفاصيل أكثر، وتحديات أخرى لم ترد في هذا المقال. 

(٤) لم أطّلع حتى الآن على نقاش جاد، أو مناظرة علمية رصينة، بين رموز التيار الجهادي المعتبرين وبين مخالفيهم، ومع الأسف يحفل الميدان بنقاشات ومناظرات، بين غير المؤهلين من الطرفين.

(٥) كانت ظاهرة تصدي المفكرين للقيادة موجودة في نشأة التيارات السلمية، مثل "حسن البنا" مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، و "تقي الدين النبهاني" مؤسس حزب التحرير، ولكن لم يستمر الوضع هكذا.

(٦) الشبكة العنكبوتية مليئة بكلام مبعثر لشخصيات محسوبة على التيار الجهادي، بعضها حقيقي، وبعضها وهمي، وفيها من الفكر الفوضوي ما لا يحتاج للرد عليه أصلا، لكن بعض المثقفين يجدون متعة في اعتبارها تمثل المشروع الجهادي، حتى تسهل مهمتهم.

(٧) كنمودج لذلك، تدفق آلاف الجهاديين لسوريا من عدة دول عربية، بعد أن غلب على الظن أنهم قد أفل نجمهم.

(٨) راجع مقالنا "ما الذي يستهوي الشباب في تنظيم دولة العراق والشام".إضغط هنا.

(٩) يلاحظ ذلك بشكل بارز في طريقة حديث الشباب في التسجيلات المنتشرة باليوتيوب.

(١٠) كنموذج في فهم الأحداث، في حوار مع الفيلسوف الألماني "هبرماس"، رفض مقارنة أحداث سبتمبر بضرب اليابانيين لبيرل هاربر، بل أصر على أنه مواز لانطلاق الحرب العالمية الأولى (الحوار باللغة الانجليزية) .

(١١) مفهوم العمل بطريقة التيار الحركي بدلا من حزب مغلق، لجأت إليه كثير من المؤسسات السياسية الأوربية حديثا، بعد أن تبين أنه أنجع في كسب الأصوات والوصول للجماهير. 

(١٢) يعرّف الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر المثقف بأنه "الذي يساهم في التغيير".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق