الأربعاء، 18 سبتمبر 2013

تسويق المركزية الأوربية

المركزية الأوربية تعني الإحتكام الدائم في شؤون الثقافة والقيم للثقافة الأوربية الغربية ومعها أمريكا ، أو هي بمعنى آخر جعل قيم أوربا هي المحك على كل ممارسة ثقافية معينة ، سواءً بوعي أو بدون وعي ، فالغرب يمارس المركزية الأوربية بوعي وإدراك في جميع علاقاته مع الأخرين خارج منظومة الدول الغربية ، فأول من صعد إلى قمة إفريست مثلاً غربي ، ونهر النيل ينبع من بحيرة ذات إسم غربي ، والمناطق تسمى بالنسبة لموقعها من أوروبا الغربية ، والتاريخ يُقسم بناءاً على رؤية أوروبا له ، فمسمى القرون الوسطى يعادل عندنا عصور النور والسيطرة العالمية .
والغرب عموماً لا يمكن أن يتخلى عن هذه الفكرة ، مهما إدعى من التسامح وتقبل الآخر ، فالسياسات الغربية يضعها الساسة وأصحاب النفوذ المالي ، لا الحكماء والمتسامحين من الفلاسفة ، وما صراع الحضارات ونهاية التاريخ وتمرير القوانين في المحاكم الفرنسية الممجدة للإستعمار إلا صور بسيطة وأمثلة واضحة عن تغلغل هذه الفكرة في الوعي الغربي حد المسلمات .
هذا موقف أوروبا وطريقة تعاملها مع الأمر عموماً ، ومستوى ترسخ هذه المركزية في الوعي الإنساني العالمي عن طريق الإعلام والتأثير على التعليم ومحاكاة الأقوى ، تجعل من التعديل الكلي أمراً صعباً يصل إلى حد الإستحالة عند البعض ، لكن ذلك لا يعفي المثقف والمهتم من تبعات هذا التعديل خصوصاً في النقاشات الفكرية بين العرب أنفسهم أو بين العرب والأخرين .
فخطورة مثل هذه المركزية على المتلقي عندما تمرر دائماً بأقلام رصينة ومتزنة أخطر من تمريرها عليه بأقلام قد يشك في صدقها معه ، فمثلاً في باب الثقافة يطرح سن الزواج للنساء وفق المركزية الأوربية التي تحدد سن الطفل بثمانية عشر عام ، وفي باب القيم تطرح علاقة الرجل بالمرأة وفق هذه المركزية ، وكأن الثقافة العربية الإسلامية بحاجة أصلاً لمنظومة من الأخلاق أو السلوك ، بل إنها من الخطر بمكان أنها تجعل الموقف العربي والشرقي عموماً في مكان الدفاع دائماً لتبرير قيمه وثقافته وأنها متسقه مع القيم والثقافة الأوروبية !!
ومن التسويق غير الواعي للمركزية الأوروبية عند فئة من المثقفين قد لا تكون كبيرة ، ولكنها مؤثره ، استسقاء الأفكار من فلاسفة الغرب فقط وتنزيههم عن الخطأ ، وعند طرح إسم شرقي إسلامي يتم التهكم بالطارح ، من قبيل أن الشرق لم ينجب من يستحق أن يؤخذ بكلامه في الفكر والثقافة عموماً ، ولو رجع هذا المثقف لنفسه قليلاً ، وقرأ في أي علم تقريباً لوجد من العلماء الشرقيين من يصادم بأفكاره جهابذة الفكر الأوروبي ، ولا يعذر صاحب قلمٍ إن عذرنا القارئ .

إن أردنا حواراً حقيقاً مع الغرب فيجب أن نتفق على مجالات الحوار وأسسه ، لا أن ننساق وراء الرؤية الغربية والقيم الأوروبية ونجعلها المتحكم والثابت وغيرها هو المتحول سواءً في نقاشاتنا البينية أو نقاشاتنا مع الآخرين . 

الاثنين، 16 سبتمبر 2013

الثالوث المقدس


تتركز السياسة السعودية على ثلاثة ركائز أساسية ، أهمها كرسي الحكم والآخران عقدان أبرما مع بداية تأسيس الدولة الحديثة ، الأول العقد الداخلي وأساسه الإتفاق الشهير بين الإمام محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبدالوهاب وهو النواة الفكرية للدولة الحديثة ، والعقد الثاني خارجي بين الملك عبدالعزيز وروزفلت وهو اتفاق حمايةٍ مقابل ضمان المصالح ، ما عدا ذلك هي مجرد مؤثرات وليست ركائز بمعنى أنها تتغير بتغير الظروف الداخلية والخارجية .
المهم في كل ذلك العقد الداخلي ، ففكرة الحركة الوهابية عن الدولة ، تعتبر فكرة سطحية ، لخوائها المعرفي والسياسي ، فلا تجد من الدارسين في كل الكليات الشرعية من استفاد من الحركة كمعرفة ، بل كل ما يتم تعليمه يأتي من الخارج ، فمثلاً كلية الشريعة في الرياض ، درست فيها البكالوريوس ولم يفرض كتاب واحد من علماء الدعوة إلا ما كان عن مادة الفرائض للشيخ صالح الفوزان حفظه الله ، والباقي خارج الدعوة ، بل قبل تأسيسها ، حتى العقيدة ، تجدها الطحاوية والتدمرية ، فكتاب التوحيد أساس الحركة النجدية لا يدرس .
إلى هنا والأمر واضح وسهل ، وتتمثل الرؤية السياسية متماهيةً مع الدينية بلا خلل كبير أو إختلال علاقة ، فالديني يعي الركيزة الأولى ويعلم أن العقدين الأخرين ضروريين معه ، لا يمكن تجاوز أحدهما ، أو إسقاطها ، وللمعلومية فالسياسي يسمح ببعض الحرية النقدية داخل هذا الثالوث ، فتجد التنفيس في بعض قصص الإحتساب هنا أو هناك ، ثم اعتقال المحتسب وتسويق الإعتقال إعلامياً ، ومن ثم إطلاق سراحه ، كرسالة من السياسي للمجتمع أن العقد الداخلي محترم ومقدس عنده ، والإطالة في هذا الباب لا داعي لها ، كونها من المعلومات الأولية ولا تحتاج لتأملٍ كبير .
وكل الجماعات التي ظهرت لتقويض هذا الثالوث ، قتلت في مهدها ، فمن جماعة جيهمان ، إلى تنظيم القاعدة ، إلى دعوات الإصلاح الديني والسياسي ضعيفة البنية والتركيب ، والتي كانت العدو المفضل للسياسي ، فهي ضعيفه ولا تمتلك حاضنة إجتماعية حقيقية يعول عليها في أي صراع .
جماعة الإخوان المسلمين خالفت كل الأعداء المفترضين أو الذين فرضوا كأعداء ، فمن جانبٍ هي جماعة منظمة تتبع تسلسلاً هرمياً ، ولها بعد اجتماعي كبير وملاحظ ، وهي غنية معرفياً بالمقارنة مع الحركة النجدية ، بل تتميز عليها بطرح مشاريع سياسية حقيقية ، ذات بعد إسلامي مؤصل بشكل من الأشكال .
مثل هذه الجماعة الأصولية ، قبل أن تكون عدواً محتملاً للأنظمة الحاكمة في المنطقة ، هي عدو حقيقي للغرب ، الذي يعي ويعلم مدى خطورة تحديث الأصولية وهو ما تطرقت له سابقاً في موضوع الأصولية المحرمة ، ولن تترك هذه الجماعة في أي مكان تطاله يد الأنظمة الحاكمة ، التي تستمد قوتها من تماهي المصالح مع الغرب .
للفائدة والإطلاع موضعين كتبتهما الأول عن الأصولية المحرمة والثاني عن علاقة الإخوان بالمملكة .

الثلاثاء، 10 سبتمبر 2013

قانون الدجاج


لاحظ علماء النفس أن الدجاج الذي يعيش في مجموعة ، توجد بينه دجاجة تنقر جميع الدجاجات الأخريات ، ولكنها لا تُنقر من أي دجاجة أخرى ، وفي المقابل هناك دجاجة تنقرها جميع الدجاجات ، ولا تَنقر أي دجاجة أخرى ، وجميع الدجاج يعيش في تسلسل هرمي يبدأ من الثانية من أسفل الهرم التي لا تَنقر إلا دجاجة واحدة ، إلى أعلى الهرم حيث الدجاجة التي لا ينقرها إلا الدجاجة الزعيمة ، وفق هذه الملاحظة خلص علماء النفس إلى وجود قانون في كل مجموعة يحدد أهمية الفرد داخل المجموعة ، واتفقوا على تسميته ( قانون النقر ) .
العادة أن مثل هذا القانون في حياة الأفراد داخل المجموعات لا يكون مكتوباً ، بل مفهوماً ومعروفاً سلفاً ، ومحترماً ، كحال الدجاجات ، وأي تجاوز لهذه التراتبية غير المعلنة يعرض صاحبها للعقاب .
قبل أيام ظهر خبر في تويتر ، أن وزارة العدل ستقوم بمراقبة تغريدات المحامين ، وقبلها بفترة تمت محاكمة أحد القضاة بسبب تغريدات كتبها في تويتر ، إلى هنا والأمر معروف لدى الجميع ، لكن ما يدعو للتساؤل هو استنكار الناس قيام وزارة من الطبقة الثانية أو الثالثة بين الوزارات بالرقابة ، متناسين أن الرقابة والمراقبة أصل من أصول المجتمع عندنا ، تمارسها الوزارات والأجهزة الحكومية على بعضها وعلى المواطن ، فالدجاجة أعلى الهرم هي وزارة الداخلية بجهازها سيء الصيت ( المباحث العامة ) والذي يراقب كل شيء حتى منسوبيه ، فلا أحد فوق الرقابة والجميع متهم ، ونزولاً للوزارت من الصف الثاني ، نجد وزارة المالية تراقب الحسابات ، ووزارة الشؤون القروية والبلدية تراقب بناة الملاحق في السطوح ليُسكن فيها أحد أبناءه .
لماذا يُستنكر على وزارة العدل وهي ترى نفسها حامية النظام والقانون ، أن تقوم بما تقوم به وزارات أقل شأناً منها ، ألا يحق لوزارة العدل أن تمارس الرقابة على المحامين والقضاة ، فالرقابة أصلاً مقبولةٌ ضمناً ، وتشكل قانوناً صامتاً متعارفاً عليه ، لم ينكره أحد على غيرها ، فلماذا ينكر عليها هي ، لم تخرق السلم الاجتماعي ولم تأتِ ببدعة جديدة للبلد ، كل ما فعلته أنها تريد الترقي في السلم الهرمي للدجاجات ، لتصل لمستوى الدجاجة التي لا ينقرها إلا وزارة الداخلية ( الدجاجة الرئيسة ) .
بقي أن أنوه هنا ، أن الدجاجة أسفل الهرم التسلسلي هو المواطن ، فجميع القوانين الثقافية تمارس عليه بحذافيرها ، وهو الأضعف والأقل شأناً داخل المجموعة ، وعليه تقبل نقر الدجاجات كلها ، فمن وزارة الداخلية إلى التاجر إلى من يملك شقتين يؤجر إحداهما ويسكن زوجته الثانية في الأخرى ، الجميع يحق له نقر المواطن في جميع أجزاء جسمه ، والجميع يحق لهم نتف ريش المواطن ، وعمل مخدات للدجاج الأعلى مستوى في السلم الهرمي الدجاجي ..

الخميس، 5 سبتمبر 2013

تسطيح النقد


يحتل النقد كفن من الفنون المكانة العالية عند المهتمين و المختصين ، و هو حين يتناول الأدب أو الفن أو المسرح ، أو أحد المجالات ذات الإبداع الفني ، يجد له مكانة محترمة و مقدرة عند أصحاب الفن نفسه ، أو من قبل متابعيه و محبيه ، إلا أنه حين يتناول الجوانب الإجتماعية ، و السياسية ، و الإقتصادية الكلية ، تجد فيه تسطيحًا غريبًا ، و محاولات غير مفهومة لتحليل الإشكاليات ، و حصر الخلل في نقطة واحدة ، مغفلاً باقي النقاط التي قد لا تقل أهمية عنها .
فمثلاً موضوع تخلف العرب حالياً تجد ثلاثة أصناف من نقاد التسطيح ، و هم كالتالي :
الصنف الأول : من يرجعون التخلف إلى العقل العربي نفسه ، و يكتب و يطيل الحديث عن مراحل تكوينه ، عناصر تركيبه ، وا المفاصل المؤثرة ، و هكذا دواليك ، ثم يصل إلى نتيجة يدعمها بكلام بن خلدون في المقدمة ، من أن العرب ليسوا أهل حضارة ، و أي بلدٍ ملكوه أسرع له الخراب !.
الصنف الثاني : متطرفوا الليبرالية المسخ ، الذين يُرجعون كل التخلف للدين الإسلامي وحده ، وكل ما عداه متعلق فيه .
الصنف الثالث : متطرفوا الوعظ ، و هم من يرجعون التخلف كله إلى فسق الناس و معاصيهم ، و ما إلى ذلك من الخطاب الطوبائي ( المثالي ) الوعظي المعروف .
والحق يقال أن الأصناف الثلاثة لا يستخدمون سوى الاستنباط عند البحث عن الحلول ، على طريقة الإغريق ، و منهج أرسطو ، وإن ادعوا غير ذلك .
الشأن الإجتماعي ليس مجالاً محدداً بحقل واحد فقط لا يمكن تجاوزه ، بل هو مجموعة من المؤثرات تتظافر بعضها مع بعض ، ثم تحدث التغيير الاجتماعي الملحوظ للناقد ، و بالرجوع للمثال ؛ نقول أن التخلف العربي ليس وليد العقل العربي لوحده كما قال أهل الصنف الأول ، ذلك ( العقل ) الذي كانت عاصمته دمشق وحدود دولته جبال البرانس والصين في أعظم إمبراطورية في تلك الأيام ، وحملهم لكلام بن خلدون في جانب الذم ، مع إغفال جانب المدح ، حمل تعسفي لا يليق ، فابن خلدون لم يكن سوى راصد بالإستقراء فقط ، فلم يضع نفسه ناقداً للعرب في مقدمته ، بل كان باحثاً عن كيفية حياة المجتمعات البشرية بالملاحظة والإستقراء .
والصنف الثاني ، إن أردنا أن نبرر لهم الخطأ بحمله على محمل حسن النية ، نقول أن المبادئ ليست بتطبيقات أفرادها تنقد ، فالخطأ الذي يقع فيه المسلمون من فهمهم للدين ليس هو ذات الدين ، على أن حسن النية معهم ، قد يحمل عند البعض على الغفلة والجهالة .
والصنف الثالث ، من جعلوا سبب التخلف هو ترك الأعمال الصالحة ، فيقال لهم قد حجرتم واسعاً ، فجانب الأعمال الصالحة ليس في السلوكيات فقط والعبادات المحضة ، فقد دخل رجل الجنة بسبب كلبٍ سقاه الماء ، والحصر بهذه الطريقة هو جانب مأخوذ من التصوف الذي تدعمه الملوك وتحبه ، إن لم يكن هو الإرجاء المعروف .

الثلاثاء، 3 سبتمبر 2013

مستويات الثقافة


تعرف الثقافة بأنها مجموعة من الاتجاهات المشتركة ، والقيم والأهداف والممارسات التي تميز مؤسسة أو منظمة أو جماعة ما .
هذا التعريف المختار من عدة تعاريف لمصطلح الثقافة ، وهي بهذا التعريف تعادل ما يسمى الشق الروحي عند البعض للثقافة ، بما أن الحضارة هي الشق المادي ، ولا خلاف في التقسيمات إن كان المراد واحداً .
وللثقافة من هذا التعريف ثلاث مستويات مهمة جداً :
أـ أولي أو بدائي ( وهو ما يتحدد بالدين أو العرق أو اللغة ) بدرجات متفاوتة قد يطغى بعضها على بعض .
ب ـ التعايشي أو المشترك أو العرف السائد وهو ما يؤلف من المستوى الأول في الأعم الأغلب ينتج بالتواطؤ الضمني بين أفراد الثقافات .
ج ـ الوجه الثقافي الرسمي وهي الصبغة الغالبة ظاهرياً ، وتتمثل بتوجه الفئة الغالبة وهي رغم طغيانها لا تعتبر قوية ومتماسكة عند أي محك حقيقي .
بضرب المثال يتضح المقال :
في أزمة الخليج الثانية إبان غزو العراق للكويت ، مدينة الرياض كعاصمة أصبحت خاوية على عروشها ، و بيع العقار بأسعار متدنية جداً ، وارتفع الإقبال للسكن في القرى مسقط الرأس للعوائل والأسر ، حتى اكتظت بهم ، وزادت مناطق بأهلها الراجعين لها من بعد الغياب ، إن كانوا سعوديين أو كويتين .
لم يدعم الناس توجه الحكومة بأن الرياض هي العاصمة ، وأنها قلب البلد النابض والإنتماء لها ، بل ظهر المستوى الأولي وطغى رغم اختفائه ظاهرياً أو شكلياً في القنوات الرسمية من التعبير ، فالجميع في وطن واحد عاصمته الرياض ، فأصبح الجميع كلٌ في منطقته وقبيلته وهكذا .
وهذا الوجه الثقافي الرسمي ما يسميه هربرت ماركوز مجازاً بالمجتمع أحادي البُعد ، ويعزو ذلك لرفض هذا المجتمع أي محاولة لمناهضته ، بتلبية حاجات الناس ورفع مستوى حياتهم .
في الثورات العربية ، عندما اختفت الأنظمة الحاكمة من تمثيل الوجه الرسمي ، وظهرت بغيابها ثقافات المستوى الأولي ، والتي ما زالت تتطغى ، يظهر تغولها من خلال عدم قدرتها على التعايش ( المستوى الثاني ) الذي فرض الإنضباط بقوة الدولة ، ذات الثقافة الممقوتة أصلاً من شعوبها .
ما يجب الإنتباه له دائماً ، أن الثقافة الرسمية ظهرت من مستوى أولى ، وطغت على باقي الثقافات حتى سيطرت عليها ، وأصبحت هي الواجهة الرسمية ، فلا يوجد ثقافة رسمية جاءت من فراغ ، وهو ما يحاول الكثير من المثقفين تحييده مع الأسف ، فتجده يرفض مبدأ عصبية الدولة الخلدونية بناءاً على فهم خاطئ لمصطلح هذه العصبية وربطه فقط بالقبيلة دون غيرها ، ولا يعلم أن العصبية هي الرابط الثقافي المتفق عليه بين أقوى الفئات حتى فرضت رأيها على الباقين .

الأحد، 1 سبتمبر 2013

الردع الاجتماعي


بعض الطلاب المغتربين في ألمانيا الإتحادية ، ساقتهم الصدفة لمجاورة عجوز ألمانية يبدو عليها العوز والحاجة ، فبروها بلطفهم وعاملوها معاملة الصديق المحتاج أو الجار للجار ، ومن النظام المعهود في تلك المدينة ، أن حاويات القمامة يتم وضعها بطريقة مرتبة للمخلفات ، فعلب الألمنيوم في حاوية ، وعلب البلاستيك في حاوية ، وما يمكن الاستفادة منها في حاوية وهكذا ، في أحد الأيام خرج أحدهم بالقمامة ووضعها كلها بلا عزل في حاوية واحدة ، إلى هنا والقصة طبيعية نوعاً ما ..
تفاجأ المبتعثون بالشرطة المحلية تطرق عليهم الباب وتستجوبهم ، ثم تعطيهم موعداً للمحكمة لعرض قضيتهم على القاضي والمتمثلة في وضعهم القمامة في حاوية واحدة ، تساءل الطلاب عن من أبلغ عنهم فأخبرتهم الشرطة أن العجوز الألمانية قامت برفع دعوى عليهم ..
سألوها بعد أن انتهوا من قضيتهم ما السبب الداعي للشكوى ، ونحن نعتبر أنفسنا محسنين لك ، وفي أقل الأحوال من الأصدقاء المخلصين ..
فقالت لهم لا أنكر حقيقة حبي لكم لإحسانكم لي ولكني أحب ألمانيا أكثر منكم لأنها أكثر من أحسن لي !!!
هذا ما يمكن تسميته بالردع الإجتماعي ، فالمجتمع يفرض تطبيق قوانينه على الجميع ، والرقابة حقوقية ذاتية قائمة من حق الجميع بتطبيق القانون المفروض على الجميع بلا استثناء .
مثل هذا المفهوم كان موجوداً عندنا وقد لا يكون على مستوى تطبيق القوانين لغياب التقنين القضائي ، ولكن على مستوى احترام قيود المجتمع وأعرافه ، والسائد والمألوف من القوانين والأنظمة المفهومة من التشريع كلٌ على قدر طاقته وفهمه ، وهي وإن اعتراها الخلل في مكامن كثيرة وقد تستغل بشكل غير صحيح إلا أنها كانت رادعة وتعمل عمل الرقابة الذاتية على أفراد المجتمع ، ولا أدل على ذلك مما يسميه أهل نجد ( العد ) وهو تحضير المصلين في صلاة الفجر ..
ممن ساهم وبقوة في غياب هذا المفهوم ودخوله في دائرة الفضول والتطفل ، مع الوقت طبعاً وبالتدرج المعروف اجتماعياً جهاز الأمن العام وجهاز هيئة الأمر بالمعروف ..
الأمن العام بتقييده لأي شخص ، يسعف مصاباً حتى يفيق المصاب ويخبر أن المسعف ليس من تسبب بإصابته ، وهذه الإشكالية معروفة لمن عاش في فترة التسعينات كمراهق أو رجل راشد ..
هيئة الأمر بالمعروف لم تقم بنفس العمل طبعاً وإنما بإدراج الإحتساب تحت مظلتها فقط وليس غيرها ، مما أعطى الناس مع عوامل أخرى أن الاحتساب والإنكار من غير منسوبي الهيئة هو تدخل وفضول في شوؤن الآخرين قد يولد إشكاليات ونزاعات خطيرة ..
قال الله تعالى :
( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) ..