الأحد، 29 يونيو 2014

تحدي العلمانية


لم تبق دولة في العالم من أمريكا الشمالية إلى الجنوبية إلى أوربا وأفريقيا والصين والهند وروسيا واليابان وكوريا وبقية آسيا إلا وهي محكومة سياسة واقتصادًا وقانونًا بمرجعية علمانية، حتى لو لم تنص على ذلك[1]. وكثير من الذين يتصدون للمشروع العلماني يظنون أنهم يتعاملون مع ظاهرة فكرية عارضة تحمّس لها بعض المفكرين والمثقفين والفلاسفة، غير مدركين أنها منظومة شاملة متكاملة تهيمن على كل قطر، بل على النظام العالمي وتعطيه المرجعية في كل شيء.

العلمانية في وضعها الحالي ليست فكرة تبنّاها شخص أو خدمتها جماعة أو دولة، بل هي تراكم ضخم لجهود بشرية فكرية وعملية، تشكّلت على مدى مئات السنين وانتهت بالشكل الدارج حاليًا والذي فرض نفسه كمرجعية عالمية. هذا الناتج التراكمي الضخم يجعلها أكبر تحدٍ يواجه المشروع الإسلامي منذ انطلاقة الإسلام الأولى، بما يتفوق بكثير على الحملات الصليبية والغزو المغولي[2].


كيف ولماذا هيمنت العلمانية؟


لا يمكن التعامل مع هذا التحدي الضخم والمتمكّن والمسيطر بالتسطيح ولا بالاختزال، بل لا بدّ من رؤية عميقة ونظر فاحص لأسباب الهيمنة والتمكين. وإذا تجردنا في البحث فربما ننتهي إلى الأسباب التالية:


أولًا: المشروع العلماني يوفّر وعاءً واسعًا وطرحًا مشبِعًا وعمليًّا لمتطلبات الأركان الثلاثة في قيام الدول، وهي السياسة والاقتصاد والقانون، قابلًا للتبني كـ”نمط” أساسي للشعوب في مرجعيتها. وهذه النمطية هي التي جعلت العلمانية أساسًا ومرجعية لمعظم دول العالم، حتى تلك التي نصت في دساتيرها بأن “دين الدولة الرسمي هو الإسلام”. ربما تكون هذه النمطية مفروضة على دول شعوبها مسلمة ملتزمة، لكن الغالبية العظمى من الدول تتبنى العلمانية بشكل تلقائي حتى لو كان كلُّ سكّانها من ديانة واحدة بوذية أو هندوسية أو نصرانية.


ثانيًا: تمكّنت العلمانية بعد تراكم التجربة البشرية “العلمية” من إيجاد تفسير لكلّ ما كان يعتقد أن لا يفسره إلا الدين. الظواهر الكونية مثلًا تُفسّر بالقوانين الطبيعية التي وصفها علماء الطبيعية وفي مقدمتهم نيوتن، وما دام يمكن تفسير حركة الأجرام واحتراق الشمس وسطوع الضوء وسواد الظلام تفسيرًا ماديًّا، فلا حاجة للإله لتسيير الكون. أما أصل الحياة، ففُسر بنظرية داروين التي تحولت إلى أساس منهج علم الحيوان، ومنه إلى تدخلها في العلوم الاجتماعية عبر ما يسمّى الداروينية الاجتماعية، لا كما يعتقد البعض أنّها مجرد نظرية تنتظر الإثبات. وظاهرة المشاعر التي كان يعتقد أنها روحية بحتة تم ربطها بالدماغ والغرائز في علم النفس الحديث، فصار تفسيرها ماديًّا لا يحتاج لتفسير روحي أو ديني. وبقدر ما يستهجن المسلمون هذه التفسيرات العلمانية بسبب تماسك البديل الإسلامي، فإن تراث الديانات الأخرى لا يصمد أمام الطرح العلماني، بل يبدو متخلفًا مضحكًا.


ثالثًا: سهولة المشروع العلماني المتناهية في حل المشاكل العملية للبشر في تشكيلتهم الجماعية؛ فهو قائم على مفهوم غاية في البساطة والجاذبية، وهو انعدام الثوابت وغياب المحرمات. وكثير من المروجين للعلمانية لا يدركون أنه لا يوجد في العلمانية إلا ثابت واحد هو اللذة على مستوى الفرد والذي إذا تُرجم على مستوى الجماعة يتحول إلى منفعة الجماعة. غياب المحرمات فائق الجاذبية للبشر؛ لأنهم يحبون المتعة المطلقة ولا يريدون لمحرمات الأديان أن تتحول إلى قوانين ملزمة. أما انعدام الثوابت، فيعطي أقصى مساحات المرونة للمشروع العلماني ويجعله متفوقًا في الواقعية والقابلية للتطبيق.


رابعًا: مواءمة المشروع العلماني للدولة القُطرية الحديثة لأنّه الأنسب للمظلّة الوطنية التي تهيمن على الأديان والأعراق ويفترض أن تتعامل معها بالتساوي بسبب إلغاء أي مرجعية غير اللذة والمصلحة. وحتى ما يقع من تغليب دين معين أو عرق معين في بعض الدول، فهو إما استثناء أو هو نتيجة طبيعية لغياب الثوابت في المشروع العلماني حين تتسلّط قوة على أخرى. هذه الموائمة بقدر ما خدمت نظام الدولة القُطرية وجعلتها مشروعًا ناجحًا وعمليًّا، فقد كانت خدمة متبادلة؛ لأن استقرار مجموعة الدول القطرية أعطى العلمانية المزيدَ من المرجعية والتنميط العالمي وجعلها طرحًا لا بديل له.


خامسًا: ارتبطت العلمانية في نموذجها الأخير بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، فأعطاها جاذبية إضافية كونها حققت درجة عالية من الحرية والعدالة واحترام كرامة الإنسان واحترام خصوصيته وأملاكه. هذا الارتباط هو ما استقر عليه الطرح العلماني الأخير بعد أن مرّ بمراحل الإمبريالية والعنصرية والفاشية. ويظنّ الكثير من البشر أن العلمانية مرتبطة بهذه القيم الجذابة ارتباطًا بُنيويًّا، مما أعطى مزيدًا من الدعم لنمطية العلمانية وجعلها فكرة إنسانية ملؤها العدل والحرية. والذاكرة البشرية لديها الاستعداد لتناسي عنصرية النازية وقمع الفاشية ودكتاتورية الشيوعية رغم أنها نماذج أخرى للعلمانية. وقد وقع مفكرون كبار في هذا الفخ مثل فرانسيس فوكوياما وأسّس نظريته -”نهاية التاريخ”- عليها باعتبارها الشكل النهائي للإبداع البشري الذي لا رجعة فيه للوراء[3].

سادسًا: تزامن صعود العلمانية مع انتعاش التقنية والإبداع العلمي، ممّا أعطى انطباعًا بأنّ العلمانية هي الحاضنة المناسبة لهذا الإبداع، وأنّ هيمنة الأديان سابقًا هي التي منعت ذلك. والوجدان العالمي مشحونٌ بالحقد على الكنيسة وحربها على الإبداع، ولا يكاد الدين يذكر إلا ويذكر معه معاناة كوبرنيكوس وغاليلو. ولا يستغرب أن ينسب تطور العلوم في الفلك والفيزياء والطب والهندسة، ثم انبعاث الثورة الصناعية ثم تقنية الحاسب الآلي والاتصالات، لا يستغرب أن ينسب إلى التحوّل من هيمنة الدين إلى العلمنة.


سابعًا: تزامن صعود العلمانية مع الإبداع الإداري والتنظيمي، بعد التخلص من العلاقة البنيوية بين الكنيسة والملك، والتي كانت قد جعلت كلّ الشعب والدولة رهينة هيكل إداريّ جامد هو نتاج هذه العلاقة الساذجة… وانعدام الثوابت وتغليب المصالح فتحَ المجال لأكبر عملية إبداع إداري في التاريخ، أنتجت لنا مؤسسات معقّدة غاية في الكفاءة والإنتاج، ما كانت لتتأسس لو بقيت الشعوب تحت مظلة الكنيسة أو المعبد.

ثامنًا: أدّت الهيمنة العالمية للعلمانية، وارتباطها بسلسلة الدول القُطرية، إلى أن تتعدّى مرجعيتها القطر الواحد إلى مرجعية عالمية، لها مبادئُها ومؤسساتها العالمية من الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية… إلخ. هذه المبادئ والمؤسسات الدولية رفعت الهيمنة إلى أعلى مستوى في تاريخ البشرية، وأعطتها سلطة وشرعية عالمية لم يعرفها البشر من قبل.

لمَنْ الملك اليوم؟


هذه الأسباب وغيرها جعلت العلمانية تبدو كما لو كانت قوة مطلقة غير قابلة للمنافسة من قبل الأديان في الكرة الأرضية. والحقيقة لا يوجد دين -غير الإسلام- يستطيع أن يكافئ العلمانية لا قُطريًّا ولا عالميًّا، بل كل أصحاب الأديان راضون أن يعيشوا تحت كنف العلمانية، وربما استفادوا من العلمانية في قمع الأديان الأخرى، دون أن يجعلوا ديانتهم مرجعًا سياسيًّا. وما يغيب عن البعض، أنّ دولة مثل إسرائيل دولة علمانية، حتى لو كان الدين مبررًا وظيفيًّا في تأسيسها. ولذلك، فمن المفارقات أن كلّ أعضاء المجلس التأسيسي للمؤتمر الصهيوني علمانيون، والصهاينة في إسرائيل من أقل الإسرائيليين تديُّنًا، وقلنسوة الكيبا التي يعتبرونها رمزًا وظيفيًّا وليست من باب التدين [4].

الإسلام يتحدى


الإسلام قصته مختلفة؛ لأنه يواجه العلمانية بنفس أسباب تفوقها، وهي شمول الهيمنة وشمول المرجعية والمرونة والواقعية، وليس غريبًا -والحال هذه- أن تكون المواجهة بين الإسلام والعلمانية حتمية، بل ليس غريبًا أن تتعدد أشكال المواجهة.

الإسلام واجه العلمانية ثقافيًّا في جدل ضخم متعدّد الصور والمستويات والوسائط، في حوار فكري مقروء ومسموع ومشاهد، وصراع اجتماعي بالتنافس على التشكيلات الاجتماعية والمؤسسات المدنية، وواجهها سياسيًّا على المستوى القُطري في صراعات سلمية ومسلحة أخذت أشكالًا كثيرة، وواجهها كونيًّا في صراع عالميّ كان الربيع العربي والحرب المزعومة على الإرهاب من ميادينه. ويمكن أن يستشرف أيّ راصد للأحداث أن الإسلام سيدخل في صدام سياسي وعسكري شامل مع النظام العالمي كله.


من يتفوق؟

الإسلام حين يكافئ العلمانية بالهيمنة والشمول والواقعية، ويخلو من مشاكل الأديان الأخرى؛ فإنه بالتأكيد يتفوق على العلمانية بكثير مما ليس فيها: يتفوق الإسلام بوضوح الثوابت ودقة المرجعية (النص) ممّا يعطي هذه الثوابت حصانة من التبديل أو التغيير أو التلاعب. أما العلمانية، فبسبب غياب ثوابتها، لن يكون غريبًا أن تعود إلى عهد العنصرية والفاشية والإمبريالية، إذا دعا أيّ داع لذلك مثلما حصل في صعود النازية. أما الإسلام، فثوابته محددة بالكتاب والسنة ولا يستطيع أحد أن يغيرها، وكل محاولات التزوير في تفسيرها تنهار أمام تماسك هذه النصوص.

يتفوق الإسلام بالأخلاق والفضيلة المعتمدة على تلك الثوابت. فالعلمانية يمكن أن تصدر قوانين فيها ممنوعات وواجبات، لكنها لا يمكن أن تصنع فضيلة أو تروج لأخلاق وقيم إنسانية. والقيم التي ظهرت مع “النسخة” الأخيرة من العلمانية مثل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، هي أولًا تطوّر عارض سيزول مع المرحلة القادمة من العلمانية؛ وثانيًا ليست مرتبطة بضمير ووجدان بشري، بل هي معانٍ مصلحية لمنع الضرر بين البشر قد قيست قياسًا ماديًّا بحتًا.


يتفوق الإسلام في “الانتماء”؛ لأن العلمانية ليس فيها هُويّة مطلقًا، والانتماء تحت مظلة العلمانية متروك للوطن أو للقومية، بينما الهُوية في الإسلام انتماء له ذاته. ومثلما يتفوق الإسلام في أصل الانتماء، فإنه يتفوق في قوة الانتماء، مقابل انتماءات الوطنية والقومية التي يستحيل أن تكافئ انتماء المسلم المثقل بالاستعلاء والثقة بالصواب المطلق، والمرتبط بالتبعية لكل طريق الأنبياء من آدم إلى محمد -عليهم الصلاة والسلام-.

ويتفوق الإسلام بقوة الجانب الروحي المنسجم مع النفس البشرية، والمنزّه من رهبنة الأديان الأخرى وخرافاتها. العلمانية سعت لتعويض الجانب الروحي بالموسيقى والفنون، وذهبت إلى أبعد من ذلك بترك أصحاب الأديان يمارسون عباداتهم الفردية؛ لكن غياب البعد الروحي جعل العلمانية جافّة عديمة الطعم واللون والرائحة، ولذلك انتشرت رياضة اليوجا في المجتمعات العلمانية، في نسختها الحلولية التي تنسجم تمامًا مع المفهوم العلماني المؤلِّه للإنسان.


ويتفوق الإسلام في قضية خطيرة جدًّا، وهي أنّ الدفاع عنه ونشره وتمكينه واجب دينيّ، سواء بالحوار والدعوة أو بالقتال والسلاح. ونصوص الدين تَعتبر السعي لهيمنة الإسلام على كل الأديان والأفكار واجبًا لا يجوز التقصير عنه. صحيح أن العلمانية تحظى بدفاع تلقائيّ عن مؤسساتها، ونشر طبيعيّ لأفكارها؛ لكن لا يوجد إلزام يكافئ الإلزام في الإسلام بهذا الدفاع والنشر.


من هو الخصم؟

لا يستطيع أحد إلغاء العداوة التي أثبتها القرآن للديانات الأخرى، ولا إنكار كيد أهلها للمسلمين، لكن في هذه المرحلة من التاريخ لا يكافئ التحدي العلماني أي تحدٍّ، وكل الأديان قد ابتلعتها العلمانية رغم أنفها ووضعتها تحت كنفها. صحيح أن بعض الدول العلمانية فيها تأثير كبير على صاحب القرار من أغلبية ذلك الدين، أو اللوبيات النصرانية أو اليهودية أو البوذية أو الهندوسية؛ لكنّ الصراع الحضاري الكليّ صراع مع العلمانية وليس مع هذه الأديان. هذا فضلًا عن أن أغلب الدول العلمانية قد تخلّى معظم سكّانها عن التدين، ولم يبق إلا اسمه، بل تخلّى الكثير منهم حتى عن اسم الدين. ومن الطرائف، أن عدد المسلمين الذين يصلّون في المساجد في أوربا أكثر من الذين يذهبون للكنائس.


والمبالغة في تضخيم دور المسيحية في هذا الصراع يخلخل فهم طبيعة المواجهة ويربك الصورة ويخلط الأوراق. وفي هذا السياق، لم يفهم كثير من الإسلاميين نظرة الدكتور المسيري -رحمه الله- في إن إنشاء إسرائيل؛ يعني هزيمة الخط الديني لليهود أمام خط الصهاينة الوظيفي العلماني[5]. وفي سياق مشابه، يعترض البعض بأن هنتنجتون أكّد على المواجهة الإسلامية المسيحية في طرحه لصدام الحضارات، وهذا صحيح، لكنه اعتبر المسيحية إرثًا تحت قبّة العلمانية وليس مواجهة من ذات المسيحية[6].

هذا لا يعني تجاهل دور الأديان ولا دور التراكمات التاريخية في الحقد على المسلمين والنظرة العنصرية لهم، لكن تبقى هذه الأمور إما كخلفية يُنظر لها في الاعتبار، أو كتفصيل يُضاف للقضية الأساسية؛ وهي التحدّي العلمانيّ.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] خارطة تبين الدول العلمانية في العالم هنا
[2] راجع كتاب (الإسلام والغرب الأمريكي بين إمكانية الحواروحتمية المواجهة) لمحمد إبراهيم مبروك..
[3] راجع كتيب: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) لفرانسيس فوكوياما.
[4] و [5] را: كتاب (العلمانية الشاملة والجزئية)، وكتاب (الصهيونية والنازية) للدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله-.
[6] صموئيل هنتنجتون في كتاب (صدام الحضارات).

مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير على هذا الرابط

الجمعة، 27 يونيو 2014

تغريدات عن بعض الأخطاء الأساسية التي تقدح في أصل منهجية التعبير عن الفكرة

من علامات تخلف المجتمعات، أن من يشار إليه بالبنان من المحسوبين على الثقافة والفكر، يرتكبون أخطاء أساسية تقدح في أصل منهجية التعبير عن الفكرة.

من هذه الأخطاء، العجز عن التفريق بين المعلومة المجردة كحقيقة من الحقائق (والتي ليست خاضعة للرأي)، وبين الفكرة أو وجهة النظر.

كثير من المحسوبين على الفكر والثقافة، لا يحسن السرد بطريقة تعزل المعلومة المجردة عن وجهة نظره أو وجهة نظر غيره، فيضيع القارئ أو السامع.

ومن هذه الأخطاء، ربط الموقف تجاه فكرة ما بالشخص الذي صدرت منه، فتكون نفس الفكرة مقبولة إذا صدرت من فلان، ومرفوضة تماما إن صدرت من آخر.

وبعضهم يضفي غطاءً شرعيا لهذا المسلك، على الرغم من أنه ضد المنهجية الإسلامية، فقد أقر القرآن قول ملكة سبأ الكافرة، وأقر عليه الصلاة والسلام نصيحة إبليس لأبي هريرة.

ومن هذه الأخطاء الإصرار على الحديث أو الكتابة عن قضية لم يستوعبها جيدا، ويبقى يلت ويعجن في كتابته أو حديثه مصرا على أنه هو المرجع فيها.

ولذلك يقال : إن عجزت أن تفهم ماذا يريد الكاتب أو المحاضر، فلا تستعجل باتهام نفسك بعدم التركيز، فعلى الأرجح أن الكاتب نفسه قد يكون غير مستوعب للفكرة.

وغالبا ما يكون سبب ذلك الثقة الزائدة بالنفس من قبل بعض المحسوبين على الفكر والثقافة، فيظن نفسه مرجعا في علم ما بسبب ما يتدفق عليه من الثناء النفاقي. 


هذه المظاهر وغيرها يصعب أن تجدها في مجتمع ناضج حر توفرت فيه الفرصة للتنافس، فلا يكسب قلوب القراء إلا الذي يتقن المنهجية السلمية في الطرح والتعبير.

وهذا مقال قديم لي عن أمراض المثقفين في هوامش الأنظمة الشمولية، جمعت فيه بعض المظاهر السلبية للمثقفين اضغط هنا

جوزيف كليمنس (الحاج محمد الألماني)

ظاهرة الجهاديين الأوروبيين التي أثارت استغراب البعض، حول كيف لشاب أوروبي نشأ في بلاد المادية أن يتركها ويتحول للجهاد. والبحث في الأسباب لن ينتهِ إلى اتفاق بين الباحثين، فلكل باحث وجهة نظر يحاول أن يسوق الأخبار والأحداث لتوافقها.
ولعل تسليط الضوء على زاوية مختلفة نوعاً ما عما يتحدث عنه الآخرين، هي الأفضل للقارئ والمتابع. فيذكر صاحب كتاب (الجانب الخفي وراء اسلام هؤلاء) محمد كامل عبدالصمد، قصة الشاب الألماني "جوزيف كليمنس" من "دوسلدرف".
الذي رحل في عام ١٩١٢ لبلاد المغرب ملتحقاً في سلك الفرقة الفرنسية التي كانت تعمل على قمع الثورات المحلية.
إلا أن هذا الشاب ضاق ذرعاً بالجرائم التي يرتكبها المحتل بذرائع واهية لا تنطلي على أوروبي يعرف بني جلدته.
فبدأ يستمع إلى أخبار المجاهدين، وأثاره استبسالهم وشجاعتهم وصلابتهم وأخلاقهم ومثلهم العليا حتى في الظروف الحرجة.
انضم جوزيف كليمنس إلى جيش المجاهدين بقيادة الأمير عبدالكريم الخطابي عام ١٩٢١ وأصبح من أخلص رجاله.
فقد اعتمد عليه الأمير في رسم الخرائط وتصوير مواقع الأعداء وترجمة الرسائل. قابلته صحيفة الديلي نيوز ونشرت عنه بعض الكتب التي لا تخلو من أسطرة جوزيف. ومما يذكر أن جوزيف أسلم وغير اسمه إلى الحاج محمد الألماني واستمر في جهاده حتى أسرته فرنسا.
حكم عليه بالإعدام ثم خفف إلى الأعمال الشاقة المؤبدة نظراً لهروبه من الجندية، وسجن في جزيرة تسمى جزيرة الشيطان.

أمضى باقي حياته في المعتقل حتى وافته المنية عام ١٩٦٣ صابراً رابط الجأش لم يتراجع عن معتقداته رحمه الله.
القصة ذكرت في موقع الصدرين على الرابط هنا

الاثنين، 23 يونيو 2014

إيران الثورة.. مع أو ضد أمريكا؟



المبدئية والبراجماتية في السياسة الإيرانية والخطوة التالية لإيران



طالما وصفت إيران أمريكا بالشيطان الأكبر، وارتبط انطلاق الثورة الإيرانية بقوة العداوة لأمريكا، فهل يعتبر تفاهمها مع أمريكا ضد السنة في العراق خيانة لمبادئها وانقلابا على ثوابتها؟ هذا السؤال يمكن الإجابة عليه بالانتقال للإجابة على سؤال أكبر، وهو عن دور المبدئية مقابل المصلحية الواقعية (البراجماتية) في السياسة الإيرانية؟ والذي بدوره سيقودنا إلى معرفة معلومة أوسع، وهي حجم المسموح به براجماتيا في الفكر الشيعي عموما وفي ولاية الفقيه خصوصا. نستطيع من خلال دراسة هذه المعلومة الرجوع للسؤال الأول. في تسلسل منطقي ضروري لا يختزل المواقف أو يجتزئها.


هل هذا هو التعاون الأول مع أمريكا؟
التعاون الأمريكي الإيراني الحالي ضد أهل السنة في العراق، يحصل الآن بشكل مكشوف وبصوت مرتفع، لكن مثله حصل وتكرر كثيرا دون رفع الصوت. فقُبيل وخلال الغزو الأمريكي لأفغانستان كان هناك تنسيق (غير مباشر) بين الأمريكان والإيرانيين بسبب العدو المشترك (طالبان). وقد أوعزت إيران لتحالف الشمال بالقتال جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية ضد طالبان، وفي أكثر من مرة فتحت إيران مجالها الجوي لتنفيذ عمليات للطيران الأمريكي ضد طالبان والقاعدة. (1)
وعندما أعلنت أمريكا نيتها غزو العراق 2003، أوعزت إيران لكل الفصائل الشيعية بالتفاهم الكامل مع أمريكا. وأثناء الغزو طلبت إيران من السيستاني أن يفتي بعدم تعرض الشيعة للاحتلال. وبعد الغزو وقبل انطلاق المقاومة العراقية حصل بعض الصدام السياسي بين الحليفين (أمريكا وإيران)، ما لبث أن نُسي بعد انطلاق المقاومة العراقية، فعاد التفاهم بينهما، ووافقت أمريكا على إعطاء إيران اليد العليا في العراق. واستمر هذا التفاهم الكامل بين الإيرانيين والأمريكان بسبب خطر التيارات الجهادية السنية إلى أن وصل ذروته الآن. (2)
وفي مسار آخر كانت إيران بعد انطلاق الثورة تتهم دول الخليج بأنها عميلة لأمريكا وسوف تعاملها معاملة المتخندقين مع العدو. إلا أنها أدركت أن العداوة المعلنة لن تنفعها، فغيرت لغة الخطاب إلى لغة صداقة واحترام، وانفتحت اقتصاديا وسياسيا على أكثر من دولة، خاصة الكويت وقطر والإمارات رغم أنها مصنفة إيرانيا كجزء من المعسكر الأمريكي. 


هل كانت معاداة أمريكا في الأصل مبدئية؟
هذا الاستعداد للتفاهم الكامل مع أمريكا لمواجهة الإسلام السني في العراق وافغانستان يعيدنا إلى سؤال أهم: هل كانت معاداة أمريكا في الأصل مبدئية؟ بعبارة أخرى هل كان ما بذلته إيران في تنفيذ سياسة معادية لأمريكا، من بينها صناعة حزب الله ومحاربته إسرائيل أكثر من مرة ثم دعمها لحماس، هل كان عملا مبدئيا؟ الثورة السورية المباركة تجيبنا أن أمريكا وإسرائيل بالنسبة لإيران أمر ثانوي، إذا كان الجهاد السني هو الخطر المشترك. وليس سرا أن أمريكا وإسرائيل راضيتان عن مشاركة إيران وحزب الله في سوريا، والاعتراضات الشكلية يدحضها الواقع المخالف. ولكن يبقى السؤال: لماذ أنشأت إيران حزب الله في لبنان وأزعجت إسرائيل كثيرا ودعمت حماس ماديا؟ أليس هذا عملا مبدئيا؟.
المطلع على تفاصيل السياسة وآلية القرار الإيرانية، يدرك أن إنشاء حزب الله ودعم حماس مرتبط باستراتيجية أمنية قومية، أكثر من ارتباطه بايديولوجيا. فإيران ما بعد الثورة ترى نفسها دولة خارج النفوذ الأمريكي ولها قرارها المستقل، وتعلم أن أمريكا لن تسمح لها بهذه الاستقلالية، ولا حل لمنع أمريكا من إزعاجها، إلا بحيل سياسية وعسكرية واستخباراتية وأمنية تردع الأمريكان عن اجبار إيران على الخضوع. من ضمن هذه الحيل الانفتاح على روسيا والصين والتفاهم مع دول أوربا، وتقوية الدفاعات الإيرانية الخ. لكن من أقوى هذه الوسائل إيذاء أمريكا من خلال خاصرتها في المنطقة (إسرائيل)، عن طريق دعم حماس، وجعل إسرائيل تحت مرمى صواريخ حزب الله. فالقضية إذا ليست نصرة لفلسطين كمبدأ، بل هي التفاف أمني على أمريكا وإتيانها من "اليد الي تؤلمها".
والمتأمل في النشاطات الثقافية والإعلامية والدينية الشيعية الحالية في العراق، يرى التخلي عن القضية الفلسطينية وشطبها من الضمير الشيعي بالكامل. أما الأدبيات الإيرانية فالراصد الذكي يرى أنها متكلفة مصطنعة، لتكون كافية لتبرير مواجهة إسرائيل ومن ثم أمريكا وليس لذاتها كقضية إسلامية مقدسة.


سياسة إيران براجماتية، لا بل هي مبدئية!!!
هذا التحليل السياسي يعطي انطباعا عاجلا بأن إيران دولة مصلحية براجماتية أكثر منها مبدئية ايديولوجية، لكن هل هذه هي الحقيقة؟ لا يمكن معرفة الحقيقة إلا بالانتقال من النظرة السياسية إلى التأمل الفكري المذهبي، لنرى أين تنتهي الأيديولوجيا وأين تبدأ البراجماتية. وإذا ما بذلنا بعض الجهد الفكري في هذا التأمل، فسوف نرصد ثلاث أسباب تجعل الفاصل بين المبدئية والبراجماتية غير موجود، لأن ما يبدو براجماتيا هو في الأصل جزء من المنهجية الإيرانية المقبولة مبدئيا. 


السبب الأول: إيران دولة قومية (قطرية)
لا يوجد في الموروث الفقهي الشيعي ما يمكن أن يعتمد عليه في بناء الدولة ورسم العلاقات الدولية، وبناء عليه لا مفر من الاعتماد على مفهوم الدولة القومية الحديثة لإقامة إيران كدولة بعد الثورة. ورغم أهمية المذهب الشيعي الإثنا عشري في إنشاء إيران الثورة، فإنها في حقيقتها دولة قومية (قطرية) ترسم سياستها بالمنظار القومي، كدولة مستقلة ذات سيادة ولها مصالح أمنية قومية عليا. لا يعني هذا التقليل من أهمية المذهب ولا تساهل إيران في نشره وخدمته، لكن يبقى المذهب خادما لمصالح إيران القومية وليس العكس. ومن المفارقة ما ذُكر أعلاه، أن تكليف حزب الله والميليشيات العراقية بالقتال في سوريا، ثم مشاركة الحرس الثوري في القتال في العراق هو خدمة للأمن القومي الإيراني أكثر منه خدمة للمشروع المذهبي. والدفاع عن المصالح القومية العليا عند البعض قضية مبدئية لكنها عند من يقدم الدين والمذهب براجماتية مصلحية وبهذا تتداخل البراجماتية والمبدئية. وحين نتحدث عن الدولة القومية فإن المقصود هو "القطرية" تحديدا بالمفهوم الحديث للدولة، وليس القومية الفارسية مع أن الأخيرة لها دور كبير في السيكولوجيا الإيرانية والتوجه السياسي.


السبب الثاني: "ولاية الفقيه" ذاتها مشروع براجماتي 
الأساس الفكري الذي نشأت إيران الثورة عليه هو مبدأ ولاية الفقيه، وهو ذاته مشروع براجماتي استخدمه الخميني كوسيلة للتخلص من السلبية السياسية في الأدبيات الشيعية. فمرويات الفكر الإثناعشري المنسوبة للأئمة لا تشتمل إلا على مبدأ انتظار المهدي، والاعتماد عليها يعني استحالة التحرك السياسي من أساسه. محاولات الاجتهاد في الفقه الشيعي لا تخلو من "ابتداع" مشاريع سياسية محدودة وحشرها في المشروع الشيعي، لكنها لا تصمد أمام الزخم الهائل للمرويات التي تناقض ذلك. وهذا ينسحب على نفس نظرية ولاية الفقيه التي كانت موجودة قبل الخميني، ولم تترجم إلى مشروع عملي لنفس السبب. الخميني نجح في تحويل ولاية الفقيه لمشروع سياسي، لأنه استغل الظروف المواتية واحتقان الشعب ضد الشاه، فكان طرحه لها براجماتيا واقعيا وليس طرحا نظريا مصادما للمرويات. هذا الدور البراجماتي البنيوي لولاية الفقيه في تأسيس إيران الثورة، جعل البراجماتية والمبدئية متداخلتان بالضرورة. (3)


السبب الثالث: التقية بوابة نفسية واسعة للبراجماتية 
رغم الخلاف على مفهوم التقية لا ينكر أحد من الشيعة أن التقية ركن من أركان التشيع، وفيها جانب براجماتي كبير. وقد يُعترض بأن الشيعة صارت لهم دولة وقوة، ويفترض أنهم لم يعودوا بحاجة للتقية، فهل بقى للتقية هذا الدور في إفساح المجال للبراجماتية؟ يجاب على هذا الاعتراض بنقطتين، أولاً أن إيران لا تتعامل مع وضعها الداخلي فقط بل تتعامل مع توازنات إقليمية وعالمية تلعب فيها التقية دورا كبيرا. ثانياً تربية الشيعي على مبدأ التقية يضفي عليه حالة نفسية، تجعله -فردا كان أو جماعة أو دولة- في حالة أكثر استعداداً للبراجماتية ممن لا يؤمن بها. هذا الاستحضار للتقية يتحول إلى منصة نفسية للقرار البراجماتي، ومن ثم قبوله ضميرياً وتحويله إلى قرار مبدئي. وهكذا تصبح التقية الدينية آلية لأدلجة المصالح والقرارات التي في أصلها مخالفة للمبادىء، ومن ثم تتداخل الأيدولوجيا والمصالح بطريقة متشابكة.(4)
لهذه الأسباب لا يبقى معنى للسؤال ما دام تحقيق المصالح ذاته جزءا من المبدأ، وما دامت المرجعية النصية تسمح لمفهوم المصلحة أن يتمدد بلا حدود. هذا ليس تمرينا ذهنيا في الوصول لحل لغز نادر، بل هو محاولة لمعرفة طريقة تفكير صاحب القرار الإيراني واستشراف خطوته التالية. وبناء على هذا التحليل فإن دور الهوية والعقلية الفارسية، وطريقة الحوزة الإيرانية في توسيع هامش المذهب لصالح الدولة أقوى من المذهب نفسه. وتبعا لذلك يستطيع المراقب -في الجملة- توقع ما تنوي إيران الإقدام عليه تجاه الأزمة العراقية وغيرها من الأزمات.
------------------------------------------------------------------------------------

(1) للمزيد من التفاصيل (اجتماعات بون للتنسيق ضد الطالبان) هنا و هنا
(2) لمزيد من التفاصيل عن الاجتماعات الثلاثية أمريكا/العراق/إيران بعد احتلال العراق (في منتصف الصفحة) هنا
(3) بحث موسع عن تاريخ ولاية الفقيه وكيف تمكن الخميني من تفعيله عمليا بعد أن لم ينجح أحد قبله هنا
(4) لمزيد من التفاصيل عن التقية من موقع الشبكة الإمامية هنا

مقالة سبق أن نشرت في جريدة التقرير.

الاثنين، 16 يونيو 2014

تغريدات عن العشائر العراقية ودورها في القتال الدائر حالياً.

كثر الحديث عن دور العشائر العراقية ودورها في القتال الدائر حالياً، وهذه محاولة مني لعرض خريطة للعشائر العراقية وقدرتها على المشاركة في الثورة. 

جزء كبير من الشعب العراقي ينتسب للقبائل العربية الكبيرة، مثل زبيد بفروعها (دليم وعبيد وجبور) وشمر وعنزة وتميم وغيرها…..  

وإضافة لحجم التجمع السكاني من المدينة إلى القرية إلى البادية، تأثرت العشائرية في العراق بعوامل كثيرة أدت لتفاوت الشعور القبلي بين منطقة وأخرى.

وبمثل ذلك يتفاوت تمظهر الأنفة والشهامة والفروسية والكرم والغيرة ما بين منطقة وأخرى، بسبب التأثر بالظروف الاجتماعية والاختراقات السكانية غير العربية.

ودون تقليل من شأن بقية العشائر فإن المثلث الممتد من الفلوجة إلى القائم إلى الموصل يحوي أكثر القبائل التزاماً بهذه القيم والعادات ويشهد بذلك الكثير.

بل إن سبب انبعاث ثورة العشرين هو غضبة الشيخ ضاري بن محمود شيخ قبيلة زوبع من شمر رداً على إهانة الكولونيل ليجمان القائد الانجليزي.

ولم يتردد أبناء الشيخ ضاري في قتل القائد ليجمان، وبقي الشيخ ضاري في حرب ضروس مع الاحتلال إلى أن اعتقل وتوفي في السجن سنة 1928.

ولذلك اشتهرت اهزوجة "هز لندن ضاري وبجاها" أي أبكاها نسبة إلى تمكن ضاري من إرهاق الاحتلال الانجليزي بثورة شاملة.

وشعور هذه العشائر بالأنفة هو سبب صمود الفلوجة عدة مرات أمام الاحتلال الأمريكي بل واستهدافها من قبل الحكومة الطائفية الحالية.

وحتى أيام البعث اضطرت الحكومة أن تحترم عشائر الأنبار، وكانت مدينة الفلوجة هي المدينة الوحيدة التي لم تتمكن الحكومة من افتتاح سينما فيها. 

لكن هذه العشائر لديهم مشكلتان هي نفس مشاكل القبائل في أي مكان، ولا يمكن فهم دورهم في القتال إلا من خلال استحضار هذه الإشكالات.

الإشكال الأول سهولة خداع كامل القبيلة من خلال شراء أو رشوة زعيم لديه استعداد للخيانة كما فعل قيادات الصحوات ضد المقاومة. 

ولم تنتبه القبائل لهذه الخديعة إلا بعد وقوع المصيبة مما دفعها للثورة على القيادات الخائنة لكن بعد وقوع الفأس بالراس ولات حين مندم. 

الإشكال الثاني أنهم رغم قوة بأسهم إلا أنهم غير قادرين على التنظيم، وقتالهم أقرب للكر والفر ولا يمكن أن يبلوا بلاء حسنا إلا بأن ينظمهم غيرهم.

كما ان انتشارهم في المنطقة يضيف عاملا آخر في نجاح العمليات من خلال قدرتهم على الدعم اللوجستي بكافة أشكاله ودورهم كحاضنة شعبية. 

وإذا استحضرنا الأداء المتقن للمعارك الأخيرة يستطيع المراقب أن يطمئن إلى أن العشائر شاركت فعلا لكن جهة أخرى نظمتهم واستفادت من زخمهم.

للمزيد من المعلومات عن الشيخ ضاري بن محمود شيخ قبيلة زوبع من شمر اضغط هنا


الأحد، 15 يونيو 2014

من يحصد أرباح الحرب على الإرهاب



يزعم البعض أن المواجهة بين أمريكا والحركات الجهادية لها دور قوي  في انبعاث الربيع العربي، باعتبارها دفعت العرب بالقوة لتذكر هويتهم الإسلامية العميقة. وهو زعم على فرض صحته يصعب إثباته إلا على أساس انثروبولوجي منضبط منهجياً وخاضع لمراجعة علمية نقدية. لكن يمكن رصد الأثر غير المباشر لهذه المواجهة، ليس على انبعاث الربيع العربي بل على تطوره ومستقبله، استناداً إلى قصة المواجهة الأمريكية الجهادية وقصة صعود الهوية العربية الإسلامية.

أمريكا تستشرف مواجهة الإرهاب منذ التسعينات
استشرفت المؤسسة العسكرية الأمريكية منذ منتصف التسعينات بشكل رسمي وموثق، وقوع مواجهة مع القوى الإرهابية الإسلامية. جاء ذلك في (تقدير الموقف الاستراتيجي) الصادر عن هيئة التقديرات والتخطيط الاستراتيجي التابعة للبنتاغون التي يشرف عليھا الجنرال "روبرت إيفاني". وسمى التقرير هذه المواجهة بـ"الحرب غير المتوازية" على اعتبار ان الحركات الإرهابية سوف تستخدم اساليب تم التوصل إليها بالتفكير في "غير المتوقع وغير المعقول" ثم تطبيقه على كل مستويات الحرب، بغرض تنفيذ عمليات بطريقة لا تخطر على البال منطقياً ولا تطرح نفسھا عملياً في التقديرات التي نستطيع تصورھا. 

أمريكا تتوقع غير "المتوقع" وتتصور "غير المعقول"
وحاولت المؤسسة العسكرية الأمريكية، مدعومة بالاستخبارات، توقع (غير المتوقع) وتصور (غير المعقول) حتى تستبق أي خطوة من الحركات الإرهابية، أو تحسن التعامل معها بعد حدوثها، وبذلت في ذلك جهدا كبيرا مستعينة بكثير من الحكومات الأوربية والإسلامية. واستطاعت أمريكا بهذا العمل المؤسسي جمع كمية هائلة من المعلومات والتوقعات التي استخدمتها في قتل أو اعتقال الكثير من القيادات الإرهابية، كما نجحت في تدمير عدد من مراكز التدريب والعمليات وربما اجهاض الكثير من العمليات. 

امريكا تكسب تكتيكيا وتخسر استراتيجيا
لكن رغم هذا كله فإن الجهات الرسمية وغير الرسمية تعترف أن النشاط "الإرهابي" في توسع مكاني ونوعي وأن خطره في ازدياد رغم كل الجهد المبذول. وهو ما أكده أحد التقارير الذي  صدر عن خبراء المجلس القومي للبحوث والدراسات الاستراتيجية التابع للاستخبارات المركزية الأمريكية CIA سنة 2005 وشارك في إعداده 1000 خبير خلال 30 مؤتمراً، الذي ذهب إلى توقع انتشار النشاط "الإرهابي" لدول كثيرة وأن عام 2020 ربما يكون عام الخلافة الاسلامية. وإحصاءات النشاط "الإرهابي" تثبت أن الازدياد تصاعدي  منذ أن أعلنت أمريكا حملتها العالمية ضد "الإرهاب" ويؤكد أحد المراكز أن الحرب على الإرهاب نفسها تسببت في زيادة الإرهاب. (1)

وهذا الرسم البياني يبين الصعود الصاروخي للعمليات "الإرهابية منذ انطلاق الحرب على الإرهاب





الخسارة الاستراتيجية لم تقف عند توسع "الإرهاب" بل أصابت أمريكا في ذات سياستها ووضعها الداخلي. ويجمع المفكرون أن أكبر خسارة هي نجاح الجهاديين في إجبار أمريكا على التخلي عن الحريات بزعم تحقيق الأمن، يليها استنزاف أمريكا اقتصاديا حتى تجاوز الدين القومي كامل الدخل القومي وأدخل أمريكا في مصيدة الدين الخطيرة. 

لماذا
إذا كانت المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية قد استشرفت هذه المواجهة وحاولت توقع غير المتوقع وتصور غير المعقول فلماذا انتهى بها المطاف لنتيجة معاكسة للمطلوب؟ 

الجواب أن أمريكا استهلكت كل جهدها في التعامل مع الجانب التنظيمي والحركي واللوجستي، وغفلت عن الصورة الكلية المرتبطة بأسباب المواجهة وطبيعة الهوية والانتماء للمسلمين. صحيح أن ما يسمى بالحرب على الإرهاب حققت انتصارات تكتيكية كثيرة لكن النتيجية الاستراتيجية كانت خسارة لها ومكسبا ليس للتيارات "الإرهابية" فقط، بل لكل الأطياف الإسلامية التي تتبنى مشاريع حقيقية للتغيير. ومردّ كل ذلك إلى أمرين: سياسة أمريكا تجاه قضايا المسلمين، وطبيعة الهوية الإسلامية والانتماء الإسلامي. 

السبب الأول:
كان تعامل أمريكا مع قضايا المسلمين في الأصل أهم أسباب اندلاع هذه المواجهة، فقضية فلسطين وحصار العراق أقوى وسائل التهييج ضد أمريكا في حينها. ولو كان راسمو استراتيجية الحرب غير المتوازية مدركين لهذا البعد، لجعلوا تعديل سياسة أمريكا تجاه قضايا المسلمين جزءا مهما من إجراءات هذه الحرب. الذي حصل هو العكس فقد تضاعف استفزاز المسلمين في احتلال افغانستان وشن حرب عالمية على "الإرهاب الإسلامي"، ومحاصرة النشاطات الإسلامية الخيرية والمالية في كل مكان. وذهب الاستفزاز الأمريكي للمسلمين شوطا بعيدا باحتلال العراق وفتح جبهة للعنف المسلح أخطر بكثير من أفغانستان. وصاحب ذلك تعاونا وثيقا بين الأمريكان والأنظمة القمعية التي تدير بلاد المسلمين، ضد من يتهم بأنه إرهابي فوصل الاستفزاز إلى الحد الأقصى. 

السبب الثاني: 
في موازاة ذلك لم يفطن راسمو استراتيجية الحرب غير المتوازية لمؤشر صعود الهوية في العالم الإسلامي، والذي بدأ يتنامى منذ مرحلة الصحوة ثم ما تلاه من شعور المسلمين باهمية موقعهم العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة. كان صعود الهوية يرافقه غياب أي قيادة سياسية تشبع تطلعات المتحمسين من المسلمين في مواجهة التحديات العالمية، بل كانوا ينظرون لكل القيادات السياسية نظرة الموالية لأمريكا والسائرة في فكلها. ومرة أخرى تقع أمريكا في الفخ، وترفع الصوت عاليا في التعامل مع عمليات القاعدة بحملة إعلامية هائلة، أعطت الرموز الجهادية صفة الند لأمريكا الذي يشبع تطلع هؤلاء المتحمسين. 

والأعجب من ذلك أن الأمريكان لا يتعلمون مع مرور الوقت بل يستمرون في مضاعفة المشكلة، سواء في مزيد من استفزاز مشاعر المسلمين أو في مزيد من الإصرار على اعتبار الجهاديين رأس حربة في مواجهة أمريكا. هذا الاستفزاز لمشاعر المسلمين وذلك الترميز والتلميع للتيارات الجهادية هو السبب في الخسارة الاستراتيجية لأمريكا، مقابل المكاسب التكتيتية الكثيرة على المستوى الفني واللوجستي والتنظيمي. 

كيف تعجز أمريكا عن تفويت هذه الحقائق البسيطة؟
السؤال المهم هنا: كيف لدولة مثل أمريكا ملأى بمراكز الدراسات والرصد واستشراف المستقبل أن تقع في هذا الفخ، ويفوت عليها التصرف السليم بكل هذه السهولة؟ ربما نجد التفسير في أمرين الأول قدرة اللوبيات على جعل أولوياتها مقدمة على أوليات أمريكا الوطنية، والثاني طبيعة العقل الجمعي الأمريكي.

1) خطف النظام الفيدرالي من قبل اللوبيات
يتفق الدارسون للنظام الفيدرالي الأمريكي أنه قابل للخطف بسهولة من قبل اللوبيات الفاعلة، مثل اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي ورجال الأعمال والنفط والسلاح الخ. وأقوى لوبي على الإطلاق هو اللوبي الصهيوني وهو بذاته مرتبط باليمين المسيحي ورجال الأعمال والنفط والسلاح. السياسة الخارجية لأمريكا لا يقررها وطنيون أمريكيون بل يقررها ساسة يتحكم بهم قيادات هذه اللوبيات، بل لا يمكن لأي سياسي أن يصل لمركز متميز إلا بإقرار هذه اللوبيات. ومع وضوح هذه النقطة فإنه لا أمل أن تغير أمريكا سياستها تجاه إسرائيل مهما غضب العرب والمسلمون إلا أن يثور الأمريكان ذاتهم على الاستبداد الصهيوني واللوبيات الأخرى. 

2) المشاعر الجمعية الأمريكية
المشكلة الأخرى التي تؤدي إلى نفس النتيجة هي نزعة المشاعر الأمريكية الجمعية إلى ردة فعل فورية غير خاضعة للهدوء وحسن التخطيط والتفكير"عقلية الكاوبوي"، خاصة إذا كانت الهوية الأمريكية هي المستهدفة. هذه النزعة المستعجلة تترجم إلى رأي عام يفرض نفسه على صاحب القرار في أمريكا مهما كان توجهه وتفكيره. ويجمع العارفون بالرأي العام الأمريكي أن أي رئيس أمريكي مهما كان عاقلا وهادئا لن يتصرف بأقل مما قام به جورج بوش وكلينتون ضد الهجمات "الإرهابية". صحيح أن جورج بوش بالغ في التصريحات المستفزة لكن الإجراءات التي اتخذها لن تكون مختلفة عن أي إجراءات يتخذها رئيس آخر. والدليل أن أوباما لم يغير كثيرا من السياسة تجاه الإرهاب بل ربما توسع قليلا في أمور كانت ستعتبر خرقا للدستور في أجيال سابقة "استهداف مواطنين أمريكين بطائرات الدرونز مثلاً". 

أمريكا والإسلام إلى أين؟

ترى هل ستستعيد امريكا رشدها وتعيد النظر في مواجهتها مع الإسلام، وهل سيستيقظ عقلائها ويقولون كفى استغراقا في الاتجاه الخطأ، وآن الأوان لإعادة النظر في كامل رؤيتنا للسياسة الداخلية والخارجية؟ مشكلة أمريكا أن مسارها الحضاري ليس في اتجاه الصعود والقوة بل في اتجاه الانحدار وربما السقوط. هذا الكلام ليس مشاعراً رغبوية، بل تحدث به الكثير من عقلاء أمريكا ذاتها من زوايا متعددة. وأخطر من تحدث عن ذلك ديفيد ووكر، الذي يتبوأ منصبا يسمى كبير مفتشي أمريكا في مقال نشره سنة (2007 (3. يقول ووكر أن أمريكا تعاني من نفس أسباب سقوط روما، وأنه مهما اجتهد العقلاء في منع هذا الانهيار فلن يستطيعوا منعه. وهذه بالمناسبة إحدى السنن التاريخية التي أشار إليها بن خلدون في مقدمته وهي أن الدولة حين تكتمل أسباب سقوطها لن ينجح عقلائها في منع السقوط مهما اجتهدوا في ذلك. كما أن الدولة المترفة أو الهرمة إنما تخسر من الدولة الفتية بالمطاولة وليس المناجزة، وهي سنّة تاريخية ذكرها ابن خلدون في ذات المقدمة(4).

------------------

(1) المصدر من موقع السي آي إي لا يمكن مشاهدته الا باشتراك في الموقع 
لكن يمكن قرائته من هذا الرابط بدون اشتراك اضغط هنا

(2) الرابط اضغط هنا

(3) مقال ديفيد ووكر في الفاينانشيال تايمز 21 اغسطس 2007 اضغط هنا

ويمكن قراءة ملخص عربي للمقال على هذا الرابط اضغط هنا

(4)
​ذكرها ابن خلدون في الفصل السادس والأربعون
في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع
والفصل الخمسون 
في ان الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة

مقال سبق نشره في صحيفة التقرير هنا

السبت، 14 يونيو 2014

المكارثية الأمريكية والمكارثية العربية إستدراكات على مقال الدكتور هيثم طيب


مقالة الدكتور هيثم طيب @haytham_t في صحيفة التقرير:

يشكر الدكتور هيثم طيب على تعريف الجمهور بظاهرة المكارثية في مقاله في صحيفة التقرير لكن لي على المقال عدة استدراكات

يمكن استخدام مصطلح المكارثية لتقريب الفكرة لكن المكارثية كما حصلت في أمريكا تختلف تماما عن "المكارثية العربية" في طريقتها ومعطياتها وسياقها

مكارثية أمريكا جرت تحت ظلال حرية الإعلام واستقلال القضاء وسلطة منتخبة تتغير كل 4 سنوات ومحاسبة وشفافية وحرية المعلومات والتجمعات

المكارثية العربية جرت تحت سلطة قمعية غير منتخبة باقية في الحكم "إلى الأبد" تمتلك الإعلام والقضاء وغير خاضعة للمحاسبة ولا تسمح بأي شفافية

المكارثية الأمريكية نفذها أشخاص غير محسوبين على السلطة معتمدين كليا على استثمار جيد للإعلام الحر والمهارة السياسية والنشاطات الميدانية

المكارثية العربية ينفذها أشخاص تابعون للسلطة يعملون في الإعلام المملوك للسلطة أو شخصيات مخابراتية تتقمص الاستقلال مهمتهم تنفيذ إجندة للسلطة

المكارثية الأمريكية ذخيرتها العداوة الطبيعية للرأي العام للشيوعية وطبيعة الشعب الأمريكي الجاهل سياسيا والمحب للإثارة والمعتمد كليا على الإعلام

المكارثية العربية ذخيرتها تغييب الشعب تماما وإسماعه الصوت الواحد وتزكية من ترضى عنه السلطة وتشويه سمعة من تعاديه السلطة

المكارثية الأمريكية مرادها التأثير الحقيقي على الرأي العام من خلال جهد حقيقي في الإقناع وحملة متكاملة في ألصاق تهم معينة بأشخاص أو جهات معينة

المكارثية العربية مرادها فقط إعطاء مظلة للسلطة أن تقمع من تم تشويه سمعته أو تخويف من يفكر بالاقتراب من التعاطف معه أو تزكيته

المكارثية الأمريكية أنجزت نتيجية حقيقية في الرأي العام وغيرت قناعات الناس وتراكم التأثير فتضاعفت القدرة على تغيير الرأي العام

المكارثية العربية لا تستطيع تغيير الرأي العام المتعاطف تلقائيا مع من يشيطنه أزلام السلطة بل أنجزت في توفير أرضية فكرية لقمع السلطة فقط

استدراك آخر أن المكارثية نجحت في أمريكا بخلاف أوربا لأن الشعب الأمريكي يحب المزايدة الوطنية بسبب عقدة النقص في الهوية الأمريكية الركيكة

ولذلك لم ينجح جون مكارثي في حملته بسبب سمعته الوطنية بل نجح من خلال حسن استخدام عقدة النقص هذه وطبيعة حب الشعب الأمريكي للإثارة

واوربا لا يمكن أن تنجح فيها المكارثية بنفس مستوى أمريكا لأن الشعوب الأوربية مشبعة قوميا ولا تؤمن بالمزايدة الوطنية وليست شعوب إثارة

وفي الختام شكري وتقديري للدكتور هيثم طيب، على إثارته مثل هذه المواضيع الشيقة والممتعة وذات الفائدة للجميع.



ودمتم بخير.

الجمعة، 6 يونيو 2014

الربيع العربي نهضة حضارية أم انتفاضة فاشلة؟



الانتكاسات التي أعقبت النشوة الأولى المصاحبة لبداية ثورات الربيع العربي، كانت متتابعة وكبيرة في كل بلد حل فيه الربيع، فمن انقلاب مصر إلى مجازر سوريا إلى فوضى ليبيا إلى الغموض المطبق في تونس واليمن. ظن الكثيرون أن تلك النشوة لم تكن في محلها، وأن هذه الثورات لا تعدو أن تكون تحركاتٍ عاطفية غير محسوبة، وأن الدمار الذي خلفته هذه الثورات سيقنع الشعوب الثائرة بالحنين للماضي بعُجره وبُجره. وبناءً على هذه الرؤية فإن مصير الثورات إلى انحسار، وأن الشعوب ستقبل بأي نظام يوفر الاستقرار وشيء من الأمن وسريان الحياة العادية بعد أن ذاقت ويلات الثورات.

وهذا الموقف وأمثاله يناسب هوى الأنظمة التي تخشى انتقال العدوى إليها، لذا فهو مخدوم بشكل غير عادي في وسائل الإعلام ومنصات الثقافة، التي لا تزال مملوكة ومحكومة من قبل الأنظمة. وزبدة هذا الرأي المطروح أن هذه الثورات ليست إلا انتفاضات مؤقتة وسوف تنتهي بسبب ما جلبته من فشل وفوضى. والترويج المدعوم لهذه الموقف يتسبب في إضعاف الفرصة أمام الرأي الآخر، الذي يقول إن الربيع العربي ليس انتفاضات عابرة، بل هو نهضة حضارية ومسيرة تاريخية شاملة تتعثر لكنها ستفوز في الأخير.

ولو تجردنا من تدخل إعلام الأنظمة ومنصاتها الفكرية، وتجردنا كذلك من التفكير الرغبوي بكلا الاتجاهين فما هو الرأي الصحيح؟ هل الربيع العربي نهضة حضارية أم هو انتفاضة مؤقتة؟ الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تحصل بالمزايدات العاطفية والسياسية والاختزالات الفكرية، ولا بالنظرة السطحية قصيرة المدى، بل لا بد من فهم القضية بمنهجية ونظرة شاملة، ودراسة الأحداث بتفاصيلها وسياقاتها، وتأملها باستحضار التاريخ والسنن الاجتماعية. وربما يكون أفضل السبل للوصول إلى الجواب، هو في المقارنة بين النهضة الحضارية التي تحدث تغييرا تاريخياً شاملاً، والانتفاضة المؤقتة التي تُقمع بسهولة، أو تتلاشى مع تحصيل مطالبها، ثم تنزيل هذه المقارنة على أحداث الربيع العربي.

وقبل أن نبدأ المقارنة والإجابة على هذا السؤال، نؤكد أن هذه لفتات في عصف ذهني سريع وليست بحثاً متكاملاً، فالبحث لا يسعه مقال قصير في صحيفة. وما سيقرأ هنا من فروق قد يوجد غيرها، وقد تكون مستوفيةً للمطلوب، فالمقصد هو تسليط الضوء على أوجه المفارقة بين النهضة والانتفاضة كما يلي :

أولا: النهضة الحضارية مسيرة تاريخية متواصلة على مدى سنوات أو عقود، بزخم بشري يجرف ما أمامه حتى لو تعرقل قليلا أو كثيرا. وغالب التغييرات التاريخية الكبرى، تعرضت لعراقيل هائلة لكن زخمها العام كان في اتجاه التغيير الشامل.  أما الانتفاضة المؤقتة فغضب عارض توفرت ظروف لترجمته على شكل تحرك محدود، بدوافع عاطفية قابلة للامتصاص والاحتواء، يزول أثرها بالكامل خلال فترة قصيرة. وصمود مسيرة الربيع العربي كل هذه السنين، وإصرار أهله رغم الصعوبات الهائلة ورغم التعاون العالمي لإيقافه، دليل على أنه مسيرة متواصلة وليس غضبا عارضا قابلا للامتصاص والاحتواء.

ثانيا: تتصف النهضة الحضارية بسعة الانتشار شعبياً، ولا تقتصر على مكان أو فئة. ربما يكون انطلاقها محدداً بمكان معين وظرف معين لكن يتبين أن ذلك ليس إلا شرارة تبعث التحرك في كافة الأماكن التي تمثل أمة معينة. أما الانتفاضة المؤقتة فدائماً تكون في مكان واحد أو أماكن قليلة، أو لفئة محددة مثل العمال والفلاحين، وتكون مرتبطة بالكامل بظرف انطلاقها وتموت معه في مكانها. وبما أن الربيع العربي حقق انتشارا تجاوز المدينة الواحدة إلى كامل الدولة، ثم تجاوز الحدود القُطرية، وواصل المسيرة فنحن قطعا أمام نهضة حضارية وليس أمام انتفاضة مؤقتة.

ثالثا: النهضة الحضارية مطلبها تغيير شامل، بإزالة آثار الماضي واستبدالها بأسس جديدة للحياة الاجتماعية والسياسية، وعلاقة الشعب مع بعضه وحكامه. وحتى لو كان انطلاق التحرك لأجل موضوع محدود، فسرعان ما يتحول -بسبب جاهزية الناس- إلى مشروع شامل بإصرار على تغيير كلي حتى لو بعد حين. الانتفاضة المؤقتة في المقابل غضب محدود من أجل قضية واحدة، أو قضايا مرتبطة ببعضها إما أن تُشبع فينتهي الغضب، أو تقمع فينتهي الحراك، ولا يمكن أن تتحول إلى مشروع شامل. ولا مجال للشك بأن مسيرة الربيع العربي مشروع تغيير شامل رغم أنها بدأت بمنطلقات بسيطة، وبذلك فهو نهضة حضارية وليس انتفاضة مؤقتة.

رابعاً: النهضة الحضارية وقودها إدراك واستشعار وتشرب قيم كبرى، مثل الكرامة والحرية والعدالة والهوية والانتماء والمسؤولية الجماعية. وليس متوقعا ممن يشارك في هذا الزخم أن يفلسف هذه المعاني بنفسه وبكلماته، لكنها ستبقى هي دافعه الحقيقي وفي ضميره، وإن لم يستطع التعبير عنها. وحتى لو كانت الدوافع بطالة أو حرمان أو فقر، فإن الثائر لم يغضب لأنه حرم منها كفرد، بل يغضب لأنها حق له ولبقية الشعب، وعلى النظام أن يوفرها لهم، باستحضار هذا الثائر وتشربه قيمة المسؤولية. أما الانتفاضة المؤقتة فدوافعها شخصية، ولو كانت على شكل غضب جماعي، فهي محدودة بمطالبات شخصية مرتبطة بغضبهم، ولا يمكن أن تتطور إلى القيم الكبرى كالحرية والعدالة والكرامة وغيرها. والراصد للربيع العربي، لا يخالجه شك أن وقوده هذه القيم الكبرى، ولم يطرح أي مطلب شخصي أو محدود، مما يجعلها في مصاف النهضات الحضارية بكل تأكيد.

هذه الفروقات ستقودنا إلى سؤال جديد، وهو إن كانت هذه نهضات حضارية فلماذا تتحرك بكل هذا البطء؟ ولماذا تتعرض لكل هذه الصعوبات؟. الإجابة أن هناك حتميات "سنن" في التاريخ لا يمكن تفاديها مطلقاً، ولا بد أن تواجهها الشعوب بكل آلامها وصعوباتها. ففي بداية فصل الربيع قد تأتي موجة برد تشعر المرء أن الشتاء لم ينصرم بعد "بياع الخبل عباته" لكن الحقيقة أن الفصل ربيع حقيقي، ولو مر فيه بضعة أيام تحسر فيها المرء على بيع عباته.

الحتمية الأولى هي الحاجة للوقت الذي يستغرق سنيناً وعقوداً، حتى تستكمل الثورة مسيرتها في نهضة حضارية. (ثورة كرومويل) في بريطانيا احتاجت أربع سنوات لحسم الأمر مع الملك، ثم احتاجت عشرين سنة لاستثمار هذا النصر. الثورة الفرنسية استغرقت عدة سنوات حتى وقفت على قدميها، ثم لم تنضج بشكل كامل إلا بعد عقود. وهذا هو حال الثورة الأمريكية والبلشفية، بل وحتى العباسية على الأمويين.

الحتمية الثانية الفوضى المصاحبة لهذه النهضات، والتي تتفاوت من غياب السلطة المركزية إلى حروب أهلية يطول مداها. فكرومويل في بريطانيا لم يتمكن من حسم الثورة إلا بعد سلسلة معارك طويلة، ذهب ضحيتها مئات الألوف من القتلى، وهكذا الثورة الأمريكية والبلشفية. أما الثورة الفرنسية فعانت من فوضى في السلطة، حتى تنبأ روبسبير (الشخصية الأهم في الثورة الفرنسية) بأن الشعب الفرنسي سيتمنى قائداً عسكرياً مستبدا يخلصه من هذه الفوضى، وصدقت نبوءته عندما احتفى الفرنسيون بنابليون.

الحتمية الثالثة تآمر القوى التي تخشى من نزعة الحرية ضد هذه الثورات، بجهد هائل وتضحيات عسكرية ومالية كبيرة، لأن في ذلك حماية لكيانها. وما يجري حالياً مع الربيع العربي، له سابقةٌ تكاد تكون نسخة منه، وهي تآمر ممالك أوروبا ضد الثورة الفرنسية، وتدخلها استخباراتياً ومالياً وعسكرياً من أجل إعادة الملكية. ورغم الانتصار العسكري الظاهري لهذه الممالك، إلا أن النتيجة النهائية تحول كل أوروبا الملكية للديموقراطية وليس العكس.

الحتمية الرابعة وهي فزع قوى لا تخشى من عدوى الحرية، لكن تخشى من آثار نهضة الأمة المتحررة. النموذج الأوضح للتمثيل، هو ما قامت به بريطانيا من محاربة للثورة الفرنسية، رغم أنها سبقت فرنسا إلى الحريات والحقوق. والسبب إدراك البريطانيين أن فرنسا ستكون أقدر على منافستها حين تتمتع بالحريات والحقوق، من قدرتها على المنافسة وهي في ظل ملكية مستبدة. حالياً تحرك الغرب الليبرالي الديموقراطي ومعه إسرائيل ضد ثورات الربيع العربي، كله من قبيل هذه الحتمية، فالغرب يخشى من آثار النهضة والتي يدرك الغرب ويعلم أنها ستُخرج العرب من فلكه بالكامل، وستجعل من مصير إسرائيل محتوم الزوال.
الحتمية الخامسة صعوبة بناء تشكيلة قيادية ناضجة بعد الثورة مباشرةً، وظهور نماذج مختلفة من العجز الإداري والتنظيمي في السلطة تضاعف مشكلة الفوضى. والسبب في ذلك أن هذه الشعوب عاشت تحت أنظمة شمولية تخنق الفضاء العام وتتسلط على الفضاء الخاص، وتمنع بالقوة ظهور بيئة خصبة لإنتاج القيادات المبدعة. وطول هذه المدة كفيل بتعويد المجتمع على الاتكال في كل شؤونه على السلطة الشمولية، فلا فرق عنده بين إزالة حفرة في شارع فرعي، وبين أزمة في العلاقات الدولية، كل القضيتين يقف فيها المجتمع والمواطن الفرد، موقف المتفرج ينتظر أن تبادر السلطة لحلهما. وفي حال الثورة والخروج من هذا الوضع الخانق، يصبح الثوار كمجموعةٍ تريد قيادة طائرة وصيانتها، وليس بينهم طيار ولا مساعد طيار ولا مهندس طيران ولا حتى فني صيانة.

هذه الصعوبات التي يتعرض لها الربيع العربي، دليل آخر على أنه يحمل ملامح النهضة الحضارية، التي سيكون مآلها نصر هذه الشعوب المستضعفة، وتمكين قوى الخير والحق لأن تتولى زمام الأمور. كما أنه دليل على أن المسيرة طويلة والصعوبات التي ستلاقيها الشعوب لن تنتهي عند انقلاب هنا، أو مجزرة هناك. بل هناك مشاكل وأمراض أكبر وأعمق لم تظهر على السطح بعد. وإذا استحضرنا مبدأ (المؤرخ توينبي) في التحدي والاستجابة، فإن هذه التحديات ستزيد الربيع العربي صفاءً وقوةً ومتانةً، والاستجابة لها سوف تنقل هذه الشعوب المستضعفة، إلى مرحلة تفوق حضاري وقيادة بشرية بانت ملامحها بحمد الله.






الخميس، 5 يونيو 2014

حتمية الفاشية في الفكر الليبرالي (تغريدات)

هذه تغريدات سبق أن كتبتها في تويتر عن حتمية الفاشية في الفكر الليبرالي.

كل من يقول أن الديموقراطية تشتمل بنيويا على مباديء غير خاضعة لاختيار الأكثرية فهو يمارس شكلا من أشكال الفاشية،والحقيقة هو مضطر لذلك، لماذا؟

لأنه يصطدم بحقيقة أن الديموقراطية "الخام" القائمة على اختيار الأكثرية ليس فيها أي ثابت قيمي لأن لأكثرية مفهوم عددي ليس له قدسية إنسانية.

ولو كانت الأكثرية وحدها مقدسة لكان رأي الجمهور في مباراة كرة القدم مقدما على رأي الحكم كما قال المسيري، وهذا مخالف لأدنى درجات المنطق.

وما دامت الديموقراطية الخام بهذا الجمود الإنساني كان لا بد أن تلحق بها مفاهيم ومباديء تعطيها بعدا قيمياً وتضفي عليها قدسية إنسانية.

الإشكال أن علاقة هذه القيم بالديموقراطية لن تكون بنيوية إذا خضعت للأكثرية فما الحل؟ الحل أن تكون هذه الثوابت ملزمة إجماعا فضلا عن الأكثرية.

المعنى البسيط لهذا الكلام بكل تجرد هو إلزام كامل الشعب بمفاهيم غير خاضعة للاختيار مع زعم تقديس رأي الأكثرية وهذه هي الفاشية بعينها.

صحيح أنها ليست فاشية موسوليني لكنها نفس مبدأ الفاشية المبني على إخضاع كامل الشعب لمفاهيم غير خاضعة لاختياره.

وإضافة لكونها فاشية فهي تناقض أساسي فكيف تُفرض على الشعب ثوابت غير خاضعة لرأي الأكثرية ثم يُزعم احترام رأي الأكثرية.

ولمن أراد الاستزادة بكلام أعمق عن كمون الفاشية في الليبرالية، فعليه بهذا المقال للفيلسوف عبدالوهاب المسيري.

الأربعاء، 4 يونيو 2014

تغريدات في اضطراب النقاش في الموروث السياسي الإسلامي

بضعة تغريدات عن سبب اضطراب النقاش وفوضى الجدل في التعامل مع الموروث السياسي الإسلامي بين المدارس المختلفة 

الإنتاج الفكري في علم السياسة في الغرب وغيرها من العلوم جهد هائل والتجربة الأوربية فائقة الثراء سواء في المبادئ أو في الآليات 

هذه التجربة الثرية لم تنتج كومة من الأفكار المبعثرة، بل أنتجت تشكيلة ذهنية كاملة وقالبا يناسب المحتوى الفكري والعملي الذي أنتجته ذات التجربة

ولأن الغرب مهيمن فكريا وإعلاميا وسياسيا فليس غريبا أن تكون هذه التشكيلة وذلك القالب هو الأساس للعالم كله في تصور وفهم علم  السياسة 

انسجام هذا القالب مع محتواه وتطبيقه بثقة وواقعية، صنع تحديا أربك الكثير من المفكرين والعلماء المسلمين فأنتج مدرستين في التعامل معه

المدرسة الأولى لم تفطن للعلاقة بين القالب والمحتوى وتعاملوا مع علم السياسة وهم في غفلة جماعية وتصور منطلق من نفس التشكيلة والقالب الغربي 

وغالب جهد مفكري هذه المدرسة أن يملؤا هذا القالب بما لديهم من محتوى بطريقة معتسفة تحشر فيها استنتاجات التراث الإسلامي حشرا بين جدران القالب 

هذه المنهجية في تناول الموروث السياسي الإسلامي لا يمكن أن تنتج صورة متماسكة فضلا عن أن تثبت تفوقه على النموذج الغربي الذي استعار منه القالب

المدرسة الثانية هربت من التحدي بالكامل واختزلت كل منظومة التراث السياسي الإسلامي في الخنوع للحاكم وتفويضه شؤون السياسة وتحريم التدخل فيها

هذه المدرسة لا تستطيع أن تنكر ضخامة الموروث السياسي الإسلامي لكنها ماهرة في التلاعب بالمعاني حتى ينتهي كل شيء باستنتاج واحد هو الخنوع للحاكم

يمثل المدرسة الأولى كل من يضع لحما وشحما إسلاميا على هياكل الديموقراطية في دولة وطنية ويمثل الثانية كل من يدعو لسلطة مطلقة لأي متغلب

المحسوبون على المدرستين لا يدركون موقعهم ويناقش أحدهما الآخر بطريقة مرتبطة بمنهجيته فقط فيبدو للمدرسة الأخرى وكأنه يتحدث بلغة أجنبية

وفي نظري لا يمكن الفوز في هذا التحدي إلا بالخروج من التشكيلة الذهنية والقالب الفكري الغربي والعودة لتشكيلة منطلقة من ذات الموروث الإسلامي 

لتقريب الفكرة يتناقش الكثير حول تفاصيل السياسة على أساس أن المقصود بمصطلحات الدولة والسلطة والشرعية محسوم والخلاف يدور حول تفاصيل داخلها

الموروث السياسي الإسلامي لا يعترف بالمعنى الغربي لهذه المصطلحات بل يذهب أبعد من ذلك إلى مدخل مختلف تماما للقضايا المرتبطة بالسياسة


هذه إشارات فقط لبيان سبب اضطراب النقاش وفوضى الجدل في التعامل مع الموروث السياسي الإسلامي وربما تحين الفرصة لطرح موسع في تفصيل هذه الفكرة

الثلاثاء، 3 يونيو 2014

على رسلكم.. فالعولمة من جنود الله





درج الكثير من القلقين على الأمة، سواء من منطلقات إسلامية أو قومية، على الحذر والتحذير مما يسمى بالعولمة، خوفا من فرض نمط الحياة والتفكير الغربي والأمريكي تحديدا. وهذا القلق له ما يبرره، فإن الغرب في هذه المرحلة من التاريخ متفوق سياسيا واقتصاديا وعسكريا و”فنيا”، بل إنه هو الذي صنع أدوات العولمة. والإنتاج المادي والإعلامي الغربي الذي يؤثر في السلوك والفكر -بل حتى في الهوية والانتماء- قوي ومخترق.


لكن هؤلاء الذي عبروا عن القلق غفلوا عن حقيقة مهمة مرتبطة بواقع العولمة، وغفلوا عن الحتميات المرتبطة بمصيرها، والتي لا ينفع معها الحذر والتحذير، كما غفلوا عن مصالح كبيرة جلبتها.


الحقيقة المرتبطة بالعولمة هي أنها قبل أن تكون اختراقا اجتماعيا و فكريا وسلوكيا، كانت -ولا تزال- مجموع أدوات تقنية فقط، تُمكّن الإنسان من نقل الكلمة والصورة والمعلومة والفكرة أو حفظها أو تسهيل الوصول إليها، أو مخاطبة الآخرين والتفاعل معهم من خلالها. هذا الجانب التقني -وإن كان ابتكاره في الأصل غربي- فإنه متوفر لجميع البشر، يستخدمونه بما لديهم من محتوى فكري وفني وعاطفي أو بأي محتوى آخر. والتطورات الأخيرة في التقنية قضت تقريبا على احتكارها، فأصبحت فرصة استخدامها متساوية من قبل من لديه الحد الأدنى من القدرات المدنية.


أما الحتمية، فهي أن التخوف والقلق والتحذير لا يغير من الأمر شيئا، لأن من طبيعة البشر أن يستخدموا كل تقنية فيها تسهيل للحياة مهما بلغ القلق منها. وكل من يحاول تحاشي التقنية سواء كان فردأ أو جماعة أو دولة، سيجد نفسه معزولا مهزوما محاصرا متأخرا عن ركب المسيرة الإنسانية. ومن المحتوم أن يقدّم البشر ما لديهم لملء هذا الوعاء “غير المتحيز”، فيتحيز بقدر ما يوضع فيه من محتوى.


ولعل هذه الحتمية هي التي ألزمت كثيرا من المشايخ الذين كانوا يفتون بتحريم الفضائيات أن يستخدموها لبرامجهم، وألزمت من دعوا لمنع الانترنت أن يشؤوا مواقع نفع الله بها كثيرا. وبقدر ما يظن الكثير أن هذه الحتمية ذاتها مقلقة، فإن غياب التحيز في الطبيعة التقنية للأدوات وفّر الفرصة لمبارزة الثقافات المعتدية على طريقة “هذا الميدان يا حميدان”.


كون العولمة معتمدة على تقنية “غير متحيزة”، وكون استخدامها حتميا، أثبت مع الزمن إمكانية تحقيق مصالح كبيرة من خلالها، ربما تزيل في نهاية المطاف هذا القلق منها وتجعل من حاول فرضها علينا أكثر قلقا من استخدامنا لها.


ومن يرى العولمة شيطانا متغولا جديدا، يهدف لنزع هوية الأمة من قلوبها وإلباسها هويةً مصطنعة استهلاكية لا تمت لدينها أو جغرافيتها بصلة، عليه أن يعلم أن كونها في الأصل تقنية مجردة أفاد الإسلام، بل الإسلام السني تحديداً، ووصلت الإفادة حداً قل وجوده في تاريخ الأمم عامةً والإسلام خاصةً. وهذه الفوائد مصالح حقيقية، يمكن رصدها في العولمة على مسار العمل الإسلامي وبالأخص السني.


المصلحة الأولى سهولة الوصول للنص، وهذه لو لم يكن للعولمة غيرها لكفاها، فقديماً كان تخريج الحديث مثلاً يستوجب قدرة رجل كالألباني، وحتى مع وجود الكتب قد لا تستطيع أن تتعامل معها. أما الآن فإن طفلاً في العاشرة من عمره يستطيع باستخدام تقنية العولمة أن يخرج الحديث كما كان يفعله الألباني رحمه الله. هذا ليس تقليلاً من جهد الشيخ رحمه الله، لكنه تبيان لحقيقة أن العولمة أوجدت لنا نسخاً من محققي الحديث يمتلكون مهارات كبار المحدثين. وقس على ذلك باقي فروع العلم الشرعي، فكتب الفقه مثلاً تجدها كلها بلا استثناء، وأصبح ذات الطفل القادر على تخريج الأحاديث، “فقيها” في مرتبة كبار العلماء في الفقه المقارن، يستطيع أن يخرج لك المسألة في الفقه من رأي المذاهب الفقهية كاملةً، كما فعل ابن حزم في المحلى أو ابن قدامة في المغني.


والأمر لا يقتصر على الحديث والفقه، فمن خلال العولمة توفر كل ما تريد من كتب بين يديك. فمكتبة مثل الشاملة يضعها المرء في جهازه، تضم في طياتها ألوف الكتب، لم يكن يستطيع أن يحصل عليها المأمون في زمانه، فضلاً عن العلماء والمشائخ. هذه الكتب لا تدفع مقابلها مالا وتستطيع أن تجري مسحا شاملا على أي مسألة فيها دون أن تقلب صفحاتها.


المصلحة الثانية هي أن العولمة مجال للحوار بدون فرض الرأي بالقوة، سواءً ما بين أصحاب الرأي في المذهب الواحد، أو أصحاب المذاهب المختلفة داخل الدين الإسلامي، أو حتى بين أصحاب الديانات كافة. ما قبل العولمة لم نكن نسمع بمناظر غير الشيخ أحمد ديدات رحمه الله، أما الآن ففي كل فكرة عقدية أو شرعية مناظر منافح وسلاحه حجته وقوة منطقه وأدلته النقلية والعقلية. ومن نتائج تحقيق هذه المصلحة أن الناس أصبحت تستهجن من يرتكز إلى القوة في تمرير قوله وفكره، فترى التهكم بأنصار الأنظمة القمعية وأنهم لا يرتكزون على حقيقة اقناعية نظراً لتهافت فكرتهم بالأساس.


المصلحة الثالثة أن العولمة وفرت الفرصة للشخص الذي كان ممنوعا من منصات الخطاب الجماهيري أن يوصل صوته للناس بكل الثقل الذي تحمله وجهة نظره وحقيقة قوله، ومكنته من صناعة منصة إعلامية خاصة به. وبعد أن كان مالكو وسائل الإعلام “حكومات أو مؤسسات” يحتكرون منصات مخاطبة الجماهير، أصبحت الفرصة متاحة لأي شخص باعتلاء منصات العولمة. بل وتعددت الفرص داخل العولمة بين صفحات المواقع أو اليوتيوب أو الفيس بوك والتويتر. وأثبت تساوي الفرص هذا، تفوق الناس بقدراتهم الحقيقية وليس بما يمكّن لهم مالك المؤسسة الإعلامية. حتى أن متابعي بعض طلبة العلم بلغ مئات الآلاف في تويتر. فشيخ محارب في الإعلام مثلا يبلغ تدوير تغريداته آلاف المرات، بل وصلت حتى للتطبيقات خارج تويتر، كالواتس آب وغيره. ولو كنا ما قبل العولمة وظهر فينا مثل ها الشيخ لربما لم يعرفه غير أهل حيه أو مدينته على التقدير البعيد.


المصالح المذكورة أعلاه ليست حكراً علينا، بل هي موجودة عند الجميع، ولكن لعمق قناعتنا وإيماننا بأن المشروع السني سيسود في الأخير، لقوته وقربه من الفطرة حتى شابهها، ولاعتماده على نصوص الوحي التي لا ينافسها أي نص بشري. وكما سبق أن أوضحت هذه المسألة في مقالة “هل صدق بلير” في نفس الصحيفة، فالمجالدة والمبارزة مع الثقافات العالمية على منصات العولمة هي في حقل إيجابيات المشروع السني، ولربما يثبت الزمن أنه المستفيد الأقدر على تكييف وتطويع هذه العولمة بما يتوافق مع عالمية رسالته.