الخميس، 23 يناير 2014

العلمانية المضادة

إن كانت العلمانية في إحدى تعريفاتها الكثيرة تعني فصل الدين عن السياسة ، أي عدم تسيس الدين ، أو بمعنى أوضح نزع القداسة التي تعطى للدين من الممارسات السياسية عموماً ، و جعل السياسة حقلاً خالياً من التقديس ، إذ يصح فيه ما لا يصح في تأدية الشعائر الدينية ، أو التعاطي مع النصوص بشكل أو بآخر من التقديس المصاحب عادةً ، فإن ما يمكن أن يسمى مفهوم مخالفة كما عند الأصوليين أو العلمانية المضادة كما أسميتها هنا ، أن نجعل للممارسات السياسية قداسة الدين ، أو لنقل تديين السياسة .

من ذلك مثلاً ما يتم تداوله كثيراً من أن التغلب الذي يمارس في أكثر من مكان في العالم العربي و الإسلامي شرعي ، و من صلب الممارسات الشرعية المحثوث عليها ، و فيها هذا تعدٍ واضح و سافر على شخص المشرع صلى الله عليه وسلم ، فمن المتواتر عند أهل السنة والجماعة بعموم مذاهبهم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي ولم يوصي بأحد أن يحكم من بعده ، ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة الإمامية في قصة غدير خم .

وما يقال أو يشاع أن الشورى التي يفهمها الكثير من الفقهاء من كتب الفقه ، وهي ما يناط بأهل الحل والعقد فقط ، وأنها هي الشورى الشرعية ، فهذا تعدٍ  واضح وجلي أيضاً على طريقة عبدالرحمن بن عوف في قصة تولية عثمان بن عفان فقد استشار حتى النساء في خدورهن .

وجميع ما يمارس على أنه سياسة من قبل الشرعيين أو ينقد ، هو في الحقيقة مجرد وسائل لها حكم الغايات ، فالشريعة الإسلامية لم تأتي بآليات معينة في السياسة ، وإنما جاءت بمعاني ومقاصد مطلوبة ، وحثت عليها من قبيل العدل والمساواة وحفظ المال العام والشورى ، وغير ذلك ، بلا ترتيب معين وآلية معينة ، كالعبادات مثلاً ، التي كان النص فيها على طريقة التأدية لا يقبل الخروج عن النص .


ينبغي أن نتواطئ على استخلاص المعاني من الشريعة ، وعدم التعارض معها ، وأن نستخدم الآليات المتاحة ، والتأكيد على أن مزاج الأمة عامل مهم في نجاح الأفكار ، بعيداً عن الإجحاف في حقوق المسلمين بدعاوى تديين الممارسة السياسة ، وجعلها مقدسة كقدسية الكتاب والسنة ، مع إغفال أنها وسيلة لم يأتِ فيها نص صريح ، بل الغالب أنها اجتهادات فقهية لزمان غير زماننا ، ناسبتهم ولم تعد تناسبنا .

الاثنين، 20 يناير 2014

السرورية


مصطلح غير واضح المعالم أو ثابت ، بل مجرد وصف كيان ، لتيار واسع الانتشار ، في الطيف الإسلامي عموماً و السلفي خصوصاً ، متميز بنشاط فكري ، و حركي ، يعطي مجالاً للاتصال ، مع الدوائر الإسلامية ، خارج التيار السلفي ، بل و حتى خارج الدائرة الإسلامية .
أصل هذه التيار عائد للشيخ محمد سرور بن نايف بن زين العابدين ، المولود عام ١٩٣٨م في حوران في سوريا ، و الذي كان إخوانياً ( منضماً لجماعة الإخوان الإسلامية ) ، حتى حصلت أحداث عام ١٩٦٩م حين انشقت جماعة الإخوان في سوريا إلى قسمين ، بين حلب و دمشق ( الحلبيين بقيادة مروان حديد ، و الدمشقيين بقيادة عصام العطار ) ، حيث مال الشيخ محمد سرور لفرع دمشق ، ثم بعد أحداث الستينات ( نكبة الإخوان ) ، اضطر الشيخ إلى الخروج من سوريا للعمل في السعودية ( مدينة بريدة ) ، معلماً في المعهد العلمي في نفس المدينة .
و يذكر أن الشيخ أصبح قبل خروجه من أرضه غير مقبولٍ عند جماعة الإخوان في سوريا ، ولعل هذا السبب إن صح مع سابقه ، يوضح سبب خروج الشيخ منها .
من موقعه في السعودية ، قام الشيخ بالمزاوجة بين فكر الإخوان و السلفية ، أو بين ابن تيمية في مسائل العقائد خصوصاً ، و بين سيد قطب في الثورية و الحاكمية ، ليخرج لنا جيل نشط في السلفية ، يمتلك رؤيا مختلفه في مسائل الحاكمية عن المدرسة السلفية التقليدية .
أخرج الشيخ الكثير من الكتب تحت اسم مستعار " عبدالله غريب " ، و يعتبر كتابه " و جاء دور المجوس " من أشهرها ، كما أن الشيخ و رغبةً منه و من مريديه في بلورة رؤيتهم للدروس المستفادة من حياة النبي صلى الله عليه سلم ، قام بتأليف كتابٍ في السيرة اسمه " دراسات في السيرة النبوية " ، أصبح كمرجع تربوي للنشأ خاص بتلك الحقبة المهمة من التاريخ الإسلامي .
انتهى المطاف بالشيخ محمد سرور مقيماً في لندن ، بعد ترحال بين السعودية و الكويت و الأردن ، وأسس الشيخ مركز دراسات السنة النبوية ، ومجلة السنة ، و التي كانت ممنوعة في الكثير من البلاد العربية ، كما شارك في تأسيس المنتدى الإسلامي مع الشيخ محمد العبدة ، و هو المركز الذي يطبع مجلة البيان .
قصة خروجه من السعودية عام ١٩٩١م ( أزمة الخليج الثانية ) تضع أكثر من علامة استفهام حول حقيقة الأسباب الداعية للخروج والسفر إلى لندن ، ففي تلك الفترة ، انتشرت صوتيات تسيء إلى السرورية ورموزها المعروفين ، ولعل السبب يعود في حقيقته إلى رغبة الحكومة السعودية التخلص من وجود الشيخ لتفتيت التيار السروري المعارض للاستعانة بالقوات الأجنبية في الحرب .
للشيخ مواقف مشهورة مثل موقفه من أحداث الجزائر والتي وجهها في مقالته الشهيرة ( يا دعاة الجزائر لم يحن القطاف بعد ) في مجلة السنة عام ١٤١٢هجري .
تهتم السرورية بكتاب في ظلال القرآن كما هي جماعة الإخوان ، وهذا رابط بين التيارين ، ورغم أن السرورية سلفية في باب العقائد ، إلا أنها تغض الطرف عن الإشكاليات العقدية عند الأستاذ سيد قطب رحمه الله ( حسب الرؤية السلفية للعقيدة الصحيحة ) وتجعل من نظرته للحاكمية مدار الاستفادة منه .
تمتلك السرورية رصيداً عالياً من الكتابات والمفكرين ، بالمقارنة مع غيرها من التيارات والحركات السلفية الأخرى ، كما أن لها رؤيا تختلف بشكل كبير عن الجماعات السلفية الأخرى في مسائل الديموقراطية والتعددية ، ولعلها أكبر جماعة تكلمت عن هذه النقطة تحديداً من بين جماعات السلفية ، كما أن لها موقفاً متحفظاً جداً على شرعية الأنظمة العربية دون الدعوة للتكفير أو العنف .
اسم السرورية يطلقه في العادة خصوم هذا التيار ، وخاصة الجامية ( السلفية التقليدية ) ، وتتهم جماعة الإخوان بأنها هي من أطلقه عليهم لأنها أكبر المتضررين من قيام هذه الحركة بهذه الرؤيا المختلفة .
من نافلة القول أن السرورية تتكون من قسمين :

١) تنظيم غامض وغير معروف ( وهو ما يفيد به الكثير من المتابعين للحركات الإسلامية ) ويمثل النواة الصلبة للحركة .

٢) السرورية كفكرة لها أتباع كثيرون ، ومشاهير وإن لم يتبعوا الحركة تنظيمياً .

ودمتم بود .



الجمعة، 17 يناير 2014

طيب العرب


البخور :

أو العود ، قطع خشبية توضع على الجمر ، فتحترق مشكّلةً رائحة جميلة ، تختلف من قطعة إلى أخرى بحسب جودتها .
وقبل الحديث عنه ، أحب أن أذكر أن البخور عبارة عن إصابة تتعرض لها نوعية من الأشجار ، تنمو في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية ، خصوصاً في الأراضي الجبلية غير العالية ، والسفوح ذات التربة الرملية ، وكلها ترجع لفصيلة واحدة تسمى (  Aquilaria ) ، ويزيد عمر الإصابة في الشجرة عن عشرات السنين ، وتصل أحياناً إلى ١٥٠ سنة ولاستخراجها طرق كثيرة يعرفها أهالي تلك المناطق ، والجدير بالذكر ، أن القبائل في تلك المناطق تمتلك مساحات من الغابات ، وتتوارث الأشجار المصابة فيما بينها ، وقبل فترة بيعت شجرة في الهند ، تزن ثمانية كيلو جرام لتاجر عود خليجي ، بمبلغ يفوق المليون ريال سعودي تقريباً .
وهذه الإصابة تختلف من مكان إلى آخر حسب قربها وبعدها من مركز الإصابة ، فكلما قربت القطعة من مركز الإصابة ، كل ما كانت أثقل وأدكن وأجود و كل ما بعدت كل ما خف وزنها ولونها وجودتها .
ولهذه الشجرة أنواع كثيرة منها :
١) الهندي : ولونه أحمر داكن ، يميل إلى البني ، وهو نادر جداً ولا يوجد في المحلات إلا عند البعض من كبار التجار ، وقد قامت شركة أجمل باستزراعه في الهند وأنتجت نوعية لا بأس بها لكنها ليست كالقديم ، وقد يكون لقل عمر الإصابة سبب مباشر في ضعف الجودة عن السابق أو أن هناك أسباب أخرى لا أعرفها .
٢) الكمبودي ولونه مثل لون الهندي وهو نادر جداً بل غير موجود بسبب حضر الحكومة الكمبودية تصدير العود الكمبودي ، وقد يرجع سبب الحضر إلى المعابد البوذية ورغبة الحكومة في جعل هذا النوع خاصاً بها .
٣) اللاوسي : ولونه أحمر إلى البني الداكن جداً متوفر بكميات محدودة في الأسواق .
٤) الماليزي : لونه أحمر فاتح إلى الغامق متوفر أيضاً بكميات محدودة ، ومثله البورمي .
٥) الأندونيسي وهو أنواع :
أ) الموروكي : ولونه بيج فاتح إلى الغامق ، مثل الخشب العادي رائحته مقبولة للجميع ومتوفر في الأسواق وقد يسمى عندنا الكمبودي ، يتميز بقلة التعرجات والتجويفات .
ب) آريانا : ولونه بيج فاتح ( أفتح من الموروكي ) متوفر بكثرة ويشابه الموروكي في الشكل والرائحة .
ج) كلمنتان : لونه بيج غامق يميل إلى السواد شكله كثير التعرجات والتجويفات له رائحة زكية جداً ويمتاز بقوة ثباته في الملابس لفترة طويلة ، مرغوب عند أهل القصيم ، عيبه الوحيد قطع الصمغ ، فقد تصادف قطعةً منه فيها صمغ وعند الاحتراق تكون الرائحة كريهة لا تطاق ، فينبغي توخي الحذر عند وضعه على المدخنة .
د) جابورة : لونه مثل الكلمنتان ، شكلاً ولوناً له رائحة زكية جداً وهو متوفر .
هـ) جاوي : لونه بني غامق جداً ، يميل إلى السواد ، له رائحة قوية حادة جداً تصل إلى الإزعاج كما يوجد فيه الصمغ مثل الكلمنتان . 
جميع خشب العود بلا رائحة إلا الكلمنتان ، بمعنى إذا شممت خشب عود له رائحة وغير متعرج وبلا تجويفات فاعرف أنه صناعي بلا شك ، وعند معاينتك لخشب العود ، ستلاحظ وجود خطوط داكنة وفاتحة بالترتيب ، فكلما كانت الخطوط الداكنة أكثر كلما كان أفضل ، وهذا يعني أن العود جيد جداً ، هذا بالإضافة إلى الوزن كما أسلفنا ، دخان العود من بعيد مقارب للون الأزرق ، والدخان الأصفر يعني أن العود مجرد خشب من أقرب عمارة .
يشترك العود الطيب مع الصناعي في كثرة الزيت ، فلا تغتر بكثرة الزيت أو تشك بجودة العود ، بل يجب عليك إتباع الأساليب الأخرى كالشكل والخطوط والوزن .
يقال أن العود له طعم مر في اللسان ، ولا أدري عن صحتها ، كما أنه من الشائع أن العود لا يقلب كي لا تفسد رائحته وهو ليس بصحيح ، بل الغرض من ذلك عادة وتقليد في إشارة للكرم بأنهم لا يستخدمون العود مرتين .
فائدة أخيرة لا ينافس الخليج في شراء خشب العود إلا الشرق آسيويين ( خصوصاً البوذيين ) فهم يغالون فيه لتعطير معابدهم !!.
ولعل الأيام القادمة تسمح بالكتابة عن دهن العود أو العطور الشرقية والفرنسية وغيرها .
وفي الختام مادعاني لكتابة هذه التدوينة هو قرأتي لتغريدة من أحدهم يسب خشب العود ويتغنى بمثل إنجليزي لا أعلم من أين جاء به .

السبت، 4 يناير 2014

الانعطافة الدينية عند الفيلسوف جورغن هابرماز ( مقال مترجم )


الانعطافة الدينية عند الفيلسوف جورغن هابرماز


17/11/2010 
هل نعيش في مجتمع ما بعد علماني؟

ريتشارد وولن
ترجمة: خالدة حامد


سادت بين مفكريّ القرن التاسع عشر قناعة لا يمكن الارتياب بصحتها تقول بأن مركزية الدين الثقافية أمست شيئاً من الماضي. ويرى هيغل ـ مقتفياً أثر الأنوار – أن دقة العقل المفهومية المتفوقة قد تجاوزت الدين. ويصور لودفيغ فيورباخ في كتابه “ماهية المسيحية” العلاقة بين “الإنسان” و”الله” بوصفها لعبة حاصلها صفر. ونجد في موقفه هذا أن التركيز على التقوى ينتقص من سمو غايات الإنسان. وفي أحد أعماله المبكرة كتب ماركس (الشخصية الأشد تأثيراً في فيورباخ) أن “الدين أفيون الشعوب” واعتقد أن إبطاله هو شرط ضروري لرفاهية الإنسان. وغاص نيتشه في أعماق المسألة من خلال أناه الأدبية، نبيه زرداشت، ليعلن بفظاظة “موت الله” ملخصاً بذلك ما كان يفكر به الكثير من المثقفين الأوروبيين لكن قلة منهم كانت لديه الشجاعة لقول ذلك. ومن يمكن له أن ينسى تشخيص الفيلسوف الألماني الدقيق للمسيحية بوصفها “أخلاق العبيد”: نظام اعتقاد عامة الرومان الذي يلائم الملتزمين المتخوفين. ويرى نيتشه أن الممثلين الوحيدين للمسيحية والذين يستحقون الثناء هم الذين يستطيعون أن يجدوا متعة بالغة في محاكم التفتيش التي يصدر عنها فعل الإيمان(1)، مثل أغناطيوس لويولا. وقلّما كانت تشخيصات القرن العشرين لمسألة الاعتقاد أكثر سخاءً، وهنا لا يحتاج المرء إلى أكثر من الاطلاع على عنوان آخر بحث قدمه فرويد عن الدين وعنوانه (مستقبل وهم).

ومع ذلك نشهد اليوم علامات موجودة في كل مكان تفيد حدوث تغيير هائل في الذهنية؛ ففي السنوات الأخيرة كان لمختلف أشكال الأصولية الدينية أثر سياسي كبير في الولايات المتحدة والدول النامية. وبسبب تلقي المرشحين الرئاسيين الديمقراطيين جون دين وجون كيري درساً قاسياً، يجازف السياسيون المصنّفون ضمن خانة “عديمي الإيمان” بفقدان تأثيرهم على شرائح كبيرة من جمهور الناخبين. فهل أن الفلاسفة المعاصرين مستعدون لتحدي تفسير هذه التطورات الأخيرة المذهلة، وتوضيح مفاهيمها؟ وباعتبار أن فرويد يعكس قيم العصر العلمي حقاً، فإن ما رفضه عموماً بوصفه “وهماً” يبدو قد عاد من جديد بقوة وعلى نحو غير متوقع؛ عودة ليس ثمة سوى علامات قليلة لإبطالها قريباً.
وهنا نجد أن فلسفة هابرماز الأخيرة تعدّ حالة مثيرة في هذا الصدد؛ فبعد موت جاك دريدا في تشرين أول الماضي بدا أن هابرماز ورث، وبعدالة، لقب الفيلسوف الأول في العالم إذ تلقى في الخريف الماضي جائزة رفيعة المستوى هي جائزة كيوتو للفلسفة الأخلاقية (التي سبقه إليها كارل بوبر وبول ريكور) وبذا فقد برز حدث في مساره المهني الحافل بالامتيازات وبعدد كبير من المناظرات العامة رفيعة الشأن. ويمكن القول أن رائعة هابرماز في ميدان الفلسفة الأخلاقية “أخلاق الخطاب” التي استلهم مادتها من كتاب إيمانويل كانت “الأمر القاطع” لابد من أن تجتاز اختبار “الكليّة” universality؛ إذ ينبغي للمرء أن يكون قادراً على أن يرغب بأن يتصرف أيما امرئ في موقف مشابه بهذه الطريقة. ويعدّ الكذب والسرقة ـ من منظور كانت ـ لا أخلاقيين لأنهما دون مستوى الكليّة: فقط عند الخشية من الوقوع في تناقض ذاتي خطير يرغب المرء في أن يصير الكذب والسرقة من القوانين الكليّة. ولاشك في أن بمقدورنا تصور عدد من المواقف الاستثنائية التي يمكن لنا فيها تبرير الكذب أو السرقة.

ويقدم كانت مثالاً عن رجل يقف عند الباب، ينوي قتل حبيبته، فيتحرى مكان وجودها. أو ربما يمكن لنا أن نتناول حالة رجل بلغ من الفقر حداً يمنعه من شراء الدواء الضروري لإنقاذ حياة زوجته التي وصلت، في ذلك الموقف، إلى قناعة مفادها أن السرقة جائزة. قد يشعر أنصار ذلك، في المثالين معاً، أن أفعالهم يبررها الظرف ومع ذلك يبدو أن موقف كانت ثابت تماماً لأن الاحتكام إلى الظروف قد يثقل الأعباء المفروضة على قدرتنا على اتخاذ القرار وقد تبدي قدراً لا بأس به من التعاطف الشعبي لسلوك ما كان له أن يكون مقبولاً لولا ذلك. لكنه لا يستطيع مطلقاً أن يحول فعلاً لا أخلاقياً إلى “أخلاقي” ولهذا نجد أن ثمة سبب وجيه يدعو كانت إلى إطلاق صفة “القاطع” على لفظة “الأمر” [في عنوان كتابه] لأن الأمر الذي يقبل الاستثناءات ليس أمراً بالمرة. تعدّ مقاربة هابرماز للفلسفة الأخلاقية مقاربة كانتية على الرغم من أنه يستثني الإطار الأنوي الذي يوظفه كانت؛ فهو يعتقد أنه كي يكون المرء مقنعاً عليه أن يبني استدلاله الأخلاقي على قاعدة شعبية وعريضة. ويسعى كتاب “أخلاق الخطاب” إلى موازنة حدود المقاربة الكانتية ولذلك يرى هابرماز أن تبادل الرأي عند البرهنة ـ بوصفه سيرورة تعلم ـ يشكل مفتاحاً لا يمكن الغنى عنه. ومن خلال العقل الاتصالي الذي يسعى لتحقيق فهم متبادل نتعلم أن نتبنى وجهة نظر الآخر وبذا نتوصل أيضاً إلى تقدير مدى ضيق منظورنا الفردي. يقترح كتاب “أخلاق الخطاب” ان تلك الأفعال أخلاقية ويمكن تبريرها عبر حوار عام صريح وأصيل، وتوحي صيغته أنه” لا يمكن لأية معايير ادعاء الصلاحية ما لم تلق (أو يمكن لها ان تلقي) قبول المعنيين كلهم ضمن دورهم كمشتركين في الخطاب التطبيقي). وهنا يكون تفاعل التبادل الخطابي ـ أي، محاور سيرورة الاستدلال ـ حاسماً بالقدر الذي يساعد فيه على التعالي على المحددات المتأصلة في وجهة نظر فردية صارمة.

حتى عهد قريب كان هابرماز معروفاً بأنه مفكر علماني تماما، ومع أن كتاباته تناولت مرة موضوعات أو ثيمات دينية لكن تلك اللحظات محض استثناءات ولا يمكن ان تصير قاعدة. ومع ذلك ، قبل سنوات قليلة بدأت نبرة أعماله تتغير باعتدال وقد تلقى في خريف عام 2001 جائزة السلام رفيعة المستوى من رابطة بائعي الكتب الألمانية، وكان لعنوان كلمته في الحفل” الإيمان والمعرفة” وقعاً لاهوتياً. كما شدد الخطاب الذي ألقاه بعد مدة قصيرة من هجمات الحادي عشر من أيلول على أهمية التسامح المتبادل بين المقاربتين العلمانية والدينية في الحياة. وخاض هابرماز في السنة الماضية حواراً علنياً رفيع المستوى مع الكاردينال جوزيف راتزنغر (الذي تولى في التاسع عشر من نيسان منصب خليفة البابا جون بول الثاني) بناءً على رغبة الكادرينال. وقد تفاجأ عدد من أصدقاء واتباع الفيلسوف اليساريين برغبته بالتحاور مع واحد من أشد الأساقفة الأوربيين محافظة . ونشر هابرماز عام 2002 نقداً لاذعاً، عنوانه ” دفاعاً عن الإنسانية” قدم فيه دفاعاً بليغا عن الحق بالحصول على هوية إنسانية متفردة ـ الحق الذي يتعرض للمخاطر والذي بدا مثيراً لفضول الكاردينال واهتمامه.

ومع ذلك إذا تتبعنا مسار تطور هابرماز الفكري لا نجد غرابة في موقف راتزنغر. وإذا ألقينا نظرة على أبرز عمل فلسفي عند هابرماز (مجلدي كتاب نظرية الفعل الاتصالي 1981) الذي يتناول واحدة من أبرز أفكاره وهي” تلسين المقدس”، نجد أنه يؤكد من خلال هذا الاصطلاح أن المفاهيم الحديثة من قبيل المساواة والعدل هي صيغ علمانية لمفاهيم يهودية ـ مسيحية قديمة. ولعل من الصعب ان نتصور ” نظرية العقائد” في السياسة ـ التي استمدينا منها مفهوم “الحكم بموافقة المحكوم” ـ بمعزل عن العهد القديم من التوراة. وبالمثل، فان فكرتنا عن القيمة الجوهرية للأشخاص كلهم ـ التي هي مهاد حقوق الإنسان ـ تنبع مباشرة من المفهوم المسيحي لمساواة الرجال والنساء كلهم عند الرب . ولو اختفت هذه المصادر الدينية القيمة من الأخلاق والعدل بالمرة ، لكان مشكوكاً به ما إذا كان بمقدور المجتمعات الحديثة إبقائها عندها . ولخص هابرماز، في مقابلة أجريت معه مؤخراً، هذه الرؤى على النحو الآتي: ” في الفهم الذاتي المعياري للحداثة عملت المسيحية كأكثر من محض مبشر أو محفز، أما نزعة المساواة الشمولية التي منها نبعت مفاهيم الحرية والحياة الجمعية المتضامة وسلوك الحياة المستقل والانعتاق، وأخلاق الفرد وضميره، وحقوق الإنسان والديمقراطية فهي الإرث المباشر لأخلاق العدالة اليهودية وأخلاق المحبة المسيحية. وقبل ثلاث سنوات ، نشرت دار MIT كتاب “الدين والعقلانية: مقالات في العقل والله والحداثة” ، وهي مجموعة مثيرة من كتابات لهابرماز تتناول ثيمات دينية حرَّرها وقدّم لها ادواردو منديتا، فيلسوف ستوني بروك.

وتختتم هذه الانطولوجيا بمقابلة مذهلة يعمد فيها الفيلسوف إلى توضيح آرائه في مختلف الموضوعات والمغزيات الدينية توضيحا منهجياً. كما صدر مجلد آخر عن دار روتلج مرافق لهذا الكتاب عنوانه “مدرسة فرانكفورت والدين: مؤلفات أساسية بقلم كبار المفكرين (وهو أيضاً من تحرير منديتا). ونجد من ناحية ان عودة الدين تضع في طريقنا أخطاراً ومجازفات لا يمكن نكرانها، ولعل هابرماز ـ الذي يبدو كثير الانشغال بالموقف الأمريكي ـ يتمادى إلى الحد الذي يتحدث فيه عن مجتمعات ما بعد علمانية. فبينما أن الدين ـ بوصفه لطفاً إلهياً ـ قد زود الرجال والنساء بالعزاء عن قسوة القدر ولاعدالته، لكنه غالباً ما علمهم ضرورة الاستمرار، سلبياً، بالشعور بالرضا عن قدرهم، كما أنه يبخس من قيمة النجاح الديني ويشحن المؤمنين بوعد النعيم الأبدي في الحياة الأخرى. وهنا تكمن الخطورة في ان الدين يشجع موقف السلبية الاجتماعية وبذا يتنافى مع حاجة الديمقراطية إلى المواطنة الفاعلة.

والطريف أن أسطورة السقوط الإنجيلية تصوّر التاريخ العلماني كقصة انحدار أو هلاك لا ينبع منها سوى القليل من الخير. ومن ناحية أخرى نجد أن نجاح سياسة عدم التدخل الحكومي بوصفها النموذج الاقتصادي المفضل يعني أن مسيرة انتصار الرأسمالية العالمية تواجه اليوم شيئا من المعارضة الحقيقية، وبهذا الصدد يكون للدين دوراً مهماً عليه أن يمارسه؛ فهو يمنع مواطنيّ المجتمعات العلمانية الحديثة من أن تكتسحهم المتطلبات الشمولية للحياة المهنية والنجاح الدنيوي، كما يقدم بُعداً ضرورياً يخص “الآخرية”؛ فالقيم الدينية من قبيل الحب والمجتمع والتقوى تساعد على موازنة الهيمنة العالمية لأنماط الفعل البراجماتي والستراتيجي التي تفرض هيمنتها سلفاً على الواقع المهني وبذا فان القناعات الدينية تشجع الأفراد على التعامل مع الأشخاص بوصفهم غايات بذاتها بدلا من التعامل معهم بوصفهم وسائل. وقد لاحظ الفيلسوف ماكس هوركهايمر، العضو البارز في مدرسة فرانكفورت، أنه “لإنقاذ المعنى غير المشروط” ـ أي المعنى الذي يبرز بصفة خير تام ـ “فإن هذه المحاولة تبدو عقيمة إن تمت بدون الرب”. ومن غير المرجح لهابرماز، بوصفه مؤمن الأنوار، أن يصل إلى هذا الحدّ لكنه مع ذلك لا ينفي أن قول هوركهايمر يقدم تذكيراً في الوقت المناسب يخص مخاطر وغوايات العلمانية الشمولية. ومثلما أكد هابرماز في محاضرة عامة مؤخراً: “إن قوة السنن الدينية وقدرتها على صياغة البديهات الأخلاقية فيما يتعلق بأشكال الحياة الإنسانية المحترمة تجعل من التمثلات الدينية المتعلقة بالقضايا السياسية ذات الصلة مرشحا جاداً لمضامين حقيقة ممكنة يمكن عندئذ ترجمتها من مفردات مجتمع ديني محدد إلى لغة مفهومة عموماً”. ولهذا، مهما كانت مفاهيمنا الفلسفية العلمانية قوية ومقنعة ـ كفكرة حقوق الإنسان على سبيل المثال ـ فإنها تستفيد، من حين لآخر، من اتصالها المتجدد بأصولها المقدسة.

وقد قدم هابرماز في نيسان منظورا اكثر منهجية يخص دور الدين في المجتمع المعاصر في مؤتمر دولي عن ” الفلسفة والدين” في جامعة بولانذر لودر. وكان من أبرز ما قدمه هابرماز في بحثه” الدين في النطاق العام” هو فكرته الجديرة بالثناء التي يقول فيها ان “التسامح أساس الثقافة الديمقراطية؛ هو مسار باتجاهين دائما، ولهذا لا ينبغي فقط ان يتسامح المؤمنون إزاء اعتقادات الآخرين، بما فيها عقائد غير المؤمنين وقناعاتهم ، فحسب بل ان من واجب العلمانيين غير المتدينين أن يثمنوا قناعات مواطنيهم الذين يحركهم دافع ديني. وإذا نظرنا من منظور نظرية الفعل الاتصالي الهابرمازية نجد ان هذا القول يوحي بضرورة أن نتبنى وجهة نظر الآخر. ولعله سيكون من غير المعقول ان نتوقع أن يتخلى المتدينون بالمرة عن قناعاتهم الراسخة عند الدخول في النطاق العام الذي يصير فيه الاستدلال العقلاني نمط خطابنا الأساس.

ولنأخذ حالة معينة بنظر الاعتبار: إذا تأملنا في المثالية الدينية التي غذّت حركة الحقوق المدنية في الخمسينيات والستينيات نجد عندئذ مثالاً رائعاً عن الطريقة التي يمكن بها استحضار معنى العدالة الإنجيلي وتطبيقه على مشكلات اجتماعية معاصرة. وكان الراحل جون راول هو الفيلسوف الذي تناول هذه القضايا بمباشرة ودقة في السنوات الأخيرة. وأشار هابرماز في بحثه في لودز إلى أفكار راؤول، ولعل أهم ما ذكره راؤول عن دور الدين في السياسة الحديثة هو تحذيره إلى ضرورة أن تكون الأسباب الدينية قابلة للترجمة إلى أشكال جدل علمانية بغية الحصول على فرصة معقولة من التقبل العام. لكن في حالة الموظفين العموميين مثل السياسيين والقضاة يرفع راؤول الحاجز العلماني إلى درجة أعلى لأنه يرى أن لغتهم السياسية ليس فيها سوى فسحة صغيرة يمكن فيها اللجوء إلى أسباب غير علمانية تتسم بالوضوح والمباشرة ما يؤدي إلى إثارة الشقاق قطعاً ولا سيّما إذا أخذنا تنوع الاعتقادات الدينية بنظر الاعتبار. ومثلما يؤكد هابرماز، مردداً صدى راؤول (الاحتكام التام إلى أنماط الاستدلال العلمانية)، فإن هذا الطلب الملِّح لا يمكن طرحه إلى بين أيدي السياسيين الذين يخضعون، ضمن مؤسسات الدولة، إلى الالتزام الذي يقضي عليهم بتوخي الحياد أمام المنظورات العالمية المتصارعة، أي بعبارة أخرى يمكن أن يكون ذلك حال كل من يتقلد منصباً عاماً أو من يكون مرشحاً لمثل هذا المنصب. وبذا ينبغي لكل مواطن أن يعلم أن الأسباب العلمانية فقط هي التي تقف خلف العتبة الرسمية التي تفصل النطاق العام غير الرسمي عن البرلمانات والوزارات والإدارات.

وقد بذل هابرماز، من خلال معرفته العميقة التي تفتح أفقها الواسع على مكانة الدين الخاصة داخل الجدل السياسي العام، جهداً ملحوظاً في توضيح أبعاد التسامح في إطار التعددية الثقافية. ولعل الأمل بديمقراطية عادلة لن يكتب له أن يرى النور من دون منظوره هذا لأن معيار نظم الاعتقاد الدينية التي ترغب بالتعريف بتوصياتها الأخلاقية هو القدرة على تبني وجهة نظر الآخر؛ إذ لا تلائم مجتمعنا ما بعد العلماني (المتغير باستمرار) سوى تلك الأديان التي تملك القدرة على تطويق أو تعليق غوايات النرجسية اللاهوتية، أي القناعة بأن دين ما لوحده يوفر طريق الخلاص الشمولي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ

(1) فعل الإيمان: الاحتفال الذي يرافق إصدار حكم الموت من قبل إحدى محاكم التفتيش على شخص متهم بالهرطقة، والذي يتبع عادة بتنفيذ الحكم من جانب السلطات الدنيوية ويتمثل الحكم بإحراق المهرطق. (المترجمة).