السبت، 27 سبتمبر 2014

الحوثيون في صنعاء.. المشهد السياسي والاجتماعي في اليمن.

لست من المتخصصين في الشأن اليمني، لكن طريقتي في فهم ما يجري أن أنظر للخريطة الحركية الاجتماعية السياسية، والتأثير الدولي ثم أفهم الأخبار.

المكونات الاجتماعية والحركية والسياسية التي تحدد مستقبل اليمن (سوى الحكومة) ثلاث أنواع، الجماعات المسلحة، الأحزاب، القبائل. 

الحكومة في اليمن مؤسسة ضعيفة، وسلطتها محدودة، وأجهزتها فاسدة، ولولا الدعم الإقليمي والدولي لم تتمكن الحكومة من البقاء سواء في عهد علي صالح أو بعده. 

ولا توجد قناعة لدى الشعب بالحكومة، لأنها لم تحقق مهمات السلطة، مثل الأمن، أو القضاء، أو الخدمات، بل معظم مؤسساتها خادمة لمصالح إقليمية ودولية.

وبعد إقالة علي صالح انتهى دور الحكومة، ولم يبق إلا الجيش الذي حرصت أمريكا على بقائه حتى يحارب القاعدة، لكن لأنه مخترق، انكشف أمام الحوثيين.

القبائل موزعة على كل اليمن، ورجالها مسلحون، لكنها مثل القبائل في أي مكان، تفتقر للتنظيم والتدريب والبرامج، وولائها المضمون لنفسها، وأما لغيرها فمتقلب. 

ورغم أنها تفتقر للتنظيم والتدريب، إلا أنها أقوى مكوّن اجتماعي، ولا يمكن تطويع أي منطقة لأي جهة بما في ذلك الحكومة إلا بتفاهم مع شيوخ القبائل. 

بعض شيوخ القبائل منضبط بالمبادئ والقيم، ويتحمل مسؤولية قبيلته، وبعضهم يسهل شرائه بالمال أو بالمناصب، أو بتسهيلات لعائلته وجماعته. 

الجهات الإقليمية صاحبة التأثير في اليمن، تتسابق على شراء ولاء زعماء القبائل، وإذا لم تنجح مع شيخ الشمل، تنجح مع المرتبة الأدنى من الزعامات.

لسنا هنا بصدد قائمة بمن يشترى، لكن الاجتياح الحوثي لم يكن ليحدث لولا شراء ولاءات من هذا القبيل من قبل إيران، وكذلك من جهات خليجية.

الجماعات المسلحة القوية جماعتان فقط، هما  أنصار الشريعة التي تعتبر فرع القاعدة في اليمن، والحوثيون الذين تمكنوا من اجتياح صنعاء قبل أيام.

أنصار الشريعة توسعت على أساس عقدي، مستفيدين من صعود نجم القاعدة، واستثمار مظالم الناس، والفطرة الدينية القوية للمواطن اليمني في الجملة.  

لكن هذه الجماعة في حالة حصار، فهي مستهدفة من الحكومة اليمنية، ومن الأمريكان بطيارات الدرونز، ومن دول إقليمية، ومن الحوثيين ومن غيرهم.

ومع ذلك، فلا يزال لهم قوة وحضور في أكثر من منطقة، وعلاقة قوية ببعض القبائل، وقد استفادوا من فوضى الجيش بعد الثورة، وحققوا توسعا ملحوظا. 

ويلاحظ على قاعدة اليمن، أنهم أكثر مراعاة للحاضنة الاجتماعية في أدبياتهم و تصرفاتهم، وأكثر تحاشيا للعمليات التي تعطي ذخيرة لمن يصفهم بالتطرف. 

الحوثيون تأسسوا في منطقة صعدة، وبقي نفوذهم وشأنهم محدودا جدا في تلك المنطقة، وذلك بسبب عدم تقبل الشعب اليمني لعقائدهم، حتى مع الدعم الإيراني.

لكن بعد تداعيات الثورة في ٢٠١١، وإبعاد علي عبد الله صالح مع بقاء نفوذه على قيادات عسكرية، ومع وجود مصالح إقليمية، احتاجت للحوثيين تغيرت المعادلة.

وكانت أفضل طريقة للسماح لهم بالتمدد، هو تكليف قيادات الجيش الموالية لعلي صالح بالتراجع أمامهم، وهذا كان سبب وصولهم لمنطقة عمران ثم دخول صنعاء.

الأحزاب كثيرة لكن أهمها ثلاثة: حزب المؤتمر، وحزب الإصلاح، والحزب الاشتراكي، وهذه الأحزاب لديها سلاح، لكن ليست بمستوى الجماعات المسلحة.

حزب المؤتمر ليس إلا مظلة لقيادة علي صالح، وليس فيه من المبادئ والبرامج إلا الترقيع، ولم يكن ليبقى الأقوى سياسيا لولا الدعم الاقليمي ماديا وإعلاميا.

حزب التجمع اليمني للإصلاح "حركة الإخوان" حزب ديني يتبنى الطرح الإسلامي، وهو أكثر الأحزاب تنظيما، ويتمتع بولاء قوي من كوادره، وفيه جناحان :

الجناح الأول : مبالغ في السلمية ومراعاة الظروف الإقليمية، ومتحمس للتعاون مع أي حكومة قائمة، ويرضى بالأمر الواقع، والتفاهم مع القوى الإقليمية.

الجناح الثاني : له ميول عسكرية، ويرى أن ضعف الحكومة المركزية في اليمن سبب للاستعداد الدائم للقتال، والدفاع عن المكاسب، وله كوادر مدربة ومسلحة.

الجناح الأول كان له دور في تسلم صنعاء للحوثيين، وبعض رموزه متهمة بأنها اشتُريت إقليميا لتهميش الحزب، كما كان لهم دور في تمييع الثورة. 

الجناح الثاني كان غير راض عن المبادرة الخليجية، ويعتقد أن كوادره تتجمع الآن في مدن أخرى من اليمن لمواجهة الحوثيين، وربما يتحالف مع القاعدة.

الحزب الاشتراكي كان له شأنه لأنه وريث دولة، لكن بعد أن انتهى استبداد الشيوعيين في الجنوب،  تلاشى ثقله بسبب فطرة الناس الرافضة للشيوعية.

حل محل الحزب ما يسمى بالحراك الجنوبي، وهو كيان له حضور في عدن وحضرموت، لكنه يعاني من عدة مشاكل منعته من أن يكون له التأثير المتوقع.

أول المشاكل أنه لا يزال غير قادر على تبرئة نفسه من التطرف الاشتراكي، بسبب ثقل الشخصيات اليسارية فيه، وثانيها عدم قدرته على كسب القبائل في المنطقة. 

الحراك الجنوبي بدأ سلميا، لكن ثقافة السلاح وتطورات الثورة، دفعته لتأسيس جناح عسكري، لكن لا يزال نشاطه القتالي أصغر بكثير من القاعدة والحوثيين.

نحن إذا أمام المشهد التالي: حكومة غير موجودة، جيش فاشل، الحوثيين، والقاعدة، هذه أقوى الجهات، القبائل غير مضمونة الولاء ومسلحي الإصلاح والحراك يتربصون.

بفهم هذه الخريطة، فإن المواجهة المحتملة لن تكون إلا بين القاعدة والحوثيين، لأن أيا من القوى الأخرى غير قادرة على المواجهة لوحدها بما في ذلك الجيش.

وربما تصبح هاتان الجهتان قطبين يتكتل حولها القوى المختلفة من الأجنحة المسلحة في الأحزاب والقبائل وقطاعات الجيش المتفلتة. 

على الأرجح سيصطف مسلحوا الإصلاح مع القاعدة وكثير من القبائل، وتتفرق فلول الجيش بين الجهتين، أما الحراك الجنوبي فربما يبقى مستقلا. 


يبقى عامل القوى الإقليمية والعالمية التي قطعا ستعمل لصالح الحوثيين حتى لو كانوا تابعين لإيران لأن القاعدة أخطر بكثير.

فضلت كتابتها على شكل تغريدات، لتسّهيل تداولها لمن أراد نقلها.

الاثنين، 22 سبتمبر 2014

رحلة نفسية مع التنويريين




تحدث الكثير من الكتاب والباحثين باستفاضة عن ظاهرة "التنوير" أو"الليبرالية الإسلامية" أو "العصرانية" التي غزت ميادين الفكر الإسلامي لعدة عقود(١). وكان في تناولهم لهذه القضية، تقصيا لا بأس به، يغني عنا تكرار ما قاموا به، ويدفعنا لتناول القضية من زوايا أخرى لا تقل أهمية وخطرا. ومن الزوايا التي لم تحظ بالنقاش الكافي، تفسير أسباب نزعتهم للتضايق من ثوابت مهمة في المنهجية الإسلامية، وبيان مبرر استهدافهم لهذه الثوابت والظواهر النفسية المشتركة بينهم. (٢)



من هم؟

الحديث هنا ليس عن المتربصين بالدين من التيارات الليبرالية التي تحمل مشروعا علمانيا صريحا، أو توجها لتخريب المجتمع، أو التشكيك الصريح بالدين. إنما الحديث عن تيار يحوي مجموعة، تظن أنها تخدم الدين وتحت مظلة الدين، ولا يدركون أنهم يتجرأون على ثوابت أساسية في الدين، بسبب انغماسهم بمنهجية تأخذهم بعيدا عن هذا الشعور. (٣)



تيار متفاوت والعدل مطلوب

ومن العدل القول أن هذا التيار ليس نسقا واحدا، بل هو طيف يتفاوت في جرأته على الثوابت، يمتد من متحفظ حذر يظهر بوضوح أنه قلق،يشعر بالخطيئة، وبين جريء يتهكم ببعض هذه الثوابت وكأنه زنديق. ومن العدل كذلك الإشارة إلى أن الظروف والسياقات الاجتماعية والسياسية، تختلف من شخص أو بلد لآخر. بعضهم يعيش في جو من الجهل والتراكمات الفكرية المغلوطة، والضغوط الاجتماعية والسياسية، والجرأة على الدين، وقلة المتدينين، مما يدعو لتفهم ما يقع فيه، والآخر يعيش في وجود فكري واجتماعي خال من الضغوط، وفي وسط غزير العلم لا يمكن أن يساق له فيه عذر(٤). استحضار هاتين الحقيقتين ضروري في قراءة هذا المقال، حتى لا يحمل ما فيها وكأنه نمط ينطبق على الجميع.



توافق تلقائي وليس مؤامرة 

الميل للتنوير ليس مؤامرة تدار من خلف الكواليس، أو من قبل جهات خفية تتحكم بهذا العدد الكبير من الكتاب والمفكرين والمثقفين، بل هو تلاقٍ طبيعي لمن يحملون نفسية الهزيمة، وضعف الانتماء، وتخلخل الثقة بالنصوص الشرعية(٥). ولهذا السبب يتقوى التنويريون أو العصرانيون ببعضهم البعض تلقائيا، وتتوازى أطروحاتهم رغم اختلافهم في درجة الجرأة على الثوابت.



المسيرة النفسية للتنوير 

وما دامت المشكلة ليست مؤامراتية، فلماذا يصطدم التنويريون مع ثوابت عظيمة في الدين، مثل النص الشرعي، وعدالة الصحابة، وقضايا الهوية، والانتماء، ومفهوم الجهاد؟ لا يمكن الإجابة على هذا السؤال إلا إذا أدركنا أن الصدام مع هذه القضايا ليس بذاته أصل مشكلة التنويريين، بل هو نتيجة طبيعية لمسيرة نفسية، ابتدأت بانطلاقة انهزامية تأسست عليها منظومتهم الفكرية، ووضعتهم على سكة لا يمكن الاستمرار فيها إلا بالتشكيك بهذه الثوابت. (٦) 



الخطوة الأولى: إعجاب بالأنموذج الغربي على مستوى الممارسات.

يعيش المفكر أو المثقف التنويري في مجتمعات إسلامية حافلة بالتخلف السياسي والاجتماعي، والاستبداد السياسي، والضعف العسكري والتقني والخدماتي، وغياب العدل والحرية والكرامة.في المقابل ينبهر هذا المثقف بنماذج حقيقية لأنظمة حكم غير إسلامية، توفر ما يتطلع له من عدل وحرية كرامة، ومشاركة سياسية، ومحاسبة وشفافية، واستقرار، وقوة عسكرية، وتقدم تقني وخدماتي، و هي أنظمة غير خاضع لتقلبات سياسية أو مشاكل عسكرية أونزوات شخصية. (٧)



الخطوة الثانية: من الإعجاب بالممارسات إلى الإعجاب بالفكر. 

هذه النماذج الغربية المبهرة، ليست هيكلا سياسيا مبتورا، ولا قائمة قوانين عارية، بل هي تراكم تاريخ حضاري شامل، تداخلت فيه الممارسة الاجتماعية مع النشاط السياسي، ثم تأصلت بتراكم فكري وفلسفي ضخم (٨) صدر عن تفاعل مع معطيات التاريخ والأحداث، فأنتج الأسس والمبادئ والمنطلقات التي صارت وعاء، يحمل التركيبة السياسية والاجتماعية في الدول الحديثة. 



الخطوة الثالثة من الإعجاب بالفكر إلى القبول بمرجعيته 

وبسبب قوة هذا التنظير والتأصيل، يجد التنويري نفسه و قد تبناه شعوريا أو لاشعوريا، فتنتقل المواجهة في ذهنه، من مواجهة النماذج الحالية في العالم الإسلامي، إلى التأصيل السياسي الإسلامي نفسه (٩). هذه المواجهة ليست في التفاصيل، بل في أصل منهجية التفكير والتصور لأكثر القضايا أهمية في المنظومة السياسية الإسلامية، وهي مفاهيم الدولة والأمة والانتماء.  



الخطوة الرابعة: صدام المفاهيم 

الخلاصة التي توصل لها التنويريون، أنه لا يمكن أن تتحقق الحرية والكرامة، والعدل، والمشاركة السياسية، والمحاسبة، والشفافية، إلا بالديموقراطية في ظلال كيان قطري واضح الحدود، ودولة تملك سلطة التشريع بتفويض من الشعب، ونظام دولي قائم على السلم العالمي. هذه المفاهيم الثلاث، سببت بدورها ثلاث صِدامات وطأت للحالة التنويرية التي نتحدث عنها: 



الصدام الأول: في مفهوم الانتماء والهوية، الموجه للكيان القطري بحدوده الآمنة المتفق عليها عالميا، وحتى لو فكر التنويري بانتماء إسلامي، فهو انتماء روحي عاطفي دون تطلع لوحدة المسلمين في كيان سياسي واحد. وبما أن النصوص الشرعية قطعية وصريحة، في تأصيل مفهوم الأمة الواحدة في كيان سياسي واحد، فلن يكون غريبا أن يصبح هذا الموضوع أحد أسباب صدام التنويريين مع النصوص الشرعية. 



الصدام الثاني: في مفهوم "من نحن ومن الآخرون"، فتماما مثل الفكر الغربي نحن مواطنو القطر الفلاني، والآخرون مواطنو الأقطار الأخرى، ولا مجال للتصنيف الديني لهذه العلاقة. وتبعا لذلك، فإن كل المفاهيم التي لها علاقة بالحرب مرتبطة بالدفاع عن حدود هذا القطر أو مصالحه، ولا مجال للتفكير بالجهاد، لأن العلاقة مع الآخر مبنية على السلم العالمي. وغزارة النصوص الشرعية في تصنيف البشر على أساس ديني (مسلم وغير مسلم)، وغزارتها في الحديث عن الجهاد بمفهومه الشرعي الواسع، تجعل هذه النقطة سببا آخر في صدام التنويريين بالنصوص. 



الصدام الثالث: في مفهوم التشريع، فبناءً على الديموقراطية، يعبتر المشروع التنويري سيادة الشعب فوق سيادة الشرع، ويجعل الشعب المصدر النهائي للتشريع، وهذه بالضرورة مصادمة للنصوص الشرعية. ومهما تحايل التنويريون في إيجاد صيغ تزاوج مع الشريعة، فلا يمكن للمفهوم الديموقراطي بمظلة الدولة القطرية الحديثة أن يظهر للوجود، إلا بجعله مهيمنا على الشرع مع مصادمته الصريحة للنصوص الشرعية. (١٠)



الخطوة الخامسة: المواجهة المباشرة مع النص "الكتاب والسنة".

بهذا الطرح يكون التنويريون في مواجهة مع كل نصوص الكتاب والسنة المرتبطة بالمنظومة الإسلامية السياسية، وما يلتحق بها من نصوص اجتماعية وتربوية وعقدية.  المشكلة ليست ممارسات الحكم الإسلامي الخاضعة للاجتهاد، ولا أقوال الفقهاء وآراء العلماء غير المعصومة، بل نصوص القرآن والسنة الصحيحة مباشرة (١١). هذه المواجهة لا يمكن أن تدفع التنويريين لإلغاء الكتاب والسنة، فهم يعتبرون أنفسهم ملتزمين بها، لكن قطعا ستدفعهم للبحث عن مخارج يبقون فيها - في ظنهم - داخل هذه الدائرة، ويحافظون على طرحهم المصادم لها. 



المشكلة مع القرآن لا يمكن تفاديها بإنكار آيات القرآن (١٢)، لكن يمكن بحيل أخرى منها التلاعب بالتفسير، وذلك بادعاء أن القرآن حمال أوجه(١٣)، ومنها المبالغة في الحديث عن السياق المكاني والزماني والظروف التي تنزل فيها القرآن، وادعاء أن قواعد الشرع فيها ما يجيز تعطيل العمل ببعض الآيات، حين تتغير الظروف والسياقات، ومنها التوسع في استخدام حيل الناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيد، والخاص والعام.. الخ.

المشكلة مع الحديث أهون من القرآن، لأن التشكيك في بعض الأحاديث ممكن، وقد سبقهم في ذلك طوائف كثيرة هونت عليهم الطريق. أول الحيل، رفض حجية خبر الآحاد، التي يقوم عليها الجزء الأكبر من المنظومة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الإسلام(١٤). ثاني الحيل، التشكيك بأصح كتابين في الحديث، وهما البخاري ومسلم، وإيراد الأدلة المزعومة على ضعف أحاديثهما، مما يعني أن التشكيك بغيرهما أولى(١٥). ثالث الحيل، رفض مبدأ عدالة الصحابة كذريعة للتشكيك بالحديث، لأن كل الأحاديث الصحيحة نقلت لنا عن طريق الصحابة(١٦). رابع الحيل،وأجرأها جميعا، هي اعتبار الجهود التي بذلها العلماء، في جمع الحديث وتدوينه وترتيبه وتصحيحه، ليس إلا تجربة عابرة لا تختلف عن تدوين التاريخ(١٧). 


الخطوة الأخيرة: تشكل ظواهر مشتركة لأصحاب هذا التيار

المواجهة مع الكتاب والسنة تتسبب في مجموعة من الظواهر، يشترك فيها معظم المحسوبين على هذا التيار، ويمكن رصدها بشيء من الجهد بعد استحضار تسلسل تطور المواجهة. ولا يقصد بسرد هذه الظواهر الرد عليها، بل القصد هو بيان اشتراك من ينتمي لهذا التيار في تبنيها. 



الأحكام الصغيرة للعلماء والكبيرة لنا  

الافكار التي يطرحها أصحاب هذا الرأي، قد لا تبدو فتوى في ظاهرها، لكنها في الحقيقة أخطر من فتوى عادية، فهي رسم لمنهج كامل في التعامل مع الدين. تعطيل النصوص والاعتماد على نصوص مبتورة، أو خارج سياقها، أو استخدام التاريخ، مسلك أخطر شرعيا من فتوى محدودة لعمل محدد. وعلى الأرجح أنهم لا يدركون ضخامة الجرأة على الفتيا، لأن القليل منهم فقط يتجرأون على الفتاوى الصغيرة. ولذلك يلاحظ عليهم الاسترخاء الكامل، والثقة بالنفس وهم يتحدثون أو يكتبون في هذه القضايا، التي تعتبر أمهات الفتاوى وأصول التشريع(١٨).



الأسلوب المقاصدي هو الحق

من بين المظاهر التي يشترك في ترديدها كثير من هؤلاء، اللجوء لما يسمى بـ "الفقه المقاصدي" ، ويقصد به الطريقة التي سلكها الشاطبي في كتابه "الموافقات"، وكانت من أعظم المدارس في تناول أصول الفقه. وحيلة الفقه المقاصدي جذابة ومريحة، لأن السعي لتحقيق المقاصد (الغايات) في السياسة والاقتصاد والاجتماع، يريحهم من اعتبار النصوص التفصيلية، التي تصادم تركيبتهم الفكرية المبنية على النموذج الغربي(١٩).

التاريخ والمنطق من مصادر التشريع

من ضمن ما يتشابه به أتباع هذا التيار، الاستعاضة عن المنهجية الشرعية المنضبطة، بأسلوب يتلبس لبوس الأكاديمية، يختلط فيه القرآن والحديث مع التاريخ، والمنطق وأطروحات أخرى بزعم الأكاديمية. بعض المنتمين لهذا التيار، يظنون أن وزن الأحداث التاريخية، والممارسات في الحكم الإسلامي، لها نفس ثقل الآيات والأحاديث، ويشبهون عملهم بعمل الإمام مالك حين اعتبر عمل أهل المدينة حجة(٢٠). وحتى يضفوا مزيدًا من الأكاديمية (المحكّمة) على الطرح، فإنهم يسردون الأقوال بطريقة تبدو شاملة، مستقصية على طريقة البحوث الإنسانية الغربية. 



استخدام الأقوال "غير المعتبرة"

تاريخ الفقه الإسلامي القديم والحديث، مليء بالأقوال الشاذة والغريبة والضعيفة التي يتجاهلها العلماء تلقائيا، أو يشيرون إليها من باب التنبيه، لأنها طرحت خارج إطار المنهج الشرعي المنضبط. في هذه الأقوال كثير مما يحبه هؤلاء، خاصة ما صدر في بدايات ما يسمى بعصر النهصة، من أمثال الافغاني ومحمد عبده، وحديثا بعض الأقوال لابن بيه والريسوني. وإحالة الرأي لشخصيات مشهورة مثل هذه، يبرئ الباحث التنويري من مسؤولية التساهل في الدين، لأنه أحال الرأي إلى شخصية دينية مشهورة وليس لذاته شخصيا. (٢١)



أنتم أعلم بأمور دنياكم 

يكاد يجمع أصحاب هذا التيار، على الاعتماد على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في شواهد صحيح مسلم "أنتم أعلم بأمور دنياكم" (٢٢)، التي جاءت في سياق رأيه  -صلى الله عليه وسلم- عن تلقيح النخل. وتعتبر هذه الرواية مشروعا كاملا عند التنويريين، لأنها فتحت لهم مساحة لا حدود لها يمكن تنزيلها عليها. فعلم السياسة وعلم الاقتصاد وعلم الاجتماع، كلها من أمور الدنيا التي نحن أعلم فيها، إلا ما جاء النهي عنه تحديدا. بل حتى ما جاء النهي عنه تحديدا، مثل الربا يمكن الالتفاف عليه بأننا أعرف بأمور دنيانا، وإثبات أن الممارسة الفلانية ليست ربا، والممارسة الفلانية ليست غررا الخ.

التناغم مع الشيعة 

يفترض بأصحاب هذا التيار أن يتضايقوا من الشيعة أكثر من السنة، بسبب غياب البرنامج السياسي في الفكر الشيعي، والتعلق بخروج المهدي، وكثرة الروايات الخرافية في التراث الشيعي. لكن المفارقة أن بينهم تناغما واضحا، وانسجاما فكريا يلاحظ في كتاباتهم وصداقاتهم. والسبب ليس مرتبطا بالنصوص الشيعية، لكنه مرتبط بتشابه المنهجية عند الفريقين في التعامل مع القضايا ذات العلاقة. يتفق الشيعة مع التنويريين في التشكيك بالبخاري ومسلم، و في عدم الاعتراف بعدالة الصحابة، وعدم الاعتراف بالحكم الأموي والعباسي، والعداء الخاص لمعاوية تحديدا. لكن الأهم من ذلك كله، هو الاتفاق على البراجماتية، حيث إن الشيعة -خاصة بعد الخميني- وسعوا دائرة التقية، فجعلوا السياسة ميكافيلية مفتوحة، وهو ذات التوجه التنويري المبني على "أنتم أعلم بأمور دنياكم". 



التناغم مع الصوفية

من المفارقات كذلك أن المنهج التنويري القائم على التجربة والإثبات والحقائق، طبقا لطريقة التفكير الغربية، يتناغم مع التصوف، رغم أن الصوفية قائمة على الخيال والكرامات، فما هو التفسير؟

 أول تفسير هو أن التوجه الصوفي لا يحبذ الخلط بين الدين والسياسة، فيما يمكن أن يعتبر علمنة للإسلام، وهو توجه مريح جدا لأصحاب التوجه التنويري لما ذكرنا آنفا. التفسير الثاني، أن الصوفية توفر وسائل بديلة للإشباع الروحي بالطرق المخترعة، وبذلك تعوض عن جفاف الروح عند التنويريين، لأن ضعف التعلق بالكتاب والسنة وتعظيمها، يؤدي إلى ضعف الإيمان وضعف التلذذ بالعبادة. 



الفشل قدر المسلمين

يكثر التنويريون من تكرار أن الفشل هو قدر المسلمين زمانا ومكانا، فنحن -كما يقولون- منذ انطلاق العهد الأموي إلى الآن، نعيش الاستبداد والتخلف، كما أن العالم الإسلامي حاليا من مشرقه إلى مغربه، محكوم بالاستبداد والتخلف. انطلقت الثورة الفرنسية والأمريكية، واستفاد العالم كله منها، ولم يستفد منها المسلمون. ويصر معظم التنويريين أن المسألة مرتبطة بالدين نفسه، والدليل: هذه الهند وباكستان تحررتا من الاستعمار البريطاني في وقت واحد، و استطاعت الهند أن تعيش استقرارا ديموقراطيا رغم تعدد الأديان والمذاهب، أما باكستان فلم تبرحها الفوضى والفساد والاستبداد. ولذلك، فحجتهم أن لا خلاص من المشكلة إلا بثورة دينية حقيقية، تشبه تجديد مارتن لوثر للمسيحية.



السلفية هي المشكلة 

يتفق معظم التنويريين على تحميل "السلفية" مسؤولية هذا التخلف السياسي والاستبداد. وهم لا يقصدون بالسلفية الجماعات المتذرعة زعما وكذبا بالسلفية من أجل تمجيد الاستبداد، بل يقصدون السلفية الحقيقية، بمعنى منهج تقديم النص الشرعي الثابت قبل الرأي بفهم الصحابة. ويتعمد معظمهم نسبة السلفية للجماعات المنظّرة للاستبداد، رغم علمهم بأنها مخالفة للسلف في طرحها السياسي. وتبعا لذلك، يكثر هذا التيار من استخدام مصطلح التغلب، والخروج، والبيعة، والطاعة، في السياق الذي يخدم هذا التضليل. ولذلك فهم يزعمون إن الطيف السلفي كله، من السلفية الجهادية، إلى السلفية الجامية، مرورا بالسلفية العلمية، مؤصل للاستبداد والطغيان(٢٣).



الحكم الإسلامي انتهى بعد الخلفاء الراشدين

معظم المحسوبين على هذا التيار يعتبرون الإسلام لم يطبق سياسيا إلا في العهد النبوي، وعهد الخلفاء الراشدين، فالإسلام لم يحكم حقيقة إلا ٣٠ سنة من ١٤٠٠ سنة. وتراث المسلمين في العهد الأموي والعباسي والعثماني والمماليك لا يعتبر تراثا سياسيا، لا من حيث التطبيق، ولا من حيث التنظير، بل هو تراث علمي مبعثر مثل تراكمات علماء أوربا في قرونهم المظلمة. ولهذا السبب يكثر الهجوم على معاوية رضي الله عنه عند التنويريين، باعتباره هو -طبقا لزعمهم- سبب ما حل بالإسلام من تبديل النظام السياسي من الانتخاب إلى الوراثة(٢٤).



حكم الخلفاء الراشدين ممارسة غير مؤصلة

يذهب بعض التنويريين إلى أن العدل والشورى والاستقرار في الخلافة الراشدة، ضربة حظ مرتبطة بتولي الخلفاء الأربعة لحكم المسلمين. ولتأكيد ذلك يحبون الاستشهاد بكلمة عمر رضي الله عنه، عن بيعة أبي بكر (فلتة وقى الله شرها) على اعتبار أن الخلافة الراشدة، ممارسات غير مدعومة بتأصيل ثابت، كما هو الحال في الفكر السياسي الغربي(٢٥). ويستخدمون هذه الحجة في ضرورة إنشاء منظومة فكرية سياسية، مبنية على مبدأ "أنتم أعلم بأمور دنياكم".



عداوة الحركات الجهادية العالمية

تُجمع هذه التيارات على التضايق من الحركات الجهادية العالمية، مثل القاعدة وداعش، وتتعاطف بقوة مع الحركات الجهادية التي تحارب المحتل، مثل حماس وفصائل من المقاومة العراقية. والسبب هو أن الحركات المقاومة للمحتل لا تربك مفهوم الدولة القطرية، بينما حركات الجهاد العالمي تجسد الصدام في كل النقاط الثلاث مع التيار التنويري. ولذلك فموقف هذا التيار من الحركات الجهادية ليس عمالة لأمريكا ولا تناغما مع الحكومات المحاربة للقاعدة وداعش بل هو دافع ذاتي بقناعات ذاتية(٢٦). 







----------------------------------------------------------------------------------



(١) من أوائل من كتب في الموضوع الدكتور محمد محمد حسين رحمه الله "حصوننا مهددة من داخلها" ومن أواخر من كتب عبد الوهاب آل غظيف "التنوير الإسلامي في المشهد السعودي" ومحمد إبراهيم مبروك "الإسلام الليبرالي". 



(٢) هذا المقال ليس ردا عليهم، ولا تفنيدا لأقوالهم، بل هو مقال وصفي للتطور النفسي الذي أدى بهم لهذه الحالة الفكرية، و أنتج هذه المواقف المشتركة بينهم.



(٣) من الأمانة التنبيه أن هذا التيار يختلف تماما عن الليبراللين العرب المتربصين بالدين، والذين يكاد يكون معظمهم من المتصهينين الخادمين لأجندة غربية أو استبدادية.



(٤) الحصار العلماني في تونس وتركيا وبيئة الجهل، يدفعنا لأن نقبل من التونسي والتركي ما لا نقبله من شخص في الخليج.



(٥) نفي المؤامرة لا ينطبق على الكتاب المأجورين الموجهين من قبل الأنظمة الحاكمة في العالم العربي، فهؤلاء يخضعون قطعا لمؤامرة، ويمارسون مهمتهم بطريقة مخابراتية يسهل كشفها. 



(٦) يخطئ من يقلب التسلسل الفكري والنفسي، ويعتقد أن مواقف فكرية وشرعية أدت إلى الإعجاب بالنماذج الغربية، فلا تكاد توجد حالة واحدة لشخص انطلق التشكيك عنده من النصوص، ثم بحث عن بديل فوجده في المشروع الغربي.



(٧) الأكثر إبهارا أن نماذج الحكم الغربي توفر ملاذا للمستضعفين من كل مناطق العالم، بما في ذلك المضطهدين من الدعاة المسلمين الذين يمارسون عباداتهم ونشاطاتهم الدعوية تحت حماية تلك الأنظمة، بل يوجهون رسالتهم من خلال وسائل التقنية الحديثة ضد الطغيان والظلم والفساد في بلادهم المسلمة.



(٨) الجانب الفكري في الطرح الغربي مذهل في تنظيم الأفكار، وتوصيف الحالات الاجتماعية والسياسية، واختراع آليات الحكم والإدارة، والإعجاب بذلك لا غبار عليه، لكن المشكلة تقع في الخلط بين الإعجاب به، والإعجاب بمنطلقات التنظير المادية العلمانية، فهنا نقطة الانحراف.



(٩) لا يدرك كثير من التنويريين عندما يصل لمرحلة مرجعية الغرب، أنه يفكر داخل وعاء غربي بمنهجية غربية، تماما مثل الذي يتعلم صنعة باللغة الانجليزية، فحين يفكر بمشكلة في هذه الصنعة، يفكر داخل دماغه باللغة الانجليزية، وهكذا التنويريون يفكرون بقالب غربي، ويحاولون ترجمة التفكير لصياغة  إسلامية.



(١٠) لفهم هذه النقطة جيدا، وتصور سبب الصدام فيها، يمكن العودة لمقالنا "متى يستقيم النقاش حول الإسلام الديموقراطي" 

http://goo.gl/88V7Ca



(١١) النصوص الشرعية فضلا عن مرجعيتها، فإن لها قدسية وهيبة، ولها قوة لغوية، ومعان عميقة، وبلاغة وحلاوة، لا يمكن أن يخطر في بال التنويريين رفضها مباشرة. وحين توفرت الفرصة مع التقنية الحديثة لانتشار النصوص الشرعية، وتوفرت المنصات لمن ينافح عنها، تبين أنها أقوى بكثير من أن يشكك فيها من انبهر بالمشاريع الغربية.



(١٢) لا شك أن آيات القرآن تشكل تحديا لكثير من التنويرين، فهي تنص على القتال والإثخان في الكفار، وفتح الفتوح ورفض مبدأ الحدود. كما تنص على قوامة الرجل على المرأة، ونصيبه المضاعف في الميراث، وضرب الزوج لزوجته. كما تنص على جلد الزاني، والقاذف، وقطع يد السارق، وأحكام القصاص، والردة، والعقوبة المغلطة للمفسد في الأرض. وكذلك تنص على تحكيم شرع الله في كل شيء، بتسليم كامل ودون أي حرج.  



(١٣) أولا الرواية المنسوبة لعلي رضي الله عنه ضعيفة، ثانيا حتى لو صحت، فلا يراد بها ترك معاني القرآن بحجة تعدد المعاني، وهذا الرابط فيه رد جيد على هذه الحجة. 

http://goo.gl/OPRAv1



(١٤) أول تشكيك في حجية خبر الآحاد، كان مع انطلاق الفكر المعتزلي، وفي هذا البحث القصير تقصٍ جيد لتاريخ التشكيك بخبر الآحاد. 

http://goo.gl/bG97BV



(١٥) أهل السنة يقرون بإمكانية مراجعة بعض الأحاديث في البخاري ومسلم، مع الإقرار أن الأصل صحة الكتابين، وقد حصلت المراجعة، وانتهت من كبار المحدثين، لكن لم يقل أحد من أهل السنة بأن الأصل في البخاري ومسلم هو الشك، وأن كل أحاديثها  قابلة للمراجعة. وكل من يشكك في البخاري ومسلم في الجملة، غير محسوب من أهل السنة. 



(١٦) اتفق أهل السنة على عدالة الصحابة، ولم يشكك بذلك عالم محسوب على أهل السنة، ويمكن الجزم بأن من يشكك بعدالة الصحابة ليس من أهل السنة. والعدالة لا يقصد بها العصمة، بل يقصد بها عدة أمور أهمها استحالة كذبهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- ، وهذا  بيت القصيد، لأن عليه الاعتماد في صحة الأحاديث. وقد كُتب في هذا الموضوع من الكتب والمقالات كثير، وهذا الكتاب أحد الاختيارات الجيدة في الموضوع

http://www.saaid.net/book/open.php?cat=1&book=415



(١٧) لم يسبق التنويريين لهذا الزعم، ولم يتجرأ عليه إلا المستشرقون، وقد راج هذا الطرح أيام الاستشراق بسبب انتشار الجهل، وبسبب قلة المنصات المتوفرة للعلماء المدافعين عن السنة، ثم تلاشت تماما بعد أن توفر العلم، وتكاثرت هذه المنصات. وكان الشيخ محمود شاكر ورشيد رضا ومصطفى السباعي رحمهم الله، من كبار من تصدوا بنجاح لهذه المزاعم.



(١٨) يتحدث بعض التنويريين عن مسائل شرعية معقدة مرتبطة بقضايا الهوية والانتماء والتشريع، وكأنه يكتب مقالة صحفية، أو بحثا اجتماعيا أو تاريخيا، ولا يتناول الموضوع من باب الموازنة بين أقوال العلماء، طبقا للنصوص الثابتة، بل يطرح الموضوع بمنهجية تعتبر فيها أدلة الشرع واحدة فقط من روافد المعرفة. 



(١٩) لم يؤلف الشاطبي رحمه الله كتابه حيلة لتعطيل النصوص، إنما لتأكيد تكامل النصوص، وحاجتها لبعضها البعض، كما جاء في كتابه الآخر (الاعتصام). قال الشاطبي "فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما تثبت به كلياتها وأجزاءها المترتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها ….وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنساناً، وكذلك الشريعة، لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، من أي دليل كان، وإن ظهر لبادئ الرأي نطق ذلك الدليل، فإنما هو توهمي لا حقيقي، فشأن الراسخين في العلم، تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة" (الاعتصام : 1/312). فأين هذا الكلام من تعطيل النصوص بحجة المقاصد؟



(٢٠) أولا لم يجعل الإمام مالك عمل أهل المدينة مصدرا مستقلا، بل أخذ به للترجيح بين الأدلة، ثانيا هذه الحجة مرتبطة بقرب عهد المسلمين في المدينة بالعهد النبوي أيام مالك، ثالثا هو لم يحتج إلا بما يغلب على الظن أنهم توارثوه من تطبيق الصحابة رضي الله عنهم، رابعا هذا المنهج مقصور على مالك فقط، ولم يأخذ به أحد من الأئمة. وللتوسع في الموضوع يمكن مراجعة هذا البحث 

http://fiqh.islammessage.com/NewsDetails.aspx?id=4192



(٢١) كما يكثر هؤلاء من نقل بعض الأقوال الشاذة لعلماء قدامى، مثل الغزالي و ابن حزم، رغم أن منهجيتهما في الأصل، وخاصة ابن حزم الذي تعارض تماما مع الطرح التنويري. 



(٢٢) الرواية فيها إشكالان: الأول أنها ليست في أصل صحيح مسلم، بل رويت في شواهد مسلم، والشواهد ليست محسوبة على نفس صحيح مسلم بشروطه، وقد حقق علماء الحديث أنها ضعيفة. الإشكال الثاني، أن معناها لو صحت مرتبط بسياق النص كله، وبقية نصوص الكتاب والسنة، فيفهم منها حدود المقصود بأمور الدنيا الفنية التي لم يرد فيها نص شرعي. أما أن نستغني عن الدين في كل أمور الدنيا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فحاشا رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يقول ذلك. لمزيد من التوسع: 

http://goo.gl/fxA3Xg



(٢٣) لا يوجد تعريف متفق عليه للسلفية، لكن يفهم في الجملة من المصطلح  كل التيارات التي تلتزم بالدليل الشرعي (النص)، وهذا التعريف يتضمن كل من يدعي ادعاءً الالتزام بالدليل الشرعي، حتى لو ناقضه في منهجية الاستدلال. 



(٢٤) راجع هذه النقطة في مقال الدكتور بشير نافع "الإسلام، الإسلاميون والدولة الحديثة".
http://turkialjasserj.blogspot.com/2014/08/blog-post_18.html 

وراجع كذلك كلام ابن خلدون الذي تناول القضية تناولاً سننياً شاملاً في فصل انقلاب الخلافة إلى الملك وفصل ولاية العهد.

(٢٥) ناقش هذه النقطة الدكتور حاكم المطيري باستفاضة في كتابه "الحرية أو الطوفان" http://goo.gl/Wl6mA7






(٢٦) يشترك مع التنويريين في هذه الإشكالية تيارات أخرى من التيارات السلفية، ليس بسبب عدم قناعتهم بالجهاد لكن مراعاة للظرف الأمني والسياسي، وغياب حرية التفكير، فيجدون أنفسهم في حالة ضعف أمام التيار التنويري. وللأمانة، ربما يكون التنويريون أكثر صدقا في موقفهم من هذه التيارات، لأنه موقف مبدئي، بينما موقف الآخرين مراعاة للواقع بمخالفة المبدأ، فيزيد التنويريين قوة.

الأحد، 21 سبتمبر 2014

داعش والحلف الدولي من سينتصر؟



كثر الحديث عن الحلف الدولي ضد داعش، والنتائج المحتملة لهذه المواجهة، لكن معظم ما يدور، يناقش الجانب العسكري والقتالي فقط، ولا يتناول الحدث بطريقة شاملة تستوعب مجمل الصورة. ويصعب استشراف شكل المواجهة أو نتيجتها، دون التعامل مع كل المعطيات والعوامل المساهمة في تحديد طبيعة هذه المواجهة. و هنا محاولة لرسم خريطة شاملة للمشهد مكانيا وزمانيا، وأخذ الجوانب الحركية والاجتماعية والدينية والنفسية في الاعتبار.

المواجهة حتمية  

الصدام بين داعش والنظام الدولي بقيادة أمريكا، أمر محتوم لا يمكن تفاديه، وليس مرتبطا بقتل مجموعة من الرهائن أو التأثير على مصالح غربية. وحرص الحكومات المحلية على مواجهة داعش، هو كذلك ليس مرتبطا بعمالة للقوى الكبرى، بل حرص ذاتي مبرره نفس مبرر مصادمة النظام العالمي كله.

سبب الصدام هو نفس ما أشرنا إليه في مقال سابق، أن النظام العالمي معتمد كليا على واقع الدول القطرية المستقرة على حدود آمنة متفق عليها، بضمان السيطرة الغربية والهيمنة الأمريكية. إرباك هذا الواقع القطري هو اعتداء مباشر على العالم كله، واستفزاز خاص للغرب وأمريكا. ولهذا السبب كانت استراتيجية القاعدة الأولى في تفادي التعامل مع كل قطر على حدة، والتركيز على شلل أمريكا. فضّل البغدادي أن لا ينتظر نتيجة هذه الاستراتيجية، وقرر تأسيس دولة حقيقية، وتدمير الحدود بين سوريا والعراق وليكن ما يكون.

داعش والنظرة البعيدة

كان واضحا أن توسع داعش ليس نزوة شباب متحمس استمتع برمزية تدمير علامات الحدود، بل هو تمدد لا يتوقف هدفه إلغاء كل الحدود التي يصل إليها. وتبين أن الطريقة التي يعمل بها أصحاب هذا المشروع، ليست قرارات لحظية وعمليات متفرقة، بل خطة متكاملة باستعداد عسكري وسياسي وإعلامي ومالي وتربوي. ومن حسن حظهم أن تشكّلهم وُجد في قطرين متجاورين فيهما اضطراب داخلي (العراق وسوريا)، فتوفرت أرضية كاملة لتنفيذ الفكرة باقتدار، ثم استثمار أقصى للظروف والأوضاع. وهذا ما جعل الصدام مع النظام العالمي آتيا لا محالة، ليس على شكل حرب غامضة على الإرهاب، بل معارك عسكرية مباشرة. (1)

داعش والمراهنات

حين انطلق مشروع داعش في بداياته، راهن الكثير أنه لا يملك مقومات الاستمرار، وسوف يُستهلك إما بالخلاف مع الفصائل الأخرى، أو بنفرة الناس منه بسبب ما نسب إليه من تطرف وقسوة. ولكن التنظيم خالف التوقعات، فاجتاح مساحات واسعة في العراق والشام، وتمكن من المحافظة عليها بكفاءة، وضَبَط الوضع العسكري والأمني والمدني فيها. ثم استمر يتمدد ويضيف المزيد من المكاسب، ويستولي على قواعد عسكرية ومطارات ومراكز استراتيجية خطيرة. والأخطر من ذلك، أنه ضاعف عدد المقاتلين عدة أضعاف، كما ضاعف قدراته المالية والعسكرية عشرات الأضعاف. 

 نحن إذا لسنا أمام عصابة متحمسة، بل أمام تنظيم جمع بين الإرادة والقدرة على تدمير الحدود ، ثم التمدد بلا توقف لتحقيق حلم الخلافة الذي يبشر به. هذا الخطر على كل دول المنطقة أولا، وعلى الهيمنة الغربية ثانيا، هو السبب الحقيقي في الصدام، والذي لو لم يحصل اليوم سيحصل غدا. وهو كذلك نفس السبب في الحماس التلقائي من دول المنطقة، للمشاركة في حلف دولي ضد التنظيم الذي تعتقد أنها إن لم تفعل ذلك، سيجتاحها قريبا.  

مكاسب التنظيم وتمدده التي حصلت حتى الآن، تمت قبل سعي أمريكا لإقامة الحلف، فهل سيتغير الوضع، وينجح الحلف العالمي بقيادة أمريكا في القضاء على الدولة أو احتواء هذا التمدد؟ الجواب يعتمد على معرفة جيدة بقدرات الطرفين، وقدرة كل منهما على المواجهة والتعامل مع الطرف الثاني. كما يعتمد على الظروف المحلية والعالمية، ومدى ملاءمتها لأي من الطرفين بنجاح خطته. (2) 

معطيات لصالح داعش

دعاية مجانية لداعش: سيكون التحالف مبررا قويا للمزيد من التجنيد لداعش، لأن إعلان أمريكا الحرب على داعش سينظر له من قِبل الكثير كتزكية لها، ومن ثم يقطع الطريق على كل من يحاول التشكيك في نشأتها وأهدافها. ومبالغة الأمريكان في الحديث عن الموضوع، وعقد المؤتمرات، ورفع الصوت من أجله، هو بمثابة برنامج علاقات عامة لداعش في هذه المرحلة. وكما ذكرنا سالفا، فإن من يشفي غليل الشباب في أمريكا، هو البطل وهو المشبع للتطلعات. 

إحراج الفصائل السورية: سيكون التحالف محرجا لكل الفصائل التي يفترض أنها جادة في مواجهة النظام السوري، ومجبرا لها بالوقوف معنويا وربما عسكريا مع داعش، إذا جد الجد في أي ضربة عسكرية. بل لن نستغرب أن يلتحق المزيد من كوادر الفصائل الأخرى بداعش، لو تصاعدت الحملة الدولية ضدها، وقد يصل الحال إلى انضمام فصائل بكاملها لداعش.

محدودية ضرر القصف الجوي: ثبت أن أمريكا ستكتفي بالقصف الجوي ولن تتدخل بريا، وقد تبين أن داعش ليست منظمة حمقاء تكشف قدراتها للقصف الجوي، وأن لديها من الدهاء العسكري ما أعطاها تفوقا ملحوظا. ونظرا لسعة المساحة التي استولت عليها داعش، فسوف تجد أمريكا صعوبة بالغة في الاستفادة من الضربات الجوية، وهذا ما اعترف به الكثير من المحللين. (3)

الحليف الحقيقي في العراق: في العراق لن يساهم في الحرب البرية إلا الجيش العراقي الطائفي وإيران (مشاركة الأكراد محدودة جدا لأسباب جغرافية وديموغرافية لا تخفى على العارفين). وكون هؤلاء هم الحليف الحقيقي لأمريكا على الأرض، فذلك قد يعطي داعش مصداقية أقوى، بل سيزيد قناعة السنة في العراق، أن داعش هي الأمان لهم، ويدفعهم للمزيد من الثبات في مواجهة الخطر الشيعي الذي عانوا منه الويلات قبل اجتياح داعش. (4)

الحليف الحقيقي في الشام: في الشام لن يقاتل مع أمريكا إلا النظام السوري، والفصائل المستعدة لما سيتعبره الجمهور العربي ارتزاق، وهذا بدوره سيعطي داعش مصداقية أقوى، ويدفع القوى الثورية في سوريا للوقوف مع داعش. صحيح أن النظام السوري حاول أن ينأى بنفسه عن الحلف العالمي، وصحيح أنه تظاهر بعدم السماح باختراق سيادة أجوائه، لكن في النهاية أقر بأن العلاقة مبنية على أساس عدو عدوي صديقي. (5)

داعش تهيأت: انطلق الحلف بعد أن توسع نفوذ داعش، وجمعت ما يكفي من المال والسلاح والأرض وبقيت مدة في المنطقة التي استولت عليها تكفي للاستعداد للهجمات المتوقعة. وإذا استحضرنا الخبرة العسكرية التي ثبت أن داعش تتمتع بها، فمن المتوقع أن يتم استثمار هذه المعطيات للمدى الأقصى. وإذا صح ما قيل عن وجود عقليات عسكرية ذات خبرة في داعش، فمن المؤكد أنها استفادت من هذا الوقت لتتهيأ للتعامل مع خطر القصف الجوي.

حرج المؤسسات الدينية: ما دام التحالف تقوده أمريكا، وما دامت حكومة العراق الطائفية أهم مكوناته، لن يكون سهلا على  المؤسسات الدينية التابعة للحكومات أن تستمر في مهاجمة داعش دينيا. وإذا ما بدأت الحملة العسكرية على داعش فعلا، فإن أي جهة دينية تهاجم داعش، سوف تكون هي الخاسرة، لأن الشعوب ستنظر لها وكأنها وقفت مع غزو صليبي شيعي. 

مفاجآت داعش: تبين من متابعة داعش، أنها تنظيم يجيد تنفيذ المفاجآت، التي يعتقد أنها ستربك خطة التحالف، ولديها الأدوات التي تستطيع بها أن تفعل ذلك. والوضع القلق في المنطقة، وبقاء سخونة الربيع العربي، تجعل الوضع مهيئا لمثل هذه المفاجآت التي يصعب الاستعداد لها من قبل الحكومات.
محاربة الربيع العربي: الموقف الغربي (الأمريكي) من الثورات السلمية متمثلا في تأييد الانقلاب في مصر، والسكوت عن مذابح رابعة والنهضة وغيرها، دفع الكثير لقناعتين، الأولى: أن الحلول السلمية لا تنفع، والثانية: أن الغرب لن يسمح بنجاح هذه الحلول السلمية. هاتان القناعتان إضافة إلى كونها سبب تجنيد إضافي، فقد صنعت خلفية نفسية داعمة لدى الشعوب لمثل توجه داعش.

أمريكا مع إسرائيل في تدمير غزة: لم تسكت المدافع في حرب غزة إلا قبل أيام، وقد طال أمد الحرب بما يكفي لشحن المزيد من التجييش ضد أمريكا التي وقفت مع إسرائيل في تدميرها لغزة، وقتلها النساء والأطفال، في الوقت الذي تدعي غضبها من قسوة داعش. وكثير ممن تابع ما جرى في غزة، لاحظ تنامي موجة الغضب العربي ضد الغرب عموما، وأمريكا خصوصا، وساهم ذلك في مزيد من الدعم النفسي لاستخدام القوة، بدلا من الحلول السلمية. 

معطيات لصالح التحالف 

الاختراق: تمكنت داعش من أن تحمي نفسها من الاختراق النوعي، ويعتقد أن كل ما حصل من اختراق لداعش في الماضي هو في حدود ما يسمى بالخسائر المحسوبة calculated loss. والسؤال هو: هل بيد أمريكا وحلفائها فرصة لاختراقات نوعية مفاجئة؟ إن كان هذا واردا، فسيكون أخطر على داعش من أي ضربة عسكرية. 

الصحوات: كان للصحوات السنية في العراق سنة 2007، دور أكبر بكثير من دور الجيش الشيعي في القضاء على المقاومة، فهل تستطيع أمريكا إحياء الصحوات هذه المرة؟ يقول العارفون بأوضاع العراق أن هذا الأمر صعب جدا، بل إن المحاولات بدأت فعلا منذ أن اجتاحت داعش الموصل، وباءت بفشل ذريع. والسبب هو أن أهل السنة في العراق تعلموا أن هذه الصحوات كانت سببا في انكشافهم أمام السلطة الشيعية الطائفية، وتعرضهم للتنكيل تحت عين أمريكا ونظرها. لكن أمريكا لم تيأس، والجهد المبذول في هذا الاتجاه لا يزال حثيثا، ولا تزال بقايا صحوات الرمادي تقاتل داعش بكفاءة.

الإغراء السياسي: تحاول أمريكا حاليا إقناع بعض القوى السنية بالمشاركة في العملية السياسية في العراق، والضغط على الشيعة للتنازل عن جزء كبير من نصيبهم من السلطة لطمأنة السنة، فهل ستنفع هذه الحيلة؟ عوامل كثيرة تجعل مثل هذا الخيار شبه مستحيل، أهمها النفوذ الإيراني، وكثرة القوى الشيعية المشاركة في السلطة، ورفض معظم القوى السنية ذات المصداقية، في المشاركة في العملية السياسية. ولا يمكن أن ينجح هذا الخيار، إلا بتسليم كل الجيش والداخلية العراقية للسنة، وهو غير وارد مطلقا.

استهداف القيادات: قد تنجح بعض العمليات الجوية في استهداف قيادات هامة للتنظيم، لكن يبدو أن داعش تعلمت من أخطاء الآخرين، وتدربت على كيفية إخفاء القيادات وسرعة تعويضهم. لكن لو تمكنت أمريكا من الوصول للبغدادي، أو العدناني، أو من في مستواهم، ربما تسبب خلخلة كبيرة في داعش. (6)

أسلحة نوعية: ربما يظن البعض أن تزويد الجيش العراقي والبشمركة بأسلحة نوعية، سيقلب المعركة لصالح أمريكا، لكن هذه الفرضية فيها نظر. بالنسبة للجيش العراقي، لم تقصّر أمريكا في تزويده بسلاح متطور، وفي النهاية صار غنيمة لداعش. أما البشمركة، فأولاً: عددهم قليل، ثانيا: أن قناعتهم في قتال داعش ضعيفة، وثالثا: لن تسمح تركيا بتسلحيهم، لأنها تخشى من تسرب السلاح لحزب العمال الكردستاني. وعلى كل حال قد تستطيع أمريكا إجبار تركيا على الموافقة على تسليح البشمركة، لكن تبقى مشكلة عددهم المحدود وضعف القناعة في قتال داعش.

دور الظروف في المنطقة والعالم

الاضطراب في العراق وسوريا ليس استثناء، فالوضع مضطرب في اليمن وقلقٌ في مصر وليبيا وحساس في فلسطين. أضف إلى ذلك أن أمريكا لديها مشكلة كبيرة مع روسيا في أوكرانيا، ويبدو أنها تتجه للمزيد من التصعيد. لكن كيف سيؤثر هذا الاضطراب وهذه الإشكالات على سير الحملة ضد داعش؟ وهل ستكون تداعياتها لصالح داعش أو لصالح الحلف؟. 

لعل من نافلة القول، أن خطة كبيرة مثل خطة هذا التحالف لن تنجح إلا بأقل درجة من المشاكل، والعكس صحيح، فمثلما تؤثر المشاكل في نجاح الحملة فإن تنفيذ الحملة يؤدي إلى مضاعفة المشاكل. أمريكا مثلا، سيكون وضعها ضعيفا جدا في أوكرانيا لو انشغلت في قتال داعش، والحملة على داعش، ستعطي وقودا نفسيا ومعنويا هائلا لأنصار الشريعة، في اليمن وليبيا وهكذا. 

من الذي يكسب عامل الزمن

تتحدث أمريكا أن الحملة ستكون متواصلة لسنوات، فهل سيكون طول المدة لصالح أمريكا وحلفائها؟ أو لصالح داعش؟ واضح جدا أن الحملة لو طالت، ستكون لصالح داعش للأسباب التالية : 

أولا: الجماعات التي تقاتل عقديا لديها نَفَس غير محدود، بل تعتبر طول أمد الجهاد ميزة، بخلاف أمريكا وحلفائها التي يهمها إنهاء الحروب، لأن الاستقرار من ضرورات الحياة فيها. 

ثانيا: الجماعات التي تقاتل عقديا، ليس لديها مشكلة في التضحية والخسائر المادية والبشرية، بخلاف أمريكا وحلفائها. فأمريكا هُزمت في فيتنام، مع أن قتلى الأمريكان كانوا 1\80 من قتلى الفيتناميين، والسبب هو استعداد الفيتناميين للخسارة بخلاف الامريكان. (7) 

ثالثا: كل يوم زائدٌ في الحرب، هو مضاعفة في الدعاية لداعش، وتجنيد المزيد من الأفراد والجماعات مع داعش. وكمثال على ذلك، طول أمد الحرب على غزة، وكم خسرت إسرائيل بسبب طول المدة. 

رابعا: زيادة الوقت هو مزيد من تعقيد الوضع في كل المنطقة التي تغلي ضد النفوذ الأمريكي وضد الطغيان السياسي، وسيكون طول أمد المواجهة وقوداً لإعادة جذوة الربيع العربي، بزخم أقوى بكثير مما سبق.

السيناريوهات

نظراً لتعدد العوامل التي تساهم في الأحداث، فإن استشراف التفاصيل صعب جدا، وطيف الاحتمالات واسع لا يمكن استقصائه. أما الاحتمالات المجملة فتمتد لطيفٍ واسع، يبدأ من هزيمة سريعة لداعش، إلى حالة لا غالب ولا مغلوب إلى انقلاب شامل في المنطقة ضد أمريكا ، وتوسع لنفوذ داعش، يجعلها قوة إقليمية لا يمكن إيقاف تمددها. هل تسير الأحداث بهذا الاتجاه أو ذاك؟ أو ستأتي مفاجآت أخرى تخلط الأوراق كلها؟(8) الله أعلم.

---------------

(1) راجع مقالنا السابق: الاستراتيجية الجهادية بين الظواهري والبغدادي إضغط هنا.

(2) اقرأ كذلك مقالنا السابق: ما الذي يستهوي الشباب في دولة العراق والشام إضغط هنا

(3) هنا ترجمة مقال صحيفة النيويوركر للكاتب ستيف كول حول فشل الضربات الجوية إضغط هنا.

(4) راجع مقالنا السابق من أجبر أمريكا على محالفة إيران إضغط هنا.

(5) وهذا هو معنى تصريح نائب وزير الخارجية السوري فيصل مقداد (عدو عدوي صديقي) إضغط هنا.

(6) طبقا لهوبارد -الصحفي المسؤول عن تغطية أخبار "داعش" في "نيويورك تايمز"- فإن " أبو بكر البغدادي" لديه 24 نائبا أغلبهم من العراقيين متوسطي العمر إضغط هنا.

(7) يقول هوشي منه القائد الفيتنامي العظيم مخاطبا الأمريكان: ربما تقتلون عشرة منا لكل واحد منكم لكن الإرهاق لن يصيب سواكم. المصدر هنا.


(8) اغتيال قيادات أحرار الشام نموذج من الأحداث غير المتوقعة، التي تخلط الأوراق، فمثلاً  قد ينظم جزء كبير من كوادرها لداعش.

الأحد، 14 سبتمبر 2014

متى يستقيم النقاش.. حول الإسلام الديموقراطي؟





الإنتاج الفكري الغربي في علم السياسة جهد هائل، والتجربة الأوربية فائقة الثراء، سواء في المبادئ أو في الآليات. هذه التجربة الثرية لم تنتج كومة من الأفكار المبعثرة، بل أنتجت تشكيلة ذهنية كاملة، وقالبا يناسب المحتوى الفكري والعملي لهذه التجربة(١). 

ولأن الغرب مهيمن فكريا وإعلاميا وسياسيا لعدة قرون، فليس غريبا أن تكون هذه التشكيلة وذلك القالب هو الأساس للعالم كله، في تصور وفهم علم السياسة(٢). وانسجام هذا القالب مع محتواه وتطبيقه بثقة وواقعية، صنع تحديا أربك الكثير من المفكرين والعلماء المسلمين، ولم يفطنوا للعلاقة بين القالب والمحتوى، وتعاملوا مع علم السياسة وهم في غفلة جماعية، وتصور منطلق من نفس التشكيلة والقالب الغربي. 

وكثير ممن تحدث في الفكر السياسي الإسلامي، سواء من يتبنى "الديموقراطية الإسلامية" أو من يعارضها، إنما انطلقوا في حديثهم على أساس فهم "الدولة" و"الوطن" و"الشرعية"، بناء على هذه التشكيلة.  وظن معظمهم أنهم يحسنون صنعا حين يملأون هذا القالب، بما لديهم من محتوى إسلامي بطريقة معتسفة، تحشر فيها استنتاجات التراث الإسلامي حشرا بين جدران القالب. وظن آخرون أن الحل هو في رفض آليات الديموقراطية لكن دون الخروج من تصور مفهوم الدولة والوطن بناء على هذه التشكيلة. 

هذه المنهجية في تناول الموروث السياسي الإسلامي، لا يمكن أن تنتج صورة متماسكة، فضلا عن أن تثبت تفوقه على النموذج الغربي الذي استعار منه القالب. فالحل إذاً ليس في أن تضع لحما وشحما إسلاميا على هياكل الديموقراطية في دولة وطنية قطرية بالمفهوم الحديث، ولا أن ترفض الديموقراطية وأنت داخل هذا المفهوم، بل الحل في الخروج من التشكيلة الذهنية والقالب الفكري الغربي، والعودة لتشكيلة منطلقة من ذات الموروث الإسلامي.

في هذا المقال، محاولة لبيان للفوارق الكبرى في تناول الطرح السياسي، بين الإسلام والفكر الديموقراطي، على صعيد مفاهيم الدولة والوطن والشرعية، وعلاقتها بالمبادئ والقيم.





مفهوم الدولة
في الفكر الديموقراطي

مفهوم الدولة في الفكر الديموقراطي، هو نفس مفهوم الدولة الحديث (المفهوم العلماني) المبني على منظومة إدارية تسيطر على كل شي داخل حدود قطر معين. بمعنى آخر، فإن الدولة هي كل السلطات الثلاث، والمجتمع ليس إلا كيانا بشريا يعيش داخل وعائها، وبهذا يكون المجتمع كله داخل الدولة، وليس الدولة داخل المجتمع.(٣)

وسواء كان النظام دكتاتوريا أو ديموقراطيا، فالدولة تمارس حق التشريع والقضاء والتنفيذ، ولا يمكن أن يخرج عن سلطتها شيء من نشاط البشر، بما في ذلك الشؤون التربوية والخيرية والتعليمية التي تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر للدولة.

هذا المفهوم للدولة، هو الذي تشكلت به كل دول العالم منذ عدة قرون، واستقر في الوجدان حتى أصبح هو التصور الوحيد للدولة، ولا يخطر في بال الكثير أن هناك مفهوما آخر لها. هذه النمطية لمفهوم الدولة ليست إشكالية عند من يسمى بالإسلاميين التنويريين فقط، بل هي كذلك إشكالية عند الغالبية العظمى من "السلفيين". وكثير من الإسلاميين يناقش وينافح عن المشروع الإسلامي، وهو لا يعلم أنه يتحدث عن دولة بهذا الشكل المعارض للمفهوم الإسلامي للدولة. (٤)



في النظام الإسلامي

مفهوم الدولة في الإسلام أصغر من ذلك بكثير، فالدولة ليس لها إلا سلطة الدفاع والأمن وتنظيم الخدمات فقط، وبعض الأمور التنفيذية الأخرى مثل جباية الزكاة الخ. أما التشريع، وتحديد الخطأ والصواب والواجب والممنوع،،فليس للدولة منه أي نصيب، وأي تدخل في شؤون التشريع، إنما هو إخراج لهذه الدولة عن التعريف الشرعي لها. ونفس الكلام يندرج على النشاطات الخيرية والتربوية والتعليمية، فهذه من شؤون المجتمع والدولة ليس لها إلا حق الإشراف. (٥)

ولأن التشريع في الإسلام خاضع لتنزيل الكتاب والسنة على الوقائع، صار التشريع بالضرورة من مهام العلماء.  والعلماء لا يمكن أن تتبين مصداقيتهم في المرجعية، إلا بمدى نجاحهم في الاختبار المجتمعي، ولذلك فإن التشريع في نهاية المطاف، هو نتاج هذا الارتباط المجتمعي بالعلماء وليس بالسلطة. ونزع التشريع من الدولة يلحقه نزع سلطتها في القضاء، وحصره فقط في تعيين القضاة، وليس في إنشاء إجراءات قضائية، ولا قانون يلزم به القضاة. (٦)

وبهذا المفهوم، فإن الدولة الإسلامية مهما بلغت من الاستبداد في التفرد بسلطة الحكم التنفيذي، لا تستطيع مصادرة حق التشريع، وإلا سقطت عنها صفة الإسلامية، وصارت دولة علمانية بالمعنى الحديث. وقد مرت الدولة الأموية والعباسية بفترات استبداد وقمع شديد، لكن لم يجرؤ الحكام على مصادرة حق التشريع من المجتمع، وإلغاء دور العلماء. ولعل هذا هو السر في أن العلماء كانوا دائما في صدام مع الحكام المستبدين. (٧) والدول التي تسمى إسلامية حاليا، إنما لها تركيبة الدولة الحديثة التي ابتلعت المجتمع، وأصبح العلماء بالضرورة مرسمين فيها ترسيما مهما حاولوا الاستقلالية.


مفهوم الكيان السياسي
عند الديموقراطيين

تبعا لمفهوم الدولة الحديثة، فإن الكيان السياسي في الفكر الديموقراطي هو "الوطن" بالمفهوم القطري الحديث، المبني على حدود ثابتة معترف بها عالميا، والسكان داخل هذه الحدود، هم الشعب الذي تتشكل من خلاله شخصية ذلك الكيان. ولذلك فالولاء لهذا الوطن هو الانتماء الحقيقي، المترجم عمليا بمسؤولية الانتماء والدفاع والعطاء. وحتى لو كان هناك انتماءات أخرى روحية أو معنوية أو لغوية، فلن تكون لها قيمة في العطاء والمسؤولية والدفاع، بل ستكون انتماءات رمزية مقارنة بهذا الانتماء. (٨)


في النظام الإسلامي

أما في الإسلام، فالكيان الإسلامي ليس له حدود، والتجمع البشري المحسوب على هذا الكيان لا يسمى شعبا، بل يسمى أمة، لأن الأمة لها مدلول عقائدي أوسع من مدلول الشعب. ومفهوم الأمة في الإسلام، إضافة لكونه معنويا روحيا، فهو في الأصل تجمع بشري واحد تحت قيادة واحدة في كيان سياسي لا يتوقف عن النمو أبدا، ويجمع عددا من الشعوب تحت مظلته. وفي الظروف التي لا تستطيع الأمة الاجتماع تحت قيادة واحدة، يبقى الانتماء الروحي والعقدي والمعنوي لأمة الإسلام، كما يبقى التطلع لتوحيد القيادة والكيان السياسي. (٩)



مفهوم الشرعية
في الفكر الديموقراطي

الشرعية عند الديموقراطيين مرتبطة بالكامل بمدى انعكاس إرادة الشعب على تركيبة السلطة والشخصيات النافذة فيها. هذه الشرعية ليست مرتبطة بأي ثوابت أو قيم أو عقائد بل هي خاضعة كليا للأغلبية سواء في شرعية الآليات والدستور أو شرعية الفريق الحاكم.

صحيح أن التجربة البشرية في ضبط الآليات لتحقيق انعكاس الإرادة الشعبية، قد تراكمت بشكل ثري، وصحيح أنها في البيئة الديموقراطية الحقيقية تأتي بمن يختاره الشعب حقيقة، لكن يبقى هذا هو مفهوم الشرعية، ولا ثوابت أبعد من ذلك. وكثير من المبادئ التي ألحقت بالديموقراطية، مثل الشفافية والمحاسبة والحريات وحقوق الإنسان كلها، نسبية وليست بنيوية في الفكر الديموقراطي الذي ليس فيه إلا مطلق واحد وهو الأكثرية.

وتحقيق الشرعية في الفكر الديموقراطي، يترتب عليه القبول باختيار الشعب، والخضوع له والقناعة ضميريا بالالتزام بما يصدر عنه سواء كان قوانين تشريعية أو قرارات حكومية. هذا الخضوع والالتزام، إنما هو التزام عملي واقعي ليس له أي بعد روحي، أو قناعات دينية، أو ارتباط بثواب وعقاب أخروي.(١٠)

ومن ذلك، تحكم اللوبيات بأمريكا، الذي حصل بطريقة شرعية وباستخدام الآليات الخاضعة للشرعية، وهي آليات الدستور والنظام الفيدرالي. وعلى نفس المنوال، حصل التنازل عن الحريات وحقوق الإنسان من أجل "الأمن" بطريقة شرعية.


في النظام الإسلامي

في المقابل فإن مفهوم الشرعية في الإسلام مفهوم ديني يحتوي على مجموعة من الثوابت الواضحة وله دلالات روحية ومرتبط بالثواب والعقاب سواء في تحقيق الشرعية أو في الالتزام فيها. فالسعي لتحقيق نظام شرعي بالمعنى الإسلامي واجب على المسلمين يؤجر الساعي له ويأثم المقصر عن السعي له. وإذا تحققت الشرعية في الحكم الإسلامي فإن الالتزام بإطاره واجب وطاعة كل المؤسسات التي تمثل الحاكم واجبة يؤجر فاعلها وياثم تاركها. (١١)

والشرعية في الإسلام ليست مرتبطة بآليات وأكثريات بل مرتبطة مباشرة بتحقيق المقاصد التي شرعت من أجلها الإمامة وفرض من أجلها الحكم، فإذا تحققت هذه المقاصد في الكيان وفي النظام صار شرعيا وإذا لم تتحقق فليس بشرعي. هذه المقاصد محددة بالنصوص الشرعية الثابتة، ولا مجال فيها لتقويم بشري أو لتصويت شعبي. هذه المقاصد ليست مسرودة على شكل قائمة في آية أو حديث لكن بعد مراجعة شاملة للطريقة التي تناول فيها الكتاب والسنة لقضايا السياسة يمكن رصد هذه المجموعة من المقاصد.

١ـ أن تكون الدولة المسلمة كيانا واحدا يجمع المسلمين في مكان واحد وتحت قيادة واحدة بانتماء واحد كما جاء أعلاه في مفهوم الكيان والوطن والأمة.

٢ـ أن تكون مرجعية الدولة في كل شؤونها وأشخاصها خاضعة للكتاب والسنة وأن يكون الشرع الإسلامي هو المحكّم فيها مطلقا.

٣ـ أن يكون الإسلام أساس وجود الدولة وأساس علاقاتها مع الكيانات الأخرى فالصداقة والعداوة والحرب والسلم في العلاقات الدولية مرتبطة بالهوية الدينية للدولة.

٤ـ أن تكون السلطة محققة للواجبات التي لا تحققها إلا السلطة وعلى رأسها الجهاد والشعائر الجماعية مثل الجمع والجماعات والحج وغيرها، ومقابل ذلك أن تكون السلطة مانعة للأمور المحرمة التي لا تمنعها إلا السلطة مثل الربا والخلاعة الخ.

٥ـ أن تكون قيادة هذه الدولة منبثقة من اختيار الأمة ورضا الأمة (بانتخاب أو أي وسيلة أخرى) وخاضعة لمحاسبتها (سواء ببرلمان أو بأي وسيلة أخرى).

٦ـ أن تكون الدولة محققة للعدل بمفهومه الشامل: العدل أمام القضاء والعدل في النصيب من المال العام والعدل في فرص العمل الخ.

٧ـ أن تكون الدولة محققة للأمن بمفهومه الشامل: الأمن الجنائي والأمن القومي والأمن الاجتماعي والأمن الفكري الخ..

وعلماء المسلمين لا يختلفون في أن تحقيق المقاصد الأربع الأولى شرطا أكيدا للشرعية ولا يمكن إعطاء الشرعية لأي سلطة أو كيان حاكم لا يحقق هذه الاركان. أما الشروط الأخرى فهم متفقون على وجوبها لكنهم مختلفون على اعتبارها شرطا لتحقق الشرعية.

وبهذا التوضيح تكون الشرعية بالمفهوم الإسلامي مختلفة كثيرا عن الشرعية بالمفهوم الديموقراطي ولا تتداخل معها إلا في الفقرتين الخامسة والسادسة أعلاه. ويتضح كذلك أن السيادة للشرع وليست للشعب بل  يحق للاقلية القادرة أن تفرض على الأكثرية حكم الشرع وهو ما حصل في بداية توسع دولة المدينة وما حصل في قمع المرتدين رغم أنهم الأكثرية.(١٢)



ثوابت القيم والأخلاق وعلاقتها بالسياسة
في الفكر الديموقراطي

الفكر الديموقراطي "الخام" قائم على أساس غير متحيز لأي قيمة أو مبدأ أو أخلاق، والمشروع السياسي فيه ليس محكوما بهذه القيم والأخلاق وليس من مهمته خدمتها إلا أن ترى الأغلبية ذلك. ولأن فكرة الأكثرية وحدها مجرد فكرة رقمية ليس لها بعد قيمي ولا قدسية إنسانية يضطر المنظرون لليموقراطية أن يلحقوا بها مجموعة من القيم التي تضفي عليها شيئا من القدسية والطعم والذوق البشري. 

ولو كانت الأكثرية وحدها مقدسة لكان رأي الجمهور في مباراة كرة القدم مقدما على رأي الحكم كما قال الدكتور المسيري،(١٣) ولكانت محاكمة سقراط أعلى درجات العدالة(١٤). وما دامت الديموقراطية الخام بهذا الجمود الإنساني كان لا بد أن تلحق بها مفاهيم ومباديء تعطيها بعدا قيمياً وتضفي عليها قدسية إنسانية.

الإشكال أن علاقة هذه القيم بالديموقراطية لن تكون بنيوية إذا خضعت للأكثرية فما الحل؟ الحل أن تكون هذه الثوابت ملزمة إجماعا فضلا عن الأكثرية. المعنى البسيط لهذا الكلام بكل تجرد هو إلزام كامل الشعب بمفاهيم غير خاضعة للاختيار مع زعم تقديس رأي الأكثرية، وهذه مناقضة لأصل الفكرة الخام، فكيف تُفرض على الشعب ثوابت غير خاضعة لرأي الأكثرية ثم يُزعم احترام رأي الأكثرية؟ (١٥)

وهناك ملاحظة لا ينتبه لها الكثير، وهي أن في الفكر الديموقراطي الخام الكثير من الممنوعات التي يمنعها القانون والواجبات التي يفرضها القانون لكن لا يوجد فيه أي فضيلة ينصح بها القانون ويشجع عليها أو المكروهات التي يحث على اجتنابها.



في النظام الإسلامي

النظام السياسي الإسلامي في المقابل زاخر بالمبادئ والقيم غير الخاضعة للنقاش، والتي يجب على الأكثرية والأقلية الالتزام بها بشكل مطلق. قوة هذه القيم والأخلاق والمبادئ، تأتي من أن مصدرها هو الوحي، بمعنى أنه مصدر غير بشري وله القدسية الذاتية المستغنية عن أي دعم بشري. (١٦)

النقطة الأهم في قضية المبادئ في الإسلام، أنها مرتبطة بالنظام السياسي ارتباطا تبادليا، لا يستغني فيه أحد الطرفين عن الآخر. النظام السياسي نفسه يحتاج هذه القيم والأخلاق حتى يحقق الانضباط الاجتماعي، والتكافل والمسؤولية تجاه الأمة والكيان العام. والقيم والأخلاق تحتاج النظام السياسي، حتى يمكن سيادة القيم المقدسة وتنفيذ الواجبات ومنع المحرمات وتشجيع الفضيلة وحمايتها.

وبناء عليه؟

بعد هذا الاستعراض يتبين أن الإشكالية منهجية في أصل تناول الموضوع، وفي تصور مفهوم الدولة والشرعية والثوابت والقيم. ومن يريد أن ينزّل الموروث السياسي الإسلامي على مفهوم الدولة الحديثة دون اعتبار لهذه الفروق، فإنما يعتسفها اعتسافا أدرك أو لم يدرك. (١٧)

 لا بأس بالمقاربة لمجاراة الواقع والتعامل مع التحدي مؤقتا في دولة قطرية، لكن لا يمكن أن يكون الطرح الإسلامي متماسكا قويا، إذا حشر في  قالب لا يناسبه، لأنه نشأ في الأصل على أساس لا ديني. وهذا بالضبط ما أسماه حلاق بالدولة المستحيلة (١٨) فهو لم يقصد استحالة تحقيق الإسلام كدولة بل قصد استحالة اعتساف المشروع الإسلامي في الدولة الحديثة.

ولا يمكن أن يعود الطرح الإسلامي للتماسك، إلا أن يعود لأصل التركيبة الإسلامية في مفهوم الدولة والمجتمع والأرض والتشريع والهوية. وهذه لن تكون طفرة في الإبداع ومجاراة الواقع، بل ستكون إعادة ذكية وواعية ومدركة للمحتوى العظيم لهذا الموروث، لوعائه وقالبه الصحيح.



---------------------



(١) قدم الغرب الأوربي فكرا ثريا في المجال السياسي على يد سلسلة طويلة من المفكرين والفلاسفة، كتوماس هوبز وروسو وفولتير ومونتسيكو وميكافيلي وماكس فايبر وراسل وتشومسكي وغيرهم الكثير، وقدم معه تطبيقا عمليا في آليات الدولة، وتنظيم شؤون السلطة وتصنيفها. هذه التجربة تزامنت مع انحسار الدين في أوربا، فصارت تطبيقات بشرية خالية من المرجعية الدينية.

(٢) يجب أن لا ننسى أن الهيمنة الغربية سياسيا وعسكريا وتقنيا تجاوزت القرنين من الزمان، ولا تزال في أوج قوتها وأثرها، خاصة بعد تطور تقنية الإعلام والمعلومات.

(٣) تعود بدايات الدولة الحديثة عمليا إلى صلح، وستفاليا الذي أنهى حروبا طاحنة في أوربا سنة ١٦٥٨مـ وفتح المجال لتغول الدولة بالسلطات الثلاث، والذي تنامى إلى أن وصل ذروته بعد الثورة الفرنسية، وبقي هكذا حتى الآن، إضغط هنا.


(٤) الأساس الفلسفي للسلطة المطلقة للدولة تحت مظلة العقد الاجتماعي، نبع من توماس هوبز قبل ٤ قرون، ثم لطفها جون لوك، لكن بقي المفهوم الأساسي في سيطرة الدولة على شؤون المجتمع والكيان السياسي كله. 

(٥) من أوائل من أشار لهذا الفرق، المستشرق الأمريكي إيرا لابيدوس وراجع مقال الدكتور بشير نافع: الإسلاميون والدولة الحديثة، إضغط هنا.


(٦) للمفكر الأمريكي نوح فيلدمان رؤية عميقة في هذا الموضوع وهذا ملخص لإحدى محاضراته جمعتها سابقا في تغريدات، إضغط هنا.


(٧) جمع الشيخ عبد العزيز البدري رحمه الله قائمة من قصص المواجهات بين العلماء والحكام في كتاب أسماه "الإسلام بين العلماء والحكام" وكان هو شخصيا ضحية مواجهة مع الظالمين، حيث قتل في سجون البعثيين في العراق، إضغط هنا.


(٨) الحدود في الدولة القطرية تعتبر جزءا من تعريف الكيان، والتجمع البشري داخل هذه الحدود يعتبر شعب تلك الدولة، وهذا المفهوم نشأ كذلك بعد صلح وستفاليا المذكور أعلاه. لكن الحدود للأقطارالحالية لم تأخذ شكلها إلا بعد الحرب العالمية الثانية.

(٩) راجع كتاب الهوية والشرعية (دراسة في التأصيل الإسلامي لمفهوم الهوية)
 للمؤلف شريف محمد جابر، إضغط هنا.


(١٠) البساطة والوضوح التي عرضنا بها مفهوم الشرعية في الفكر الديموقراطي، لا تعكس الحقيقة بدقة لأن المفهوم قضية جدلية لا تزال موضع نقاش فلاسفة السياسة الغربيين، منذ ماكس فايبر وانتهاء بهبرماس، ولم تحسم حتى الآن نظريا.

(١١) تحدث فقهاء الإسلام في القديم والحديث عن مفهوم الشرعية، وقد جُمعت معظم هذه النقولات في كتاب الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، للشيخ الدكتور/ عبد الله بن عمر الدميجي.

(١٢) هذا التفصيل يبين أن التوجه عند بعض العلماء لاختزال الشرعية في شخص الحاكم، إنما هو منهج خاطئ، راجع تغريداتي في الرد على هذا التوجه وبيان أصل المشكلة في هذا الرابط هنا.


(١٣) "الديموقراطية والقيمة" للدكتور عبد الوهاب المسيري في موقع المعرفة في الجزيرة نت، إضغط هنا.


(١٤) تذكر مدونات الإغريق أن محاكمة سقراط حسمها تصويت الدهماء، بتجريم سقراط والحكم بإعدامه، بمعنى أن العوام حلوا محل القاضي في الحكم على سقراط بالقتل.

(١٥) صحيح أن الثورة الفرنسية كانت حدثا فاصلا في إلغاء كل أنواع المرجعية الدينية تجاه الدولة، لكن دور الكنيسة والأعراف في صياغة القوانين، قد تعرض لضعف كثير قبل ذلك، ودبت الفوضى في مفهوم المرجعية القانونية فكان لا بد من اللجوء لممثلي الشعب في المرجعية. ومن عبارات جان جاك روسو التي تعطي فضاء لفرض قيم بالقوة تحت مظلة الديموقراطية قوله "" لتحرير الأفراد يجب القبض على راس الدولة , والحد من الحريات التي بها يؤذون المجتمع الذي يعيشون فيه " ويقال إن موسوليني استخدم هذه العبارة لتبرير فاشيته.

(١٦) خضوع السياسة للدين في الإسلام لا يقتصر على ما هو داخل الكيان الإسلامي، بل إن تصرفات الدولة مع خصومها خاضعة بالكامل للدين، بخلاف الأنظمة الديموقراطية التي تحمي العدالة والحرية داخل إطار وطنها، وتدعم قمع الحريات والطغيان في بلاد أخرى. 

(١٧) ربما لهذا السبب لم يحقق كتاب "النظام السياسي الإسلامي، مقارنا بالدولة القانونية – دراسة دستورية شرعية وقانونية مقارنة" للأستاذ الدكتور منير حميد البياتي، النتيجة المرجوة رغم أنه مشروع ضخم، استغرق الدكتور البياتي في إعداده تسع سنوات كاملة والسبب -والله أعلم- أنه شحم ولحم إسلامي على هيكل غربي.

(١٨) تحدث الاستاذ وائل حلاق (كندي من أصل سوري) في كتابه "الدولة المستحيلة" عن معظم هذه القضايا، وخرج باستنتاج أن الوعاء الغربي لا يمكن أن يستوعب المشروع الإسلامي. الكتاب نشر بالانجليزية وهذا استعراض لأهم نقاط الكتاب، إضغط هنا.

المقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير على هذا الرابط.