الثلاثاء، 26 أغسطس 2014

السنة والشيعة مقارنة نفسية

هذه المقالة كانت معدة  للنشر في صحيفة التقرير لكن الصحيفة اعتذرت لأسباب أقدرها وأتفهمها

وقررت نشرها في المدونة


التحدي الذي يفرضه التاريخ والنصوص الدينية والتربية الروحية والسلوك الأخلاقي على السنة والشيعة، يدفعهما لمواقف نفسية محددة، فيها تمايز واضح يمكن رصده وتشخيصه. ويؤثر في صياغة هذه الحالة النفسية مواقف الطرفين من آل البيت، ومواقفهما من بعضهما البعض. هذه محاولة لتقصٍ توصيفي لتلك الحالات النفسية، والربط بين أسبابها ونتائجها وتداعياتها، وبالطبع لا يقصد بهذا التوصيف كل فرد بعينه، لكنه توجه عام يغلب أن يتجسّد فيمن ينتمي لهذا المذهب أو ذاك. 

الأصل والاستثناء ونفسية الأقلية
يرى السنة أنفسهم امتدادا طبيعيا لجيل الصحابة الذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم، وبذلك يعتبرون أنفسهم الاستمرار الاصيل للدعوة النبوية والخط الأصلي الممتد لجماعة المسلمين. ثم إن المنظومة العقدية والفكرية والتربوية والفقهية لدى السنة، تشكلت في عهد النبوة، وبفهم الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك فإن من جاء بعدهم من التابعين وأتباع التابعين يرون أنفسهم داخل هذه المنظومة وفي إطارها. هذا الشعور بالأصالة عند أهل السنة يطرد الهواجس، ويُطمئن النفس بالمنهج، ويرسخ الثقة بالاسلاف، ولذلك ترى الانتماء عند أهل السنة طبيعي على قاعدة (نحن نحن) بدون عقد نفسية من الانتماء. 

الشيعة لا ينكرون أن الوجود الشيعي كان شبه معدوم من الناحية البشرية وقت النبوة والصحابة، ولم يتبنى التشيع إلا عدد قليل جدا من الصحابة (اقل من عشرة) الذين يسمونهم المنتجبين(١). وحتى بعد الصحابة لم يتشكل الشيعة في مجتمعات ظاهرة ولا مؤسسات سياسية، بل إن بنيتهم الاجتماعية بقيت رهينة الجيوب الخاصة، ولم تجد طريقها لبناء سياسي وهيمنة سلطوية، إلا في حالات استثنائية في التاريخ، لا تمثل السياق العام زمانا ولا مكانا ولا عددا(٢). وحتى على المستوى العقائدي الشرعي، يقر الشيعة بأن التشيع بمفهومه الإثناعشري، لم يبدأ في التشكل كمذهب عقدي واضح، إلا بعد قرن ونصف من الهجرة، ولم يكتمل إلا بعد  ثلاثة قرون(3). 

النتيجة: نفسية الأقلية والتعلق بالمهدي
لهذا السبب يعترف الشيعة في أدبياتهم بأن السنة هم الأصل، وأن الشيعة استثناء إلى درجة انهم يسمون السنة (العامّة) (٤) أي عامة الناس، بمعنى أنهم هم الخاصة (الأقلية). ولذلك يعيش الشيعة هاجس السنة في كتاباتهم وفي نظرتهم للتاريخ، وفي حياتهم الاجتماعية وفي حياتهم السياسية وفي تربيتهم الشخصية. وفي جولة سريعة في كتابات الشيعة الفقهية والعقدية والاجتماعية القديمة والحديثة، يلاحظ القارئ عمق الهاجس بالسنة أو "المخالفين"(٥). ولأن التاريخ أثبت أن قَدَر الشيعة هو الأقلية ولا يمكن بالمقاييس التاريخية الراهنة أن يسود الشيعة، فلا توجد وسيلة لتغيير هذا القدر المحتوم، إلا أن تكون قفزة فوق التاريخ، تحول الشيعة فجأة من أقلية مغمورة لأغلبية مهيمنة. ولا يحقق مثل هذه القفزة إلا شخصية خيالية، تخترق الثوابت التاريخية، وتمثل مخرجا إعجازيا من المجتمع المحدود، إلى الهيمنة الكاملة. وهذا ما يجعل إنجازات المهدي في أدبيات الشيعة مرتبطة بهذه العقدة، فهي معظمها تمكين للشيعة وتحويلهم لأغلبية، وسحق الأغلبية الحالية (السنة) لأنهم أعداء آل البيت، وليست لسلطة الإسلام في الأرض.(6)

النجاح والفشل والتعويض بالمهدوية
تعتبر دعوة النبي صلى الله عليه وسلم عند السنة أنجح الدعوات في التاريخ، تربويا وحضاريا واجتماعيا وسياسيا، وكل ما حصل فيها هو مما يقتدى به. وكذا سيرة الخلفاء الراشدين التي كانت نجاحا في القضاء على الردة، وفي فتح الفتوح وتنظيم شؤون الدولة وغيرها من الإنجازات. وحتى بعد الخلافة الراشدة، ينظر السنة  للجوانب الإيجابية في فترة الدولة الأموية والعباسية والعثمانية والمماليك، في علو شأن المسلمين وبسط هيمنة الإسلام على رقعة واسعة من العالم. 

الشيعة من جهتهم لا يعترفون بهذه النجاحات، لأن النجاح عندهم مرتبط فقط بمدى تمكين الأئمة. واول فشل عندهم هو فشل النبي عليه الصلاة والسلام (حاشاه) في التربية، حيث لم تنتج تربيته إلا مجتمعا من المتآمرين على إقصاء حق الأئمة (٧). وما دام الصحابة تمالؤا على إقصاء علي بن أبي طالب ثلاث مرات، فهذا فشل تاريخي آخر في حياة الخلفاء الراشدين. وحتى تولي علي الخلافة لم يكن نجاحا بالطريقة التي يفترضونها، بل كان تمكينا ناقصا ولم يحقق التخلص من الذين خذلوه. أما ما حصل بعد ذلك من خلافة الأمويين والعباسيين، فقد كان فشلا أعظم، بل كارثة حلت بالأمة طبقا لحساباتهم، ولا قيمة لكل ما قدمه الخلفاء حتى العادلين منهم ما داموا لم يمكنوا لآل البيت(٨).

النتيجة: اللجوء إلى حل خارق للسنن الكونية والنواميس التاريخية
ما دامت التجربة التاريخية أثبتت أنه حتى القيادة والتربية النبوية لم تنجح، ولم يتحقق التمكين لآل البيت على مدى قرون طويلة فما هو المخرج ؟ المخرج هو نفس مخرج إشكالية الأقلية، وذلك بتغيير قواعد التاريخ بقدرات خارقة وتصورات إعجازية، بشخصية المهدي الأسطورية، وطريقة خروجه التي تخالف قوانين الكون ونواميس الحياة. ولذلك تجد في أدبياتهم مبالغات في تمكين المهدي، وسيطرته المطلقة، وشفاء غليلهم في الصحابة بإحيائهم والانتقام منهم(٩). هذه الحكايات التي لا تتفق مع سنن التاريخ، وتناقض مسيرة الحركة البشرية، لا يمكن تفسير اللجوء إليها إلا كبواعث نفسية، للتعويض عما يرونه فشلا متتابعا، على مدى قرون طويلة في تمكين الأئمة، وحلا إعجازيا في تحويل الفشل إلى نجاح.

التاريخ الإسلامي فخر السنة ومصائب الشيعة 
في نظرتهم للتاريخ، يعتقد أهل السنة أن البعثة والهجرة، وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم، وفتح مكة، ثم ما حصل في حكم الخلفاء الراشدين، المثل الأعلى في التاريخ والنموذج الأمثل للافتخار. وشعور السنة بذلك طبيعي، لأن الصحابة رموزهم التي يفتخرون بها، ونماذجهم العظيمة التي لا يتفوق عليها أي نموذج في التاريخ. أما ما جرى بعد ذلك في التاريخ الإسلامي، خاصة في الدولة الأموية والعباسية والمماليك والعثمانيين، فيفتخرون بما فيه من الفتوحات والانتصارات، ولا يقرّون ما حصل من ظلم واستبداد وفساد، لكن لا يعيشون هاجسه ومن ثم لا يعانون من عقدة في الانتماء.

في المقابل لا يمثل هذا التاريخ للشيعة أي فخر، لأن هذه الأمجاد إنما هي إنجازات الذين ظلموا آل البيت، واقصوهم، وقتلوا بعضهم، ومن ثم فالافتخار بهذه الإنجازات، هو بالضرورة افتخار بالأعداء(١٠). ولذلك يجد الشيعة أنفسهم أمام فراغ تاريخي كبير، يمتد لمئات السنين، لا تشكل فيه هذه الأمجاد شيئا. والأمم بطبعها لا تقبل خلو تاريخها من الأمجاد(١١)، خاصة إذا كانت تمتد لمئات السنين، فكيف حل الشيعة هذه المشكلة النفسية؟

النتيجة: تضخيم تاريخ آل البيت ومآثرهم وجرائم لخصومهم
الحل هو في محاولة تعويضية لتعبئة هذا الفراغ في الانتماء التاريخي، وذلك بتضخيم وتهويل قصص أهل البيت، وما تعرضوا له من ابتلاء ومظالم، والإسهاب والإطناب في ذكر التفاصيل الدقيقة التي تكاد تشبه الروايات القصصية المعدة للتمثيل والافلام(١٢). ولذا فإن المعالم الهامة في التاريخ، عندهم محدودة في قصة غدير خم، وحادثة السقيفة، ومعركة الجمل، وصفين، وذروة التاريخ كله هي فيما حصل للحسين رضي الله عنه. والوصف التفصيلي الدقيق لما حصل لآل البيت، يفوق تفاصيل السيرة النبوية والأحداث المفصلية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث عن مآثر وشجاعة وقدرات الأئمة الاثني عشر، يفوق مآثر أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم.  وفي المقابل تمتليء الأدبيات بحكايات الجرائم المنسوبة لخصومهم، التي تضاهي في حجمها ما يتداوله السنة عن مآثر نفس الشخصيات. ولأن هذه الروايات ناتجة عن حالة نفسية للتعويض وليست حقيقية، فبالطبع لن يكون لها إسناد أصلا أو يكون إسنادها متهالكا، لا يُعتمد عليه في الرواية. (١٣)

أداء حق آل البيت والتقصير في حقهم
يتعامل السنة مع آل البيت تبعا لما ورد لديهم، من وجوب مودتهم، والصلاة عليهم، وأداء حقهم من بيت المال، ولا يعتقدون أن لهم حقا خاصا في الولاية ولا الإمامة. ويقر أهل السنة بما حصل لبعض آل البيت من مظالم، لكنهم لا يعيشون هذا الهاجس، ولا يعتقدون أن آل البيت تم استهدافهم قصدا بالإقصاء والقتل أو الاغتيال. بل إن أهل السنة يعتقدون أن مظالم آل البيت كانت استثناء في التاريخ الإسلامي، وأنهم في الجملة كانوا مقدرين محترمين، قد أُمنّت حقوقهم من قبل الأمة ومن قبل الحكام.

أما الشيعة فيعتقدون أن الظلم والإقصاء والقتل والكيد والتآمر، هو قدر آل البيت، وأن الشيعة ذاتهم قصروا في حقهم ولم يساهموا في تمكينهم في الإمامة بشكلها الكامل، ولم يحموهم كما ينبغي(١٤). وحتى علي بن أبي طالب وهو الإمام الوحيد الذي تمكن سياسيا بسلطة، لم يتمكن إلا بعد ثلاثة خلفاء، بل إن وصوله للحكم لم يكن بجهد من الشيعة، بل ببيعة الصحابة رضي الله عنهم (١٥). لكن تقصيرهم الأعظم كان مع الحسين بن علي رضي الله عنه، والذي يعتبرون خذلانه أكبر خذلان في التاريخ.

النتيجة : تعذيب النفس والعيش بعقدة الذنب
يعالج الشيعة هذه المشكلة بطقوس تعذيب النفس، بأشكال مختلفة ليس أقلها اللطم، وضرب الجسد بالحديد، وجرح الرؤوس بالسيوف، وتقطيع الجلد بالسكاكين ..إلخ. وهم يستمتعون بهذا التعذيب، ويجدون فيه إشباعا بسبب قوة مشاعر المسؤولية بالتقصير التي تنتابهم تجاه الحسين. كما إن أدبياتهم مليئة بعقدة الذنب، وتحميل أنفسهم مسؤولية ما أصاب الحسين، والتي توجد على شكل روايات كثيرة. ويجتهد الشيعة في مجالس العزاء الحسيني بالبكاء والنحيب، ويطيلون البقاء لاستماع التفاصيل الدقيقة عن اللحظات الأخيرة في حياة الحسين، حتى تكون بمثابة إخراج لما في الباطن، من لوم للذات، وتقريع للنفس، على الخذلان والتقصير في حق الحسين، بطريقة شبيهة في تعامل النصارى مع قصة صلب المسيح.(١٦)

السنة والشيعة من يحتوي ومن يُقصي؟
ليس عند السنة مشكلة مع علي والحسن والحسين رضي الله عنهم، بل يعتبرونهم مشهود لهم بالجنة ومن كبار الصحابة، ويتعبدون الله بحبهم، ولذلك فإن موقف السنة من الشيعة لايخضع لأي إسقاط مرتبط بالموقف من هؤلاء. وقد ثبت في التاريخ أن السنة الذين كان التمكين من نصيبهم في معظم فترات التاريخ الإسلامي، لديهم القدرة على استيعاب الشيعة لأنهم لا يعيشون عقدة بغض للأئمة، ولا هاجس الشيعة، ومن ثم لا يستهدفونهم كطائفة إلا إذا في حالات الاستفزاز. 

أما الشيعة، فيعتبرون الصحابة متآمرين  في استبعاد علي بن ابي طالب، وبما أن السنة يعظمون الخلفاء الثلاثة، فإن كل السنة ورثة لمسئولية هذه الجريمة. وعلى نفس المنوال لأن السنة يعترفون في الجملة بخلافة بني أمية وبني العباس، فإن كافة السنة في القديم والحديث، يرثون مسئولية ما أصاب الأئمة الإثني عشر من أذى في العهدين الأموي والعباسي، خاصة الحسين رضي الله عنه. 

النتيجة : حقد ورغبة بالانتقام وعجز عن الاحتواء 
هذا الموقف، يصنع نتيجة تلقائية، هي حقد الشيعة على كل من يعتبر نفسه امتدادا للصحابة والتابعين وخلفاء بني أمية وبني العباس، وبهذا لا يستطيع الشيعي من الناحية النفسية، تفادي الحقد على السني، لأنه يرى فيه هذا الامتداد للمسئولية تجاه ما حصل لآل البيت. هذا الحقد يترجم بنزعة طبيعية للانتقام من السنة، تفسر ما يصيب السنة من أذى كلما توفر للشيعة سلطة أو فرصة. ولهذا السبب لا يمكن أن تشتمل النفسية الشيعية على استيعاب السنة، ويصعب تصور سلطة تدار من قبل الشيعة قادرة على استيعاب السنة. ولذلك فإن استهداف السنة بالاعتقال والتعذيب والقتل والاغتصاب في العراق مثلا، لم يكن تصرفا متكلفا أو مرتبطا بثارات من آثار حكم صدام، بل هو تصرف طبيعي مرتبط بهذه الإسقاطات النفسية عندهم. (١٧)

الصحابة وكتب الحديث والبديل 
يثق السنة بعدالة الصحابة ويثقون بمنهجية أهل الحديث في الرواية والتصحيح والتضعيف، ويتعامل السنة بطمأنينة وارتياح للكتب التي اتفق أئمة الحديث على صحتها مثل البخاري ومسلم، كما يتعاملون بثقة بالأسس التي يحكم بها على ما جاء في الكتب الأخرى، ويعتمدون عليها دون وساوس ولا شكوك. 
أما الشيعة، فحتى الذين يتحاشون تكفير وتخوين الصحابة، يقرون بعدم الاعتراف بعدالتهم ورفض رواياتهم، وتبعا لذلك لا يقبلون بكتب الحديث السنية. وبدلا من ذلك يعتمد الشيعة على (الكتب الثمانية) (١٨) المروية عن الأئمة، والتي نقلها عنهم اصحاب الأئمة، ولا يشكل فيها المروي عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا نسبة لا تذكر. هذه الكتب لم تكن خاضعة لقواعد محددة في التصحيح والتضعيف، ويكفي زعم المؤلف صحة رواياته كشهادة عن صحتها(١٩). ولم يبدأ النظر في الأسانيد وعلم الرجال، إلا بعد القرن التاسع الهجري أي بعد آخر الأئمة بـ ٦٥٠عام . (٢٠)

النتيجة : الخيالات الجامحة بدلا من المنطق والشمول
عدم المبالاة بالأسانيد، وعدم التدقيق في موافقة المتن لصريح القرآن، والمنطق البشري الطبيعي، جعل تلاوة الروايات الصادرة من خيال المتحدث أو الكاتب، أمرا سهلا ما دامت الروايات الأصلية التي بني عليها المذهب غير خاضعة للتدقيق. وهذا يفسر كثرة القصص الغارقة في الخرافة التي نراها قد ملأت اليوتيوب حاليا، لأنه لا توجد مقاييس تحكم على دقة هذا المتحدث فيسترخي في خيالاته. والحقيقة فإن هذه الخيالات الجامحة، حل مفيد لمشكلة خلو الروايات الشيعية من محتوى مقنع، منطقا وشمولا، فيكون التحليق العاطفي بالجمهور بديلا. (٢١)


تعويض الروحانية بالطقوس الشكلية 
نظرا لأن الدين عند أهل السنة مرتبط بعلاقة العبد بربه دون أي هواجس أو قضايا جانبية، فإن القرب من الله والتلذذ بالعبادة والتمتع بالروحانية، يتم بالحرص على النوافل التي تقرب إليه، وخاصة قراءة القرآن وقيام الليل. وكل سني يستطيع أداء ذلك كفرد أو جماعة، وليس بحاجة لطقوس معينة أو وسائل خاصة يتقرب فيها لله. 

أما عند الشيعة فلا تخلو كتبهم من الحث على قيام الليل وقراءة القرآن، لكن الزخم العام للتربية الروحية ليس مرتبطا بالاهتمام بذلك، بل ملتصق جدا بما له علاقة بآل البيت. والنصوص في الكتب الشيعية تحشر آل البيت في كل شيء، سواء في مخاطبة الله سبحانه، أو في العلاقة مع بقية الكائنات الحية وغير الحية، أو مع الجن والملائكة، أو في تفسير الظواهر الطبيعية والأحاسيس البشرية. 

النتيجة : طقوس الروحانية كلها مرتبطة بآل البيت
لهذا السبب فإن البديل عند الشيعة في التلذذ بالعبادة، هو حضور جلسات العزاء سواء للحسين أو للائمة الآخرين، والتطويل في حكاية قتل الحسين وصياغتها بطريقة تفاعلية مع الجمهور، بطريقة تجعل لها متعة روحية هائلة عند الشيعة. شكل آخر من أشكال المتعة الروحية، هو زيارة أضرحة الأئمة بطقوس ومراسيم معينة، ولكل ضريح زيارة خاصة وبرنامج وأدعية خاصة. شكل ثالث من أشكال المتعة الروحية، هو الإكثار من المناسبات الدينية المرتبطة بآل البيت. ولهذا فميلاد كل إمام ووفاته وأربعينيته، لها قدسية توفر أكثر من ٣٠ فرصة سنويا للشيعة، بالتمتع بشيء من الطقوس الروحية التي يتسابقون في اختراع الأساليب المناسبة للتعبير عنها. (٢٢)

الاخلاق بين المسؤولية والتقية
يتعامل السنة مع الأمانة والصدق والوفاء، تعاملا مجردا خاضعا للخوف من الله، والمسئولية في الحذر من صفات المنافقين، إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان. ويؤمن السنة بوجود هامش للتورية، وهامش آخر للتقية، وهامش ثالث للتحايل الشرعي، ورابع للمكر بالأعداء، لكنهم يعتبرون هذه الهوامش استثناء، ويضعونها في سياقها المحدود والخاص.  

الشيعة من طرفهم يتبنون التقية كأساس في التعامل لا كاستثناء، كما تدل على ذلك مروياتهم، التي تشير إلى كثير من مواقف الأئمة المبررة بالتقية، والمتعارضة مع شجاعتهم، ورباطة جأشهم. والتقية عند الشيعة ليست للاضطرار ولا للخوف، بل هي مستحبة على كل حال، حتى لو أمن الشيعي الضرر. الأخطر من ذلك، أن كثيرا من المرويات ليس فيها دليل على اقتصار التقية مع الأعداء أو المخالفين، بل هي روايات عامة عن مشروعية التقية هكذا. (٢٣)

النتيجة : القابلية للشك بالآخرين والتوسع في المعاذير
من الطبيعي أن يستحضر الفرد الشيعي في معاملاته، ممارسة الأئمة المعصومين للتقية باستمرار في تعاملاتهم، ويتذكر حثهم عليها، واعتبارها أصلا عظيما في الدين. فإذا كان الإمام المعصوم المؤيد من عند الله غارقا في التقية إلى شحمة أذنيه، فما الذي يمنع الشيعي الضعيف غير المعصوم من استخدامها؟ هذا الاستحضار الذي يخترق اللاشعور، يدفع الشيعي لأن يلجأ للتقية حتى في حياته العادية ومع بني مذهبه، خاصة وأن المرويات لا تقصر استخدام التقية مع المخالفين. هذه الممارسة تفتح الباب بقوة لانتشار الشك وسوء الظن في المجتمعات الشيعية، لأن كل فرد يعتقد أن الثاني يفكر ويتعامل بنفس طريقته وفهمه. وفي بعض المجتمعات الشيعية، تنتشر هذه الظاهرة لدرجة أنهم يثقون بالسنة أكثر من ثقتهم ببني مذهبهم، خاصة في قضايا الأموال والأعراض. (٢٤)

أخيرا 
فهذا جهد ذهني تقديري ليس فيه استقصاء ولا شمول ويمكن بالعمل على غراره التعرف على حالات نفسية أخرى لدى الطائفتين والله أعلم.

-----------------------------------------------------------------------

(١) الصحابة المنتجبون قيل 3 وقيل 4 وقيل 7 وقيل أكثر، جاء في كتب الشيعة أن كل الصحابة خانوا العهد وارتدوا إلا هؤلاء. والروايات الشيعية في تحديد عدد الصحابة المنتجبين كثيرة منها ما رواه الكلیني عن الباقر قوله: " المھاجرون والأنصار ذھبوا إلا ـ وأشار بیده ـ ثلاثة". (الكافي ٢/٢٤٤). وراجع كذلك الاختيار في معرفة الرجال للكشي (ص ٥-١٠).

(٢) تمكن الشيعة أيام الدولة الفاطمية في مصر والدولة الصفوية في فارس كسلطة كاملة، أما تمكنهم أيام بني بويه في خلافة العباسيين، فقد كانت أقرب للوزارة من السلطة الكاملة تحت ظلال الخليفة العباسي. 

(٣) لم يبدأ التشيع يأخذ مذهبا واضحا مستقلا، إلا بعد ظهور جعفر الصادق المتوفي ١٤٨ هـ، ولم يكتمل تشكل المذهب فكريا إلا بظهور الكتب الأربعة الأولى، وعلى رأسها الكافي الذي الفه الكليني المتوفي ٣٢٩ هـ.

(٤) استخدام لفظة "العامة" في الإشارة لاهل السنة جاء مبكرا جدا، حيث ينسب في كتب الشيعة لجعفر الصادق في أحاديث الكليني. 
وفيه عبارة "قال: ما خالف العامّة ففيه الرشاد." الكافي - الشيخ الكليني - ج ١ - الصفحة ٦٨.

(٥) (٦) عبارة تلخص ما ذكرناه عن نفسية الأقلية، وانتظار المهدي جاءت في كتاب بحار الأنوار للمجلسي حيث يقول "بل يظهر من كثير من الروايات أن المخالفين في حكم المشركين والكفار في جميع الأحكام، لكن أجرى الله في زمان الهدنة حكم المسلمين عليهم في الدنيا رحمة للشيعة، لعلمه باستيلاء المخالفين، واحتياج الشيعة إلى معاشرتهم، ومناكحتهم، ومؤاكلتهم، فإذا ظهر القائم عليه السلام، أجرى عليهم حكم المشركين والكفار في جميع الأمور" بحار الأنوار ١٦/٦٦.

(٧) اتهام النبي عليه الصلاة والسلام بالفشل (حاشاه)، مبثوب بشكل ضمني في كل كتب الشيعة، لكن لم أطلع على تصريح بكلمة فشل، إلا عند الخميني في خطبة ألقاها بمناسبة ذكرى مولد المهدي في ١٥/شعبان /١٤٠٠ هـ قال (( لقد جاء الأنبياء جميعا من أجل إرساء قواعد العدالة في العالم، لكنهم لم ينجحوا، حتى النبي محمد خاتم الأنبياء الذي جاء لإصلاح البشرية وتنفيذ العدالة، لم ينجح في ذلك )) (نهج خميني ص٤٦).

(٨) نموذج لتعامل الشيعة مع العهد الأموي والعباسي كتاب : ( أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، تأليف : آية الله جعفر السبحاني ) اضغط على الفصلين المخصصين للتاريخ الأموي والعباسي إضغط هنا.

(٩) من نماذج ذلك، ما ينقله المجلسي عن جعفر الصادق زعمه تفاصيل خروج المهدي، ونبش قبري أبي بكر وعمر وإحيائهما، ثم يحاكمهما على ما يزعم من الجرائم فيقول"كل ذلك يعدده عليهما و يلزمهما إياه فيعترفان به، ثم يأمر بهما فيقتص منهما في ذلك الوقت بمظالم من حضر، ثم يصلبهما على الشجرة، و يأمر نارا تخرج من الأرض فتحرقهما والشجرة، ثم يأمر ريحا فتنسفهما فِي الْيَمِّ نَسْفاً" بحارالأنوار ج : ٥٣ ص : ١٢.

(١٠) روايات الشيعة المعتبرة، تتعامل مع أبي بكر وعمر وعثمان كأعداء، ومن يزعم غير ذلك من الشيعة مضطر لأن ينكر الإمامة، لأن من يؤمن بالإمامة بصدق، لا بد أن يعتبرهم أعداء وخونة ومرتدين، كونهم تآمروا على إنكار تعهدهم للنبي صلى الله عليه وسلم بإمامة علي. أما خلفاء بني أمية وبني العباس، فعدائهم صريح ولا يبذل الشيعة أي جهد في إخفائه.

(١١) الافتخار بأمجاد الأسلاف طبع بشري شائع في كل المجتمعات حتى البدائية منها، ويتشكل ذلك إما في الأغاني والفلكلور، أو في الكتابات والأعياد، أو في أي مظهر آخر. 

(١٢) يروي الشيعة كل ما دار في موقعة كربلاء بتفاصيله المزعومة، والتي تملأ مئات الصفحات من الحوار المسهب، وعادة ما يجري تمثيله حقيقة في مجالس العزاء أمام الجمهور. والتفاصيل في هذا الفيلم المصور ليست خيالات كاتب سيناريو، بل هي مدونة في كتبهم يزعمون أنها حدثت هكذا بتفاصيلها، إضغط هنا.

(١٣) لا يثبت من تفاصيل موقعة كربلاء بأسانيد صحيحة إلا أقل من ٥٪ من الروايات مما هو ثابت في كتب السنة، وأما الباقي فهو إما بأسانيد متهافتة، أو بدون أسانيد، هكذا يروى معلقا. 

(١٤) مظلومية آل البيت لم تكن قضية رصدت عن طريق الملاحظة بعد مرور الزمن، بل إن روايات الشيعة تتحدث عنها كقدر محتوم قبل ظهور المهدي، حيث ينقل نهج البلاغة عن الباقر قوله في حديث طويل "ثم لم نزل أهل البيت نستذل ونستضام، ونقصى ونمتهن، ونحرم ونقتل، ونخاف، ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا … الخ".

(١٥) روي عن الباقر إجابته عن سؤال لماذا لم يتحرك جده علي بن أبي طالب، فكان مما قال "فما بال أمير المؤمنين عليه السلام قعد عن حقّه حيث لم يجد ناصراً، أو لم تسمع الله تعالى يقول في قصّة لوط عليه السلام : قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، وفي حكاية عن نوح فدعا ربه أني مغلوب فانتصر، ويقول في قصة موسى قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين، فإذا كان النبي هكذا فالوصي أعذر. يا جابر مثل الإمام مثل الكعبة يؤتى ولا يأتي".
كفاية الأثر / الخزاز : ٢٤٧ وبحار الأنوار ج ٣٦  ص ٣٥٧.

(١٦) التشابه بين الشيعة والنصارى، لا يقف عند تشبيه قتل الحسين بصلب المسيح، بل هناك تشابه في أمور كثيرة، مثل تشابه تراتيب الحوزة مع سلم الكرادلة، وتشابه تقديس مريم وتقديس فاطمة، و ١٢ إمام مع ١٢ حواري، وتشابه في كثرة المناسبات الدينية، وتشابه في تصوير المسيح والحواريين في الكنائس، مقابل تصوير علي والحسين في الحسينيات، وتشابه في تقسيم الناس لمجتهد ومقلد عند الشيعة، مع تقسيمهم لقسيس وعامي عند المسيحيين. كل هذه التشابهات ليست موجودة عند السنة.

(١٧) هذا الإسقاط يفسر قدرة السنة على استيعاب الشيعة على مدى قرون كثيرة في العراق، حين كانوا هم المسيطرين على الوضع، وفي المقابل عجز الشيعة أن يستوعبوا السنة ولو لسنوات محدودة. والخطف والاعتقال والتعذيب والاغتيالات والمذابح التي تعرض لها السنة قبل وخلال الحرب الأخيرة، تصرف متوقع بسبب هذا الإسقاط. 


(١٨) عمدة المذهب الشيعي على ثمانية كتب منها الأربعة القديمة والأربعة المتأخرة .
الاربعة القديمة هي :
- "الكافي" لمحمد بن يعقوب الكليني توفي ٣٢٩هـ.
- "من لا يحضره الفقيه" للصدوق محمد بن بابويه القمي توفي ٣٨١هـ.
- "تهذيب الأحكام" لشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي توفي ٣٦٠ هـ.
- "الاستبصار" للطوسي أيضا.

والأربعة المتأخرة هي :
- "الوافي" لمحمد بن مرتضى الكاشاني توفي ١٠٩١ هـ.
- "بحار الأنوار الجامعة لددر أخبار الأئمة الأطهار" لمحمد بن باقر المجلسي توفي ١١١١هـ.
- "وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة" لمحمد بن الحسن الحر العاملي توفي ١١٠٤هـ. 
- "مستدرك الوسائل" لحسين النوري الطبرسي توفي ١٣٢٠هـ.

(١٩) لو طبق منهج التصحيح والتضعيف عند أهل السنة على الروايات الشيعية بكل تجرد، لن يصمد أكثر من واحد بالمئة من روايات الكتب الثمانية، وهذا الاعتقاد يحمله كثير من علماء الشيعة:
ويقول شيخ الطائفة الطوسي: "إن أحاديث أصحابنا فيها من الاختلاف والتباين والمنافاة والتضاد، حتى لا يكاد يتفق خبر إلا وبإزائه ما يضاده، ولا يسلم حديث إلا وفي مقابلته ما ينافيه، حتى جعل مخالفونا ذلك من أعظم الطعون على مذهبنا، وتطرقوا بذلك إلى إبطال معتقدنا" تهذيب الأحكام ١\٢. وينقل صاحب رجال الكشي، عن جعفر الصادق في ترجمة جابر بن يزيد الجعفي، الذي روى ٧٠ ألف حديث عن الباقر، ١٤٠ ألف حديث عن غيره، معظمها عن جعفر نفسه ؟ يقول : "والله ما رأيته عند أبي قط إلا مرة واحدة وما دخل علي قط". رجال الكشي الجزء ٣ صفحة ١٩١.. ومع ذلك يوثقه الكشي ويثق برواياته.

(٢٠) أول من بدأ النظر في التصحيح والتضعيف وعلم الرجال، هو زين الدين العاملي المتوفي ٩٦٥هـ ، ومع ذلك فهو لا يقترب فضلا عن أن يشبه طريقة أهل السنة. وبعد ذلك ظهرت المدرسة الأصولية بعد ١٢٠٠هـ، وتوسعت أكثر من التدقيق في الإسناد إلى استخدام المنطق كبديل عن كثير من الروايات التي يستحيل تصديقها للعقل السليم. 

(٢١) من ضرورات نجاح التحليق العاطفي بالجمهور، أن يكون لدى المتحدث صوت جيد وقدرة على الإلقاء الملحن بما يشبه المقامات الحزينة، ولا يكفي أن يكون عالما وقادرا على الحديث.

(٢٢) مناسبات الشيعة لا يكفي فيها التعبد الفردي بل لا بد من حضور نشاط ديني محدد بقيادة أحد المجتهدين، أو "الرادودين" لإحيائها وتحويلها لنشاط احتفالي بمهرجان حزن أو بكاء حسب الحالة. كما أن الأضرحة لها سدنتها ومطوفوها، ولكل ضريح مطبوعات بأدعية خاصة لكل ضريح. 

(٢٣) المرويات عن التقية عند الشيعة، ترفع التقية إلى جعلها ركنا من أركان الدين، وليس مجرد رخصة تنفعه عند الضرورة، تأمل هذه الأقوال المنسوبة للأئمة: 
"التقية من ديني ودين آبائي، ولا إيمان لمن لا تقية له". 
"لو قلت إن تارك التقية كتارك الصلاة لكنت صادقا". 
"ليس منا من لم يلزم التقية ويصوننا عن سفلة الرعية". 
"التقية من أفضل أعمال المؤمن يصون بها نفسه وإخوانه عن الفاجرين".
وقد نص بن بابوية القمي، على أنها واجبة فقال "والتقيَّةُ واجبة، لا يجوز رفعها إلى أن يَخْرج القائم، فمن تركها قبل خروجه، فقد خرج عن دين الله تعالى، وعن دين الإماميَّة، وخالف الله ورسوله والأئمة" الاعتقادات ١١٤.
راجع كتاب التقية في الفكر الإسلامي، إصدار مؤسسة الرسالة ص ٧٤ وما بعدها، إضغط هنا.

(٢٤) يتوسع مفهوم التقية عند الشيعة بسبب مرونته الفائقة، حتى يصل لمرحلة الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة)، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. وهذا ما جعل إيران مثلا تتعامل مع التحديات الإقليمية والعالمية في كثير من الأحيان، بطريقة فيها تغليب للمصلحة على المبادئ، والسبب هو أن المبدأ نفسه يجيز تغليب المصلحة اعتمادا على مبدأ التقية. وهذا هو نفس تفسير طريقة تصرف القيادة العراقية الملتزمة شيعيا، وذلك بالرضا بالتعامل مع الاحتلال إلى آخر مدى ضد السنة، واعتبار من يقاتل الاحتلال إرهابيين. وقد أشرت إلى هذه النقطة في مقال سابق في صحيفة التقرير (إيران الثورة.. مع أو ضد أمريكا؟) إضغط هنا.


السبت، 23 أغسطس 2014

قلب الطاولة على العلمانيين


لو واجه الإسلاميون الصف العلماني بفرص متكافئة، لبدت العلمانية غاية في التفاهة والتهافت أمام الإسلام، لكن الظروف الحالية جعلت مواجهة الإسلام للعلمانية خاضعة لإشكالات كثيرة، حجّمت مقدرة الإسلاميين على سحق العلمانية، سواء عالميا أو في حدود العالم الإسلامي والعربي. من هذه الإشكالات:

تمكين النخب العلمانية بالقوة
يعيش العالم الإسلامي وخاصة العربي منه منذ عدة عقود، وضعا فكريا وثقافيا مصطنعا، أفرزه التمكين المتعمد للنخب العلمانية المدعومة من الغرب، بعد أن فُرضت على الأمة تحت ظلال الطغيان السياسي، وبعد أن أُبعدت النخب الإسلامية الملتزمة بأصالتها. ولقد سيطرت هذه النخب العلمانية على الإعلام والمنتديات الفكرية والثقافية، واحتكرتها لترويج أفكارها المحاربة للأصالة تحت مبررات مختلفة، ووجدت نفسها في حلف طبيعي مع الأنظمة الباطشة، بسبب التبادل الطبيعي للمصالح. ووفرت هذه السلط الحاكمة الجو السياسي والأمني والإعلامي لبث الفكر العلماني، وفي نفس الوقت تعطيل وتحجيم وتشويه الفكر الإسلامي. ومع أن الإسلاميين فرضوا أنفسهم من خلال القوة الذاتية التي في رسالتهم ومصداقيتهم التلقائية في المجتمعات الإسلامية، إلا أن النخب العلمانية لا تزال لها الغلبة من ناحية التمكين.

مرجعية العلمانية في العالم
تحاول هذه النخب العلمانية العربية الاتكاء على الهيمنة العالمية للعلمانية، من خلال القوى الغربية والمؤسسات العالمية، التي جعلت العلمانية السياسية والعلمانية الاقتصادية والمُثل الغربية، الأساس والمرجع عالميا. ونجحت من خلال هذا الاتكاء في جعل أساس التفكير والتعامل المحلي والعالمي علمانيا. هذا الواقع المثقل بالمرجعية العلمانية سياسيا واجتماعيا، والمليء باللغة والمصطلحات العلمانية يجعل الطرح الإسلامي بالضرورة في خانة ضيقة أمام العلمانيين، ويضطر كثير من الإسلاميين دون أن يشعروا لأن ينطلقوا من منطلقات علمانية، أو أن يستخدموا لغة علمانية.

نزعة الاختزال الفكري عند الإسلاميين
استفاد العلمانيون من غلبة ظاهرة الاختزال في الطرح الإسلامي السياسي، وتدوير المشروع الإسلامي السياسي حول فرد الحاكم، بدلا من النظرة الشاملة لنظام الحكم. هذا الاختزال أعطى انطباعا بأن المشروع السياسي الإسلامي مشروع "ثيوقراطي" مهمته فقط توفير الشرعية للحاكم من قبل رجل الدين، على طريقة الكنيسة والملوك في أوربا فيما يسمى بالقرون الوسطى. والمشكلة التي نعانيها أن الذي يتبنى هذا الاختزال في الطرح الإسلامي، ليس العلماء المحسوبين على الحكومات فقط، بل كثير من الذين يصنفون مفكرين ومثقفين إسلاميين. وما لم نتخلص من ظاهرة الاختزال ونعود إلى التأصيل الشرعي الصحيح للمشروع السياسي الإسلامي، فستبقى هذه ثغرة ينفذ منها العلمانيون.

خلط التراكمات الاجتماعية بالدين
استفاد العلمانيون من اختلاط التراكمات الاجتماعية بالدين، واستثمروا الواقع الفكري والثقافي لكثير من المشايخ والمثققين، الذين يمارسون تغييبا للمنهجية الدينية، وبدلا من ذلك يعتبرون التراكمات الاجتماعية دينا ثابتا مقطوعا به، ويمارسون الولاء والبراء على أساسه. وبدا العلمانيون بالضرورة أكثر انسجاما وأقل تناقضا مع أنفسهم، أمام من يخلط التراكمات الاجتماعية بالدين، ويتخلى عن المنهج الشرعي المتجرد. وأكثر ما تجلت هذه الظاهرة في قضية المرأة التي يتعامل معها الإسلاميون بحساسية بالغة، وكأنها هي كل الدين، ويعطونها الأولوية على أمور كثيرة هي في صلب التوحيد والعقيدة والمنهج.

الطرح الاعتذاري الدفاعي
استفاد العلمانيون من غلبة الطرح الإسلامي الاعتذاري، الذي يريد أن يعدل الرسالة الإسلامية لتناسب الواقع الحالي في العالم، ويريد أن يقلد المشاريع العلمانية في تقديم مشاريع اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولا يدرك أنها تُركّب تركيبا مصطنعا فوق الهيكلية العلمانية. ويشعر العلماني بالتفوق حين يرى الإسلامي يطرح طرحا تجميليا، يُكيَّف من أجل أن يناسب الأساس العلماني للدولة القطرية.


الطبيعة الحالية للمواجهة مع العلمانية

هذه المعطيات أدت إلى تشكل استقطاب فكري  بين فريقين، بيدهما أسلحة مختلفة، وفي أجواء محتومة العدائية والمواجهة. وفي ظل الجهل والتجهيل والتهميش للشعوب في العالم الإسلامي، وفي ظل القمع السياسي، أدى هذا الاستقطاب والحرب الفكرية غير المتوازنة إلى اضطراب فكري وتشرذم ثقافي، زعزع استقرار المجتمعات المسلمة وملأها بالبلبلة الفكرية، التي غالبا ما يهرب منها الناس باللامبالاة.

اختراق التفوق الأدواتي للعلمانية
أحدثت الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات وما يسمى بالعولمة، تغييرا جذريا في هذه المعادلة، وساهمت في سلب النخب العلمانية من احتكارها للفكر والإعلام، وتمكين النخب الدينية من مخاطبة الجماهير بلا حواجز. وبهذا السيل من التدفق المعلوماتي وتقنية الاتصال في الانترنت والفضائيات وغيرها، اقترب الطرفان أكثر لما يمكن وصفه بتساوي الفرص، رغم استمرار النخب العلمانية بالتشبث بأدوات الإعلام والثقافة، مدعومة بالحكومات ومحمية بالقمع الأمني. ولقد أدى توفر وسائل الاتصال، وتكافؤ الفرص، إلى حالة غضب لدى النخب العلمانية، لدفع الحكومات إلى مزيد من القمع والتسلط على التيارات الإسلامية، في محاولة لتحجيمها بالقوة. ولولا هذا الدعم من قبل الحكومات والتمكين والحماية وتوفير المظلات الإعلامية والثقافية، وفرضها بالقوة على الناس، لربما أدى تطور وسائل الاتصال، لسحق القوى العلمانية بالكامل.

مبعثر لكن يفرض نفسه  
وليس غريبا بعد هذا التطور أن يستعيد الطرح الإسلامي ثقله وقوته في المجتمع المسلم، أو على الأقل يصبح صوتا قويا في وجه الطرح الإعلامي المصطنع المفروض على الأمة. لكن مع استمرار القمع السياسي والتدخل السلطوي السافر في الفكر والإعلام، اضطرت النخب الإسلامية لأن تخاطب جمهورها من وراء الأفق، وتتحدث من خلال تكوين مبعثر غير قادر على ترتيب نفسه في مرجعية إسلامية محلية أو عالمية. وبهذا انتقل التشرذم الثقافي والاضطراب الفكري من طيف يمتد بين العلمانيين والإسلاميين، إلى طيف يسيطر عليه الإسلاميون، وأصبح الجدل الفكري إسلاميا إسلاميا بعد أن كان إسلاميا علمانيا.

المرجعية باتجاه التشكل
هذا الجدل بين الإسلاميين الذي غابت عنه المرجعية، وغلبت عليه الأفقية والفردية في الطرح، وحُرم من فرص الحوار الحر المعلن المباشر، خلق جوا جديدا من القلق الفكري، وأثار بالضرورة عددا هائلا من التساؤلات لدى المسلمين وغيرهم عن حقيقة الإسلام ومن يتحدث باسم الإسلام. هذا القلق الفكري باعث قوي على ضرورة التعجيل بالطرح المرجعي الجماعي، الذي يعطي الصوت الإسلامي مصداقية في قواعده الاجتماعية، ومصداقية أمام خصومه من الأفكار الأخرى.

كيف تقلب الطاولة على العلمانيين؟

بعد معرفة هذه المعطيات وطبيعة المواجهة، وبعد الخروج من هيكلية التفكير المفروضة علينا في الإعلام والتعليم، نستطيع مواجهة الطرح العلماني بكل اقتدار، باستحضار مجموعة من النقاط التي تضمن هزيمة الفكر العلماني بكفاءة بالغة:

أولا: المتصدي للطرح العلماني يجب أن يكون عارفا بالمبادئ الأساسية للفكر العلماني، وخاصة المذهب الليبرالي، وأن يهتم على وجه الخصوص بحقيقة تطور مفهوم العلمانية، كما يتأكد من فهمه للعلمانية الشاملة في مقابل العلمانية الجزئية التي لم يعد أحد يتبناها الآن.

ثانيا: استحضار حقيقة أن العلمانية مهيمنة ومسيطرة، وأن الذين يتبنونها على مستوى العالم فخورون بها، ويطرحونها على أساس أنها هي الحضارة وهي المرجعية، ويجب أن يتخلص من التسطيح الذي يمارسه الكثير ممن زعم أن الليبرالية أو العلمانية، تنحسر وتنهار بسبب الانهيار الخلقي والاجتماعي في الغرب.

ثالثا: إدراك أن العلمانية لا تعني الديموقراطية بالضرورة، بل إن النازية والشيوعية أشكال ونماذج من تمظهر العلمانية. والتشريعات الجديدة في أمريكا، واستعداد الأمريكان التخلي عن الحقوق المدنية، من أجل ضرورات أمنية، دليل على أن المصلحة مقدمة على المبدأ. ثم حتى مع التسليم بالديموقراطية، فإن المساواة والحرية وحقوق الإنسان المزعومة، ليست للعالم كله، فهي للجماعة المحددة فقط، وأما بقية العالم فيجب أن يبقى تحت الظلم والبطش، حتى يُؤمن لهذه الجماعة مصالحها.

رابعا: يلاحظ لدى العلمانيين والليبراليين العرب وخاصة في بلادنا، رعب من اتهامهم بالتشكيك في أصل الدين، ولذلك يحاولون التهرب من كون العلمانية أو الفكر الليبرالي -أو على الأقل الطرح الذي يطرحونه- يناقض أصل الدين، وهذه تشكل نقطة ضعف واضحة لديهم. والذين يصرحون بالكفر وعدم الإيمان بالدين ليسوا مشكلة، لأنهم مكشوفون ابتداء، ولا يحتاج أحد لأن يتصدى لهم.

خامسا: معظم النخب العلمانية والليبرالية منافقة انتهازية، متحالفة مع الأنظمة، وتجد المستمسكات عليهم في التنظير للأنظمة التي تضعهم في خانة ضيقة تقتلهم. ولذلك يسهل قطع لسانهم من خلال اتهامهم بأن مزاعمهم الليبرالية ليست لحرية التعبير والمحاسبة والمشاركة السياسية، بل هي للتحرر من القيم والدين نفسه، وأنهم في المقابل عبيد وأبواق لمن يمارس القمع السياسي.

سادسا: من الخطأ تبرير مسائل ثابتة في الشرع، أو محاولة تجميلها أو تفاديها، سواء كانت في قضية المرأة أو المشروع السياسي الإسلامي، فالشرع ثابت لا يمكن تغييره. المرأة لها نصف حق الرجل في الميراث، ونصفه في الشهادة، وللرجل قوامة عليها، وللرجل عصمة الطلاق، وله على المرأة حق الطاعة، وهي ناقصة عقل ودين، فمحاولة تجميل هذه الأمور مشروع فاشل مقدما. وكذا الحدود الشرعية، وعلاقة المسلم بالكافر، وتفضيل المسلم على غير المسلم في كثير من الأمور، كلها أمور لا يملك أحد أن يغيرها، لأنها ثابتة ثبوتا قطعيا حاسما في الكتاب والسنة.

سابعا: من الخطأ الدفاع عن التراكمات الاجتماعية واعتبارها من الدين والاستماتة في ذلك، ومن الخطأ كذلك تغيير الأولويات وجعل المشروع الإسلامي يدور حول قضايا اجتماعية ضيقة. الإسلام مشروع الإنسان كله، مشروع سبب خلق الإنسان، مشروع تعبيد الإنسان والبشر كلهم لله، ومشروع خلافة الله في الأرض. ينبغي التفريق بكل شجاعة بين ما هو دين ثابت، وبين التراكمات الاجتماعية التي ليست من الدين، أو التي فيها جانب ديني لكنه خلافي وفيه نظر.

ثامنا: من الخطأ التشبث بظاهرة الاختزال للمشروع السياسي الإسلامي، وظاهرة تدوير المشروع الإسلامي على فرد الحاكم، وضرورة تجنب الانجرار إلى ميدان الدفاع عن طرح خاطئ. ويجب في المقابل توسيع مفهوم المشروع السياسي الإسلامي، وسيظهر بسهولة تهافت المشروع العلماني أمامه.

تاسعا: تجنب الدفاع عن قضايا خلافية أو قضايا جزئية فيها نظر، والإصرار في المقابل على طرق القضايا الكلية والمنهجية والمصيرية.

عاشرا: العلمانيون وبالأخص الليبراليون، الذين يزعمون أن الديموقراطية والتمثيل الشعبي والرأي العام، قضايا بنيوية أصيلة في الفكر الليبرالي، يناقضون أنفسهم مناقضة صارخة حين يعارضون فكر الشعوب العربية وقياداتها الاجتماعية (فكر الأغلبية) ويسعون لفرض فكرهم المستورد الدخيل (فكر الأقلية) فرضا بقوة السلطة. وهذه إحدى النقاط التي تصيب منهم مقتلا، وتفضح مزاعمهم باحترام الرأي العام، وتطلعات الجماهير وقبول صوت الأكثرية.



الاثنين، 18 أغسطس 2014

الإسلام، الإسلاميون والدولة الحديثة للدكتور بشير نافع.

ملاحظات أولية حول مسألة الدولة الحديثة، التعقيدات التي تحيط بمشروع الأسلمة، وحدود هذا المشروع وآفاقه، من حيث علاقته بمؤسسة الدولة الحديثة، التي تعتبر النموذج الوحيد المتاح للدولة والوحدة المعترف بها على صعيد العلاقات الدولية.

مقدمة:
تمثل مسألة الدولة واحدة من أكثر المسائل تعقيداً في الاجتماع السياسي الحديث. وقد شكلت مسألة الدولة أحد أكبر التحديات التي واجهت التيار الإسلامي السياسي منذ ولادته في عشرينات القرن العشرين. لاحظ الإسلاميون الأوائل كيف باتت الدولة الحديثة تتحكم في كافة شؤون الحياة، وهو ما طور رؤيتهم تدريجياً باتجاه محاولة القبض على مقاليد الحكم والسلطة. بدون التحكم بمقاليد الدولة، رأت القوى الإسلامية السياسية، لا يمكن لمشروع الأسلمة الذي حملوه أن يمضي قدماً. ولكن الإسلاميين لم ينظروا إلى الفارق الكبير بين بنية الدولة الحديثة والأسس التي ترتكز إليها، ونموذج الدولة الإسلامية التاريخية الذي استبطنوه.

ولأن حركة الثورة العربية أدت وتؤدي إلى وصول قوى إسلامية سياسية عديدة إلى مقعد الحكم وقيادة الدولة، فإن مسألة الدولة أصبحت أكثر إلحاحاً ومدعاة للجدل، ليس فقط لأنها ستحدد نمط الحكم وإدارة شؤون البلاد، ولكن أيضاً لأنها سترسم علاقة القوى الإسلامية الحاكمة بالشعب وبالعالم.
هذه ملاحظات أولية حول مسألة الدولة الحديثة، التعقيدات التي تحيط بمشروع الأسلمة، وحدود هذا المشروع وآفاقه، من حيث علاقته بمؤسسة الدولة الحديثة، التي تعتبر النموذج الوحيد المتاح للدولة والوحدة المعترف بها على صعيد العلاقات الدولية.
في الاجتماع السياسي التقليدي:
كما الدول الإمبراطورية الأوروبية في القرون الوسطى كانت سلطة الدولة الإسلامية محدودة. أحد أسباب حدود القوة تلك، كان بالطبع بطء وقصور وسائل الاتصال، بما في ذلك وسائط نقل الأخبار والمعلومات ووسائط النقل والحركة. كما كانت تكاليف الحفاظ على مؤسسة عسكرية كافية ومتفرغة عالية نسبياً؛ وحتى أعلى مؤسسات الحكم الإسلامية كفاءة في تحصيل الموارد، مثل الدولة العثمانية، وجدت عنتاً كبيراً في الحفاظ على جيوشها في حالة جيدة، سيما بعد أن تراجعت وتيرة الفتوحات والموارد التي وفرتها.

بيد أن عامل الاختلاف الرئيس بين الدولة الإسلامية ونظيرتها الأوروبية تمثل في الدور الذي لعبته المؤسسة الدينية، طبقة العلماء، في المجال الإسلامي. ففيما عدا الدوائر المتعلقة مباشرة بالحكم والإدارة (بما في ذلك قطاع من الإدارة المالية)، لم تتمتع الدولة الإسلامية بحق التشريع، الحق الذي حافظت عليه مؤسسة العلماء باعتبارها حارسة الدين والمتحدثة باسم الشريعة والجماعة. ولأن الدولة، حتى أكثر الدول الإسلامية التقليدية استبداداً وانحرافاً، أقامت شرعيتها أيضاً على أساس من الإسلام، فقد جمعت قيم الدين بين الدولة ومؤسسة العلماء وقوى المجتمع وجماعاته المختلفة؛ بمعنى أن الجميع عادوا إلى مرجعية واحدة، وتحدثوا لغة مشتركة، ورأوا العالم من منظار واحد.
في الوقت نفسه، وبخلاف المؤسسة الكنسية الأوروبية، لم تنجح الدولة الإسلامية مطلقاً في تحقيق الامتصاص الكلي لمؤسسة العلماء في جسم الدولة؛ ولا نظر العلماء لأنفسهم، حتى في دولة بيروقراطية المبنى كالدولة العثمانية، باعتبارهم شريكاً في الحكم والسلطة. وظلت طبقة العلماء تراوح في مساحة وسطى بين دائرة السلطة والحكم، من ناحية، ودائرة المجتمع/الجماعة، من ناحية أخرى.
بهذا المعنى لا يمكن وصف الدولة الإسلامية التقليدية بالاستبداد، أو على الأقل، أن استبدادها لم يكن شبيهاً باستبداد نظيرتها الأوروبية. لم تتغلل الدولة الإسلامية في قلب الجماعات المختلفة، التي تركت لتدير شؤؤونها في استقلال عن مؤسسة الحكم؛ ولكن في أغلب الحالات، لم تكن سياسات الدولة وقراراتها ترى من قبل الجماعات والفئات الاجتماعية باعتبارها غريبة أو غير منطقية. الحلقة الهامة في هذا التداخل، الجزئي بين الدولة والجماعة، يعود بالتأكيد إلى دور الجسر (وحلقة الاتصال) الذي تعهدته مؤسسة العلماء، والمشترك الإسلامي المرجعي بين الطرفين. كلما تعززت وجهة الدولة الإسلامية وارتفع مستوى تماهيها مع قيم الشريعة العليا، كلما اتسع نطاق المشترك بينها وقوى المجتمع وفئاته. ولكن الطبقة الحاكمة ظلت مع ذلك متعالية، وغير تمثيلية، تماماً كما هي طبيعة الطبقة الحاكمة في الدول ما قبل الحديثة عموماً.
ولادة الدولة الحديثة:
بيد أن العالم سيشهد انعطافة بالغة الأهمية في بنية الدولة وعلاقتها بالمجتمع، بدأت في التجلي ببطء في المجال الأوروبي منذ ما بعد عصر النهضة، وبعد منتصف القرن السابع عشر على وجه الخصوص. أدت الصراعات الأوروبية الداخلية إلى تشظٍ تدريجي للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وإلى بداية تشكل الدول القومية الحديثة. وقد لعبت الحروب والتمايزات الدينية دوراً هاماً في بلورة جهاز الدولة وتأسيس شرعيات جديدة لمؤسسات حكمها. في مواكبة ذلك، ساهم التقدم الصناعي والتطورات المتسارعة في وسائل الاتصال في تعزيز الهويات القومية الوليدة، كما ساهم في تعزيز سلطة الدولة وتعظيم مواردها، سواء الموارد داخلية المصدر، أو تلك التي تدفقت من المستعمرات ما وراء البحار.

ليس ثمة من تعريف قاطع للدولة التي تحكمنا اليوم وتعتبر حجر زاوية النظام الدولي، أو الوحدة الأساسية للعلاقات بين الأمم وبنية المنظمات الدولية. تتباين تعريفات الدولة بتباين المعاجم اللغوية والموسوعات أو معاجم التخصصات المختلفة للعلوم الإنسانية والاجتماعية. التعريف الأشهر للدولة، الذي يعود إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والذي يصف الدولة بأنها المؤسسة الاجتماعية التي تحتكر العنف، يفهم عادة بمعنى شرعية احتكار العنف، ويستبطن معاني السيطرة والهيمنة. ولكن المشكلة أن الدولة، كما كل المفاهيم ذات الامتداد التاريخي، لا يمكن تعريفها في صورة جامعة. وبالرغم من ذلك، فثمة تسميات أكثر شيوعاً للدولة من غيرها، مثل الدولة القومية (أو الدولة - الأمة، إن أردنا الترجمة الحرفية للأصل الأوروبي)، والدولة الحديثة.
والواضح أن مصطلح الدولة الحديثة أكثر شمولاً، ويفترض عادة أنه يضم الدول التي تؤكد سمتها القومية والأخرى التي تحاول أن تتجنب التوكيد على البعد القومي، بدون أن تغفله كلية. وتتعلق الأسباب خلف التوتر، أو التباين الخفي بين المصطلحين، بالجذور التاريخية لمؤسسة الدولة، وبتجلياتها المتعددة. ما لا يختلف عليه دارسو الدولة الحديثة أن بداياتها تعود إلى صلح وستفاليا في 1648، الذي وضع نهاية لحروب الثلاثين عاماً، عندما كانت أوروبا تعيش ذيول عصر النهضة وولادة الطبقات الوسطى، ولم تزل فريسة للصراعات الدينية الناجمة عن الانشقاق البروتستانتي، وصراعات الأمراء والملوك فيما بينهم حول نطاقات السيطرة والشرعية، وبين أغلبهم والمؤسسة الإمبراطورية، التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وإطارها الأوروبي الجمعي، حول السيادة. في وستفاليا، وضعت أسس فكرة الاستقلال السياسي، والتطابق بين حكم معين وحدود الكيان الذي يخضع لسيطرته.
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، شهدت أوروبا ثورتين كبريين، الثورة الإنجليزية والثورة الفرنسية. دفعت الأولى باتجاه فكرة الاجتماع السياسي التسامحي وتوكيد الحقوق، وأنجزت قفزة ملموسة باتجاه انتقال الدولة إلى مؤسسة تعبر عن إرادة الأمة، لا تجلياً لحق الملك الإلهي – السلالي. أما الثورة الفرنسية، التي كان لها أصداء كبيرة وواسعة النطاق، فقد أعلت من شأن فكرة المواطنة والمساواة أمام القانون كما لم يحدث من قبل في التاريخ الأوروبي، وأكدت الطابع القومي للدولة، باعتبارها تجلياً للتماهي بين مؤسسة الحكم والتنظيم الاجتماعي والأمة.
ولأن الدولة الحديثة نشأت في حقبة الصعود القومي، الذي كان المسوغ الأبرز لوجود العدد الأكبر من الكيانات السياسية الحديثة، تلعب الفكرة القومية دوراً بارزاً في بنية الدولة وتوجهاتها وطبيعة قراراتها. ولكن الدول تختلف في علاقتها بالفكرة القومية. هناك دول تتمتع بشعب متجانس(single regnum) إلى حد ما، وهو ما يساعد على تعزيز بنية الدولة الحديثة واستقرارها. ولكن دولاً كبريطانيا، مثلاً، التي هي نتاج المملكة المتحدة من عدد من الكتل الإثنية، تتجنب عادة التركيز على الهوية القومية؛ وقد طورت بدلاً منها هوية بريطانية جامعة وأوسع نطاقاً من الهويات القومية.
بيد أن جرثومة الهوية القومية سرعان ما انتشرت داخل أوروبا وخارجها، بقوة المدرسة والجامعة الحديثتين والتسارع الكبير في أدوات الاتصال والطباعة؛ وقد جعل التزاوج بين الحركة القومية والتقدم العسكري من الحرب جحيماً واسع النطاق من الدمار والخراب والإبادة. وأصبحت الحروب بدورها رحماً ضرورياً لولادة الدول، القومية – الحديثة، وتكاثرها، أو، كما يقول فاينر، أصبحت "الحرب الحاضنة الضرورية، والقوات المسلحة الأداة المميزة، لنظام الدولة." أخذت الأنظمة الإمبراطورية في الانحسار أو الانهيار، وفي انحسارها أو انهيارها، تركت خلفها كيانات سياسية جديدة، أو أفسحت المجال لتوسع إمبراطوريات منافسة.
بخلاف الدولة التقليدية، تمارس الدولة الحديثة حكماً مركزياً، يقوم على الأصل الأكبر: أن الدولة مصدر الشرعية ومنها تصدر القوانين؛ وتؤسس عملية التقنين لسيطرة الدولة الشاملة على التعليم، الاقتصاد والتجارة والنقد، الاتصال، الإسكان، أنماط السلوك، العقاب، الملكية، الأمن، والأرض والحدود. تفترض الدولة، باعتبارها تجلي الأمة، الولاء الكامل، الذي يؤسس في المقابل لفكرة أن قرارات الدولة وسياساتها تعبيراً عن إرادة الأمة، وللنص الدستوري الشهير على سيادة الشعب وعلى أنه مصدر السلطات، كما يؤسس كذلك لمبدأ الخيانة بكافة مستوياتها ودرجاتها.
وتعتبر الدولة الحديثة في مهدها الأوروبي دولة علمانية بامتياز. وبالرغم من أن من الصعب تحديد لحظة الانفصال الأولى بين الدولة والكنيسة، فالمتفق عليه أن الانشقاق البروتستانتي، وما ولده من حروب، يؤشر إلى بداية هذا الانفصال. بهذا المعنى، لم تمثل العلمانية في مطلعها تياراً مناهضاً للدين، بل توجهاً لتأميم الدين، أو تحريره من احتكار المؤسسة الكنسية. ولكن العلمنة في النهاية كانت ظاهرة تاريخية، صنعتها جملة المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشتها أوروبا الحديثة، وأدت إلى تراجع دور طبقة رجال الدين وصعود فئات اجتماعية حديثة؛ وإلى انحسار دور الكنيسة، حتى في دول الأغلبية الكاثوليكية، لصالح مؤسسات غير دينية المنشأ؛ وإلى تقويض المؤسسات والعلاقات الاقتصادية التقليدية ونشوء علاقات جديدة، داخل المجتمعات وبينها وبين الخارج، مجردة من القيم الدينية؛ وإلى انهيار الرواية الكنسية للعالم، مفسحة المجال لروايات جديدة كلية.
وربما تصلح النقاط التالية، التي خلص إليها تشارلز تيللي، لتلخيص السمات الكلية للدولة الحديثة والشروط الاجتماعية المؤسسة لحداثتها:
1- تسيطر الدولة الحديثة على مساحة أرض متصلة ومحددة، وهي مصدر الشرعية الأعلى على هذه الأرض.
2- أنها دولة تحكم مركزي، يتفوق مستوى مركزيتها على أي مستوى تمتعت به مؤسسة الدولة من قبل.
3- أنها مؤسسة تعلو على وتتميز عن أية مؤسسة اجتماعية أخرى.
4- أنها تستطيع فرض ادعاء السيطرة باحتكار متزايد للقوة داخل مناطق تحكمها.
5- وتكفل هذه الدولة أنماط العدالة، حق التجمع، حرية الإعلام والنشر، حق التظلم، حماية الأقليات، الدفاع عن الحياة والملكية، مبدئياً وفي شكل عام، وليس بفعل نفوذ الفرد أو الصلات الخاصة.

مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانطلاق حركة التحرر من الاستعمار، أصبحت الدولة القومية - الحديثة النموذج الشرعي الوحيد للدولة في العالم؛ وأسست الأمم المتحدة باعتبارها الإطار المرجعي لوجود الدولة وشرعيتها. وقد تعززت هيمنة الدولة القومية – الحديثة على الساحة العالمية السياسية بانهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات، وتحرر الكيانات السياسية القومية التي ضمها الإطار السوفياتي، وانقسام الكيانات فوق القومية القلقة التي احتمت بمظلة الكتلة الشرقية، مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
التحديث الإسلامي:
تحول التفوق الغربي إلى مصدر اهتمام وقلق كبيرين لمصلحي نهايات القرن التاسع عشر، علماءً كانوا أو رجال دولة أو رحالة أو مراقبين لطرائق عمل الإدارات الإستعمارية. وقد عكست الاستجابة الإسلامية للتحديات التي فرضتها مواجهة التفوق الغربي حقيقة أن التراجع الإسلامي الأول أمام القوة الصاعدة لأوروبا الحديثة جاء في ساحة الحرب لا في ميادين القانون والتعليم والإدارة. ولم يكن غريباً بالتالي أن تبدأ أولى محاولات الإصلاح الإسلامي على يد رجال الدولة، مثل سليم الثالث ومحمد علي وبايات تونس والسلاطين القاجار، وأنها اقتصرت على إعادة البناء العسكري. ولكن سرعان ما أصبح واضحاً ان التحديات الغربية كانت أكثر عمقاً وشمولاً، وأنه حتى إعادة البناء العسكري لم تكن ممكنة بدون إعادة بناء سياسي واجتماعي واقتصادي واسع النطاق. خلال الحقبة بين منتصف القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الأولى، تعرضت معظم بلاد الإسلام لعملية إعادة البناء أو التحديث هذه، العملية التي وصلت في أغلب الأحيان إلى ما يشبه إعادة صياغة كاملة للمجتمعات الإسلامية.

اختلفت أدوات وديناميات برامج التحديث من منطقة إلى أخرى. في مصر، تونس، إيران، والدولة العثمانية، لعبت الدولة الدور الرئيس في حركة التحديث؛ بينما كانت الإدارات الاستعمارية هي المسؤولة عن برامج التغيير في الجزائر وأندونيسيا والهند، التي وقعت جميعها ضحية للتوسع الإمبريالي الأوروبي المبكر. وقد استأنفت الإدارات الإستعمارية دورها ذاك في مصر وشمال وغرب أفريقيا بعد أن وقعت هذه البلاد تحت السيطرة الأجنبية. وليس هناك من شك في أن المشروع التحديثي العثماني كان أكثر مشاريع التحديث شمولاً، إذ أنه تواصل من 1840 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة، بدون أي انقطاع يذكر.
أحد أهم أهداف المشروع التحديثي، كما مثلته التجربة العثمانية، كان توكيد وبسط سيطرة الدولة على الأرض والمجتمع. استدعى ذلك الهدف احتكار الدولة لأدوات العنف، ممثلة في الجيش الحديث، وأجهزة الشرطة والأمن. كما استدعى بناء إدارة هرمية غير مشخصنة (ترتكز إلى سلسلة متصلة من مستويات المسؤلية)، وفرض الحكم المركزي على المناطق التي كانت تدار محلياً أو بما يشبه الحكم الذاتي. ومن أجل إحكام سيطرة الدولة وديمومة هذه السيطرة، وبهدف تعظيم الموارد، شقت الطرق الجديدة ومدت خطوط سكك الحديد، وأنشئت شبكات الاتصال التلغرافي، كما أطلقت مخططات الإصلاح الزراعي التي غيرت أنماط توزيع وملكية الأرض المستقرة منذ قرون. وقصد بإدخال النظام التعليمي الحديث وإقرار المناهج الدراسية المركزية ان تنتج المعاهد التعليمية الحديثة النمط المطلوب من موظفي الدولة، إضافة إلى خلق أمة ومجتمع جديدين، توحدهما رؤية واحدة ونمط تفكير واحد.
طبق المنطق نفسه في الحقل القانوني، حيث استبدل النظام القديم القائم على القاضي والمحكمة الشرعية بمحاكم حديثة؛ وبعد محاولة قصيرة العمر لتقنين الشريعة الإسلامية، استوردت الأنظمة القانونية الأوروبية المدنية كما هي تقريباً. وسواء في المناطق الواقعة تحت السيطرة الأجنبية أو في البلاد التي لم تزل تحت حكم إسلامي، وضعت الدولة يدها، وعلى نطاق واسع، على الأوقاف، إما لأن الدولة رأت فيها قاعدة ومصدر دعم للقوى التقليدية المناهضة للمشروع التحديثي، أو لسعي الدولة إلى الحصول على مصادر ثروة إضافية لتمويل حركة التحديث. وإلى جانب الاختراق الاقتصادي الأوروبي الواسع للأسواق الإسلامية والتهميش المتزايد لاقتصاديات بلدان العالم الإسلامي، فإن حقبة التحديث تركت أثاراً عميقة على التكوين الإجتماعي، على علاقة الدولة بالمجتمع، وعلى منظومة القيم الثقافية والاجتماعية.
تزامنت محاولات إقرار مباديء التمثيل السياسي والنظام الدستوري، التي شهدتها مصر وتونس والإمبراطورية العثمانية وإيران، والتي استهدفت تأسيس إحساس بالمواطنة، مع التوجه لتوكيد سلطة الدولة وتعزيز قوتها. وبتقويض "الاستقلال المحلي" الذي وفرته أنماط التنظيم الإجتماعي التقليدي، بإدخال أنظمة شمولية إلى حقلي التعليم والعدل، وباحتكار حق التشريع، تجلت قوة الدولة وسيطرتها كما لم تتجلى من قبل طوال التجربة التاريخية الإسلامية. واختل بذلك التوازن الإسلامي التاريخي بين المحكوم والحاكم لصالح الأخير.
بيد أن مسافة متسعة أخذت تفصل الحاكم عن المحكوم، وإحساس بالاغتراب أخذ يثقل العلاقة بين الناس والقوانين الجديدة، والمدرسة والثقافة الجديدتين، وهو ما ولد مقاومة اجتماعية قوية. ولأن عملية التحديث مضت بموازاة اختراق أوروبي اقتصادي وتجاري عميق، شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتفاضات شعبية متتالية في عدد من مدن السلطنة العثمانية، دللت جميعاً على عمق الألم والغضب الذي انتاب جموع المسلمين جراء فقدان سبل المعاش والأمن الاجتماعي. أما في البلدان الإسلامية الواقعة تحت الحكم الأجنبي، مثل الجزائر والهند، فقد كانت المقاومة وردود الفعل أكثر عنفاً وأطول زمناً.
ولدت الدول العربية من رحم الدولة العثمانية، التي استلهمت النموذج الأوروبي الحديث في القرن التاسع عشر، أو كوريثة للإدارات الاستعمارية، التي أقيمت هي الأخرى على صورة المتروبول الإمبريالي الغربي الحديث. من جهة امتلاكها لوسائل القوة وأدوات السيطرة والتحكم، وقدرتها على الوصول إلى كافة طبقات المجتمع، تعتبر الدولة العربية دولة حديثة بامتياز. وليس ثمة شك أن هذه الدولة، بالرغم من ضعفها في ميزان القوى العالمي، وأحياناً الإقليمي أيضاً، أفادت إلى حد كبير من التقدم المتسارع في وسائل الاتصال والتحكم. وسواء بفعل قدرتها المتفاوتة على الجباية، أو لاستنادها إلى مصادر ثروة ريعية، أو لارتباطها بالقوى الدولية واعتمادها على المساعدات الأجنبية، توفرت للدولة العربية الحديثة من الموارد ما ساعدها على الاحتفاظ بمؤسسات أمنية عسكرية باطشة، مقارنة بقوى المجتمع الأخرى. وتلعب هذه المؤسسات الدور الأبرز في تأمين سيطرة الدولة وتحكمها.
كان من المفترض عند لحظة الاستقلال أن تتطور الدولة العربية لتصبح أكثر تمثيلية واستجابة لقوى المجتمع وفئاته، وأكثر تعبيراً عن إرادة الأكثرية؛ أن تصدر قراراتها وسياساتها وتشريعاتها من روتين تفاوض ومساومة دائمة مع بنى المجتمع التحتية وقواه. ولم يكن ذلك الافتراض في حينه طائشاً، فقد كانت نضالات الشعب هي التي جاءت بالاستقلال أصلاً، وهي التي جعلت ولادة دولة الاستقلال ممكنة. ولكن لأسباب يصعب التطرق إليها هنا، لم يكن هذا هو المسار الذي أخذه تطور دولة ما بعد الاستقلال. ما حدث، أن الدولة العربية حافظت على خصائصها الحداثية الاستبدادية، وكفاءتها المميزة في إدارة آليات السيطرة والتحكم، بدون أن تطور مؤسساتها وأدواتها التمثيلية وشرايين اتصالها السياسية ببنى المجتمع التحتية. وباستكمال عملية سيطرة الطبقة الحاكمة على مقدرات الحكم والثروة خلال العقدين الماضيين، لم تعد الدولة تلقي بالاً للمجتمع الذي تحكمه.
وفي السياق التحديثي، فقدت المجتمعات العربية – الإسلامية إجماعها التاريخي. فما أن أخذ العصر الجديد في إنتاج رجالاته ولغته حتى أخذت طبقة العلماء، التي حافظت على لحمة المجتمع لقرون طوال، في التراجع إلى موقع هامشي، وبدأ النظام الأخلاقي التقليدي في الانهيار. ولأن التحدي الغربي كان المستبطن الرئيس لعملية التحديث، فقد ساهم التأثر بالنماذج الغربية السياسية – الاجتماعية والفكرية في تشظي المجتمعات العربية – الإسلامية. كما عملت السيطرة الأجنبية على بناء منظومة إقليمية ترتكز إلى التجزئة السياسية. ولم يلبث انهيار الإجماع وتبلور منظومة التجزئة أن عملا معاً على تقويض عوامل الاستقرار وتوليد المزيد من التشظي الداخلي، الإثني والطائفي.
الإسلام، الإسلاميون، والدولة الحديثة:
ما لذي تعنيه هذه السيرة إذن للجدل الدائر في الساحة السياسية العربية، سيما في الدول التي تعيش حالة من الثورة والتغيير، حول الإسلام والقوى السياسية الإسلامية والدولة الحديثة؟

1- باعتبار التاريخ الإنساني الطويل وتاريخ الاجتماع السياسي، تعتبر الدولة الحديثة ذات عمر قصير بالفعل، بحيث يصعب فهم سيطرتها القاطعة على تصور المجتمع الإنساني للدولة وفهم احتكارها القطعي للنظام الدولي. ولكن، وبالرغم من المعضلة التي تمثلها الدولة الحديثة للمجتمع الإنساني، فلا يبدو أن الإنسان الحديث في طريقه لإيجاد بديل عنها. وربما كانت المهمة الأولى أمام الشعوب العربية اليوم، بما في ذلك القوى السياسية الإسلامية، العمل على منع انهيار مؤسسة الدولة وانتشار الفوضى، من جهة، وعلى تحرير الدولة من الاستبداد، عقلنتها وجعلها أكثر تعبيراً عن الإرادة الشعبية وطموحات الناس، من جهة أخرى.
2- أدت سيطرة نموذج الدولة القومية – الحديثة، باعتبارها وحدة النظام الدولي وأساس العلاقات بين الشعوب، إلى ولادة مفهوم الدولة الفاشلة. فالمفترض أن كل دولة تعجز عن امتلاك السمات الأساسية للدولة القومية - الحديثة هي بالنتيجة دولة فاشلة. والمؤكد، أن عدد الدول الحديثة التي فشلت بالفعل خلال الحقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو تلك التي تعاني صعوبات هيكلية، هو عدد كبير بالتأكيد. ثمة دول شهدت موجات متكررة من الحروب الأهلية، على خلفية من أسباب عرقية – إثنية أو دينية أو سياسية، مثل لبنان وباكستان الكبرى وسريلانكا، ويوغسلافيا وجورجيا، ونيجيريا والكونغو ودول البحيرات العظمى وليبيريا وأثيوبيا والصومال، التي تعتبر الآن الشاهد الأبرز على فشل الدولة وانفراط عقدها. وهناك دول عانت أو تعاني من فترات متفاوتة من العنف الداخلي، مثل العراق والجزائر وافغانستان والسودان وباكستان واليمن. إضافة إلى دول تمر الآن بمرحلة من القلق، مثل بلجيكا وحتى بريطانيا.
3- إن أغلب الأنظمة العربية هي أنظمة تسلطية، تحكم من خلال سيطرة الحزب الواحد، بدون أي وجود حزبي، أو من خلال تعددية حزبية مظهرية. خلال العقود القليلة الماضية، لم تعد أي من الدول العربية تحرص على وجود محتوى أيديولوجي أو شبه أيديولوجي لنظام الحكم. هذه أنظمة حكم تسلطية سافرة. ثمة دول عربية تستمد استقرار سيطرتها التسلطية من شبكة علاقات قوى داخلية، وأخرى من النظام العالمي الذي ترتبط به، وثالثة من كليهما معاً. إن لم تحدث قطيعة كاملة وحاسمة مع نظام الحكم التسلطي، فسيصعب التخلص من الاستبداد، وسيقوم هذا النظام بإعادة توليد نفسه، على نحو أو آخر.
4- يتعلق أحد الشروط الضروية لمواجهة الاستبداد بتقليص حجم الدولة، لاسيما حجم الأجهزة الأمنية والبيروقراطية الإدارية لمؤسسات الحكم المختلفة، التي تضخمت على حساب أجهزة الدولة الأخرى، ونظراً لإخفاق الدولة في القيام بمسؤولياتها الضرورية في مجالات الاقتصاد والتنمية ومكافحة الفقر والصحة والتعليم.
5- ويتعلق الشرط الثاني لمواجهة الاستبداد في تعزيز قوة المجتمع ومقدراته. لقد أضعفت حركة التحديث القدرة التفاوضية للمجتمع في تعامله مع مؤسسة الدولة الحديثة، ولإعادة بناء هذه القدرة التفاوضية لابد من دعم مؤسسات العمل المدني وتجنب إغراءات القضاء على ما تبقى من المؤسسات التقليدية، بحجة رجعيتها وعدم ملائمتها مع الاجتماع السياسي الحديث. إن أغلب المؤسسات التقليدية تستديب بطبيعتها للخطاب الإسلامي وتتماهى معه.
6- لقد ولدت فكرة تطبيق الشريعة، أو العودة إلى حكم الشريعة، في حمى التدافع السياسي الذي شهده المركز العثماني في ستينات القرن التاسع عشر. كان خطاب الشريعة، بالرغم من الغموض الذي أحاط به، الإطار الرئيس لحركة المعارضة التي قادها عدد من إداريي الدولة، الذي سيعرف بعد ذلك باسم "العثمانيين الجدد،" ضد رفاقهم من الحكام التحديثيين. رأى العثمانيون الجدد كيف أن حركة التحديث عززت قبضة الدولة وولدت استبداداً لم يعرفه الميراث العثماني، ورفعوا بالتالي شعار الشريعة لمواجهة استبداد الدولة الحديثة. ولكن لا العثمانيين الجدد في القرن التاسع عشر، ولا أبناء الحركة الإسلامية في القرن العشرين، نظر إلى عواقب تجسيد مفهوم الشريعة الغامض في إطار من لوائح القوانين المركزية الحديثة، وتسليح مؤسسة الدولة الحديثة بهذه اللوائح. وربما تعتبر هذه المسألة واحدة من أصعب التحديات التي تواجه القوى السياسية الإسلامية اليوم، نظراً للتناقض الأصيل بين بنية الدولة الحديثة والتصور المؤسس لهذه القوى. وليس ثمة شك في أن تسلم بعض القوى الإسلامية لمقاليد الحكم يغري، على المدى القصير أو البعيد، بمحاولة أسلمة الدولة، أو تسليح الدولة بأداة الإسلام والشريعة. مثل هذا التوجه لن يؤدي إلا إلى تعزيز قوة الدولة وسيطرتها، وإلى توليد نموذج جديد للاستبداد، يرتكز إلى الشرعية الدينية.
7- هذا لا يعني بالضرورة أن موقف الإسلاميين في الحكم لابد أن يكون موقف اللامبالاة من مؤسسة الدولة الحديثة التي يتولون أمرها. ما ينبغي القيام به، أولاً، هو تحييد الدور الإيديولوجي لمؤسسة الدولة. وبتحييد الدولة، وتحرير المجتمع من سيطرتها الإيديولوجية، يمكن للقوى الاجتماعية الإسلامية أن تعمل على بناء مجتمع القيم (moral society)، الذي هو الهدف الإسلامي الأكبر للحياة. وينبغي، ثانياً، أن تتجنب القوى الإسلامية في مرحلة الحكم إغراءات النهج الليبرالي – الجديد للدولة. للدولة، بما في ذلك الدولة الحديثة، مسؤوليات أخلاقية واجتماعية، ويجب على الدولة، سيما في البلاد العربية والإسلامية، مسؤولية حماية المجتمع من تغول رأس المال. وينبغي، ثالثاً، أن يحافظ الإسلاميون على حس نقدي تجاه الدولة، وأن يساهم المثقفون الإسلاميون في الجدل الدائر في أنحاء العالم حول الدولة الحديثة ومستقبلها.
8- إن التصاعد غير المسبوق للصراع على الدولة ينبع من طبيعة الدولة الحديثة المركزي والتحكمي والشعور بالعجز عن تحقيق البرامج بدون السيطرة على مقاليد هذه الدولة. فإن أمكن تحييد دور الدولة الإيديولوجي وتعزيز قوى المجتمع، ستتقلص على المدى البعيد السيطرة التحكمية لمؤسسة الدولة وتتوفر مجالات جديدة للتأثير في المجتمع.
9- إن تعزيز توجهات الوحدة، سواء الوحدات الإقليمية أو العربية الواسعة، هو المخرج الأكثر فعالية من أزمة الدولة الحديثة في نسختها العربية: نزوعها الطبيعي للسيطرة والتحكم، وعجزها عن الاستجابة لمطالب التنمية والرفاه، وضعفها أمام التحديات الخارجية.
10- إن على القوى الإسلامية السياسية أن تعترف أنه إلى جانب سيطرة نظام الدولة الحديثة، فإن المجتمعات العربية – الإسلامية شهدت قدراً ملموساً من العملنة، ليس بالمعنى القانوني والثقافي فحسب، ولكن أيضاً، وبصورة أكثر عمقاً، بالمعنى الاجتماعي. لم تعد طبقة العلماء هي التي تقود المجتمع وتضع قيمه وتصوغ خطابه، بل فئات اجتماعية حديثة، تلقت تعليماً وتدريباً حديثاً؛ وحتى تلك التي تعتبر نفسها إسلامية التوجه، تميل إلى قراءة الإسلام من خلال تصور حديث للعالم. ولكن هذه العلمنة لم تصل مطلقاً إلى مداها، ولم تستطع طمس ولاء الأغلبية لدينها. هذه علمنة وإن تشابهت مع نظيرتها الأوروبية، فإنها تختلف عنها من جهة نتائجها؛ ولابد أن يتطور خطاب إسلامي سياسي يأخذ هذا التطور غير المسبوق في التاريخ الإسلامي في الاعتبار.
11- كان انهيار الإجماع واحداً من أبرز مترتبات عملية التحديث والعلمنة وسيطرة الدولة الحديثة، سيما في ما يتعلق بمسألة الهوية والتوجهات الاستراتيجية والرئيسة للدولة والمجتمع. ولأن الأغلبية لم تزل على ولائها الإسلامي، فإن القوى الإسلامية هي أكثر القوى السياسية تأهيلاً لإعادة بناء الإجماع في المجتمعات العربية – الإسلامية. وليس هناك من إمكانية لتأسيس استقرار وإطلاق نهضة، أو حتى إطلاق حوار حول دور الدين في المجال العام، بدون توفر قاعدة إجماعية. وربما تكون هذه أكثر المهمات حيوية وضرورة للقوى الإسلامية الحاكمة.
12- ويتصل بظاهرة العلمنة المحدودة وانهيار الإجماع مسألة بروز الهويات الفرعية، لاسيما في البلدان ذات التنوع الديني والطائفي والإثني. وفي حين من الخطر إنكار وجود هذه الهويات، سيكون على القوى السياسية الإسلامية أن تكرس جهداً هائلاً للتعامل معها والحفاظ على وحدة البلاد في آن واحد.
13- في النهاية، ربما، لابد من التذكر بأن تصور أهل السنة للدين، يختلف إلى حد كبير عن نظرائهم المسلمين الشيعة، وعن المسيحيين أو أصحاب الديانات الشرقية. في تصور أهل السنة، تعتبر الجماعة/ الأمة مستودع الحق ومصدره، وليس الإمامة أو الكنيسة أو الطبقة المكرسة من رجال الدين، كما هو الوضع في التشيع أو الكاثوليكية أو البوذية والبراهمية. ما تراه الجماعة/ الأمة حقاً فهو حق؛ وهم أهل السنة لأنهم على نهج النبي، وهم ورثته.

الأحد، 17 أغسطس 2014

العنف المقدس وحتمية الدم في التغييرات التاريخية


مستوى العنف المصاحب للربيع العربي والثورة السورية والحركات الجهادية، خاصة الدولة الإسلامية في العراق والشام، أثار جدلاً كبيراً معظمه في اتجاه النقد والوصف بالدموية والقسوة. والعنف إذا لم يكن مبررا شرعا ولا أخلاقا، فهو مرفوض ولا يجوز إقراره ولا تأييده، لكن هناك فرق كبير بين الموقف الشرعي والأخلاقي، وبين الإقرار بحتمية تاريخية لقضية ما.
ربما يمكن تحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي محدود دون دماء، لكن التاريخ يؤكد لنا أنه لا يمكن نجاح أي تغيير شامل دون سفك كمية هائلة من الدماء، سواء كان مبررا أو غير مبرر(١). وفي أغلب الأحيان يصحب ذلك العنف مستوى عال من القسوة والرعب والإرهاب. والعجيب أن هذه التحولات القائمة على الدم والقسوة، دائما ينظر لها تاريخيا من قبل الأجيال التالية بتعظيم وتقديس وأسطورية. الأعجب من ذلك أن تنسب مكاسب الحرية والعدل والديموقراطية التي تنعم بها كثير من بلدان العالم لهذه الأحداث العظام.

الثورة الفرنسية
دماء وفوضى جلبت الديموقراطية
لم تكن الثورة الفرنسية التي ينسب لها الفضل في الديموقراطية التي تشمل أوربا والعالم، مسيرات سلمية بريئة ولا نشاطا مدنيا هادئا، بل كانت عاصفة دموية صاخبة مليئة بالفوضى والتناقضات. أُعدم في المرحلة الأولى من الثورة الفرنسية ما لا يقل عن ٤٢ ألف شخص بينهم ١٧ ألف أعدموا بالمقصلة في باريس لوحدها. وكان من بين أكبر ضحايا المقصلة، نفس رموز الثورة، وفي مقدمتهم الرجل الأول في الثورة ماكسمليان روبسبير، وإعلامي الثورة والصحفي الأول جان بول مارات. هذه الأرقام لا تشمل الحروب التي حصلت بعد ذلك داخل فرنسا، إلى أن استلم نابليون المسئولية ثم الدماء التي تسبب بها نابليون.
ينظر الفرنسيون للثورة الفرنسية بكل فخر واعتزاز ويضعونها في مقام النبوة، بل يفتخرون فيها على كل العالم، وحق لهم ذلك فقد كانت الثورة ملهمة للتخلص من الاستبداد في معظم أوربا (الربيع الأوربي(٢)). الفرنسيون لا يجهلون كمية الدماء التي سفكت، والفوضى التي عصفت ببلادهم خلال الثورة الفرنسية، لكن هناك اتفاق تلقائي على تجاوزها، كدليل على الاعتراف بحتميتها التاريخية.

اوليفر كرومويل
المسلك الوهابي في بريطانيا
يتحدث الناس عن بريطانيا بصفتها أعرق ديموقراطيات العالم، ويصفونها بأنها أصدق في الحرية والعدل والمساواة من الديموقراطية الفرنسية والأمريكية. لكن الغالبية العظمى من الناس لا يعلمون أن كل هذه الديموقراطية مدينة بالفضل لأوليفر كرومويل(٣) الذي يكاد يكون نسخة بروتستانتية من تنظيم الدولة أو محمد بن عبد الوهاب.
ثار كرومويل على الملك تشارلز الأول حين رفض التنازل عن بعض السلطات للبرلمان، ودخل معه في حرب أهلية استغرقت أربع سنوات وتسببت في قتل ١٦٠,٠٠٠ شخص، سوى من مات بالمرض والمجاعة. ورغم ضغطه على الملك للتنازل عن سلطاته، فقد كان كرومويل بروتستانتيا متشددا، يحكم بتدمير التماثيل والصور ويُلزم المجتمع بالمظاهر الدينية، ويضيّق على الطوائف الأخرى ويسيّر حملات "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(٤).  
لا يشكك أي بريطاني في أنه لولا ثورة كرومويل لما آلت الديموقراطية البريطانية إلى ما هي عليه الآن، بل إن الشعب البريطاني يتفق على تعظيمه لدرجة أن تمثاله أهم تمثال أمام البرلمان البريطاني. هذا التعظيم والاحترام لدور كرومويل في التوطئة للديموقراطية، يحصل دون اعتراض على هذا السفك الهائل للدماء والتشدد "الوهابي" وإلزام المجتمع بالقيم الدينية. (٥)

يوليوس قيصر
ثار على الديموقراطية فأصبح عظيما
يقرأ الناس سيرة يوليوس قيصر قراءة روائية لا يدركون فيها البعد التاريخي السنني، ويكتفون بالمسرحيات والطرح الأدبي السطحي. يتفق المؤرخون أن يوليوس قيصر أهم شخصية في التاريخ الروماني، وهو الذي حول روما من إمارة صغيرة إلى امبراطورية، وهيأها لأن تبقى بعد ذلك عدة قرون بنفوذ وامتداد عالمي قل أن شابهه نفوذ في التاريخ. من المفارقات أن يوليوس قيصر صاحب هذا الفضل على الرومان، قضى على ديموقراطية روما (النخبوية) (٦)وحكم بشخصية المستبد، وتمكن بدهائه وقدراته القيادية من مضاعفة نفوذ روما عشرة أضعاف. حتى أن روما لم تتمكن من مواجهة الغال إلا بمهارته العسكرية وسلطتة النافذة.
ولم يستطع قيصر السيطرة المطلقة إلا بعد أن دخل في حرب مدنية مع مجلس الشيوخ (رمز الديموقراطية) التي تحالفت مع بومبي، وتسبب في كمية هائلة من الدماء أدت لسيطرته المطلقة على السلطة. بعد أن تخلص من خصومه، طبق نظرته للحكم التي كان فيها درجة عالية من الإصلاح الإداري. ويلخص مسيرة يوليوس قيصر قولته العظيمة "إذا كان ولا بد من خرق القانون فمن أجل السيطرة على الحكم فقط، وإلا فعليك الالتزام به".
  
بسمارك
بطل أسطوري بقوة الدم والخديعة والحيلة
لا يختلف اثنان من الألمان على أن بسمارك هو أب ألمانيا ومؤسسها، وإن توحيده للإمارات والممالك الألمانية عمل تاريخي عظيم، يجعله الشخص الأول في أي كتاب تاريخي عن ألمانيا. ولم تكن مسيرة بسمارك في توحيد ألمانيا سلمية ولا بالإقناع، بل كانت مسيرة طويلة حافلة بالحروب والدماء من سنة ١٨٤٨ إلى سنة ١٨٧١، حين تأسست الامبراطورية الألمانية وأصبح أول مستشار لها.
ورغم أن بسمارك ظهر بعد الربيع الأوربي وبعد وعي الناس بقيم الديموقراطية، إلا أن الزخم العام في الوجدان الألماني في حينها كان لديه الاستعداد بالتفريط ببعض قيم الديموقراطية في سبيل الوحدة والقوة للقومية الألمانية. وكانت أول خطوة دراماتيكية لبسمارك تجاهل البرلمان المحلي الذي عطل ميزانية الجيش، وصرف للجيش الميزانية رغم أنف البرلمان.(٧)
ولم تكن القوة سلاح بسمارك الوحيد، بل كان ماهرا بالحيلة والخديعة والإيقاع بين خصومه، حتى لو كان الإيقاع بينهم يتسبب في المزيد من الدماء والأشلاء، ما دامت النهاية تضخيماً لحجم الكيان الألماني. وبهذا الإنجاز صار بسمارك بطلا قوميا مقدسا عند الألمان، واعتبرت الحروب والدماء التي صاحبت إنجازه، ضرورة لا يمكن التغاضي عنها.

الثورة الأمريكية والحرب الأهلية
دماء لم يغضب منها أحد
لا يمكن أن يتكلم أمريكي عن جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وغيرهم ممن يسمون الآباء المؤسسين، إلا بالتعظيم والتبجيل والإكبار، رغم ما تسببوا به من سفك هائل للدماء زاد عن ٢٥,٠٠٠ قتيل، صاحبه سنوات من تعطيل مصالح الناس والرعب تحت ظلال البندقية. هذه الدماء أنتجت أمريكا لكن القصة لم تكتمل إلا بعد الحرب الأهلية التي استهلكت ٦٢٥,٠٠٠ قتيل تقريبا (٨). وضوح الدستور وكثرة العقلاء لم تمنع خلافا حول قضية العبودية، يتسبب في سفك كل هذه الدماء. والأمريكان ليسوا آسفين على هذه الدماء، ويفتخرون بسفكها، بل إنهم ينسبون لها الفضل فيما هم فيه الآن من نظام حكم ديموقراطي، ودولة قوية تكاد تحكم العالم كله.

اتيلا الهوني 
قمة العنفوان المَجَري 
لا يمكن أن تقرأ في تاريخ المجر أو تمر بلادهم أو تتعرف على شخص مجري، إلا وتجبر مرغماً على استماع إسم القائد المجري العظيم اتيلا الهوني. لم يكن اتيلا الهوني مفكرا ولا مصلحا بل كان أميا عديم الثقافة، لكنه كان قائدا موهوبا تمكن من تأسيس امبراطورية في وقت قصير، هددت روما وحاصرت القسطنطينية، ودفعت كلتا الامبراطوريتين الجزية له. 
يوصف أتيلا بأنه كان جباراً متغطرساً، يتحكم في شعبه باستخدام خرافاته لتقديس ذاته العليا، وكان يمهد لانتصاراته بما يذيعه من القصص عن قسوته وبطشه بأعدائه، حتى لقد سماه أعداؤه المسيحيون "بسوط الله" كناية عن غضب الله على المسيحيين بسبب كثرة معاصيهم. وكان القتل الجماعي وحرق قرى ومدن كاملة، ممارسة عادية في حروبه، بل كانت سببا في انتصاره بسبب رعب خصومه من هذه النتائج، واستعدادهم للتسليم ودفع الجزية خوفا من القتل الجماعي. ورغم أن المجر مشهورة بالفن والموسيقى والأدب والفلسفة، فلا يمكن أن يتفوق افتخار أي مجري بفنان أو فيلسوف أو موسيقار أو أديب على افتخاره باتيلا الهوني.

إيفان الرهيب 
أعظم آباء روسيا قاس لحد الجنون 
كان إيفان الرابع أميرا لموسكو، ثم تمكن بشخصيته القيادية من إنشاء الامبراطورية الروسية، ووصف نفسه بالقيصر تأسيا بالرومان. وبهذا التأسيس يعتبر إيفان الرهيب هو المؤسس الحقيقي لروسيا، ولا يرى الروس أعظم منه في تاريخهم. فمنذ الخطوة الأولى في تحركه السياسي، كان دمويا حين انتقم من طبقة البويار (النبلاء) الذي كانوا أوصياء على العرش، وسحقهم بلا رحمة فتفرد بالحكم بشكل مطلق. ومنذ ذلك الحين، أصبح حاكما فردا مستبدا، يستمتع بالقتل والتعذيب والقسوة.
 من وسائله في التعذيب اغتصاب النساء أمام أزواجهن، وكان يتعمد اختيار النساء الأرستقراطيات لمتعة جنوده، حتى يهين أكبر العوائل ولا يبقى له منافس. ومن الطرق التي يستخدمها مع خصومه، تهشيم الأرجل ثم إلقاء الضحية في الثلج وتركه حتى الموت. ومن وسائل التعذيب الشوي بنار هادئة، أو ربط الضحية بحصانين ثم ركض الحصانين باتجاهين مختلفين. كل هذه القسوة والعنف يتجاوز عنها الروس وينظرون لإيفان بصفته أعظم الأبطال، لأنه هو الذي صنع روسيا وجعلها تمتد من بحر قزوين إلى البحر الأسود إلى بحر البلطيق إلى مساحات شاسعة من سيبيريا. 

فلاد المخوزق 
بطل بلغاريا القومي 
مر على بلغاريا شخصيات كثيرة هامة في التاريخ، لكن البلغار لا يحتفون بأحد بقدر ما يحتفون بفلاد الثالث "دراكولا" وذلك لما قدم لبلغاريا من فضل في جمع الأقليات البلغارية المبعثرة في دولة واحدة بجدارة. وبلغ من شدة بطش فلاد الثالث وقسوته أن نسج حولها الروائي الإنجليزي برام ستوكر شخصية كونت "دراكولا"، مصاص الدماء الأشهر، في روايته الصادرة عام ١٨٧٩ تحت عنوان "دراكولا" والتي مثلت بعد ذلك في أفلام كثيرة. 
اشتهر فلاد بـ"المخوزق" لأن الخازوق الذي يوضع في الدبر كان من أشهر وسائله في التعذيب والقتل، ويزيد عدد ضحاياه عن ٨٠,٠٠٠، هذا بخلاف القرى والحصون التي أحرقها عن آخرها. وكان يفتك بأعداء الدولة وبالمواطنين المتمردين على حد سواء بكافة أنواع التعذيب. ومما ينقل عنه أنه ينصب جثث القتلى على نفس الخوازيق التي قتلوا فيها. ومن الوسائل الموغلة في الوحشية، أن كان يشوي أطفال خصومه ويأتي بأمهاتهم فيأمرهن بأكل لحوم أطفالهن، ويأتي بالنساء ويقطع أثدائهن فيشويها، ثم يأمر أزواجهن بتناولها، وفي النهاية، يعدمهم جميعًا خزقًا. ومع ذلك لا يزال حتى الآن بطلا أسطوريا عظيما في عين البلغار، والشخصية الأولى في التاريخ البلغاري.

جنكيز خان
إله في عين المغول 
من أعظم الشخصيات سفكا للدماء في التاريخ جنكيز خان، فقد قتل ملايين البشر، وأحرق عشرات القرى والمدن في مسيرته التي وصل فيها جيشه من منغوليا إلى تخوم اوربا. لكن العجيب في تاريخ جنكيزخان أنه قضى من الوقت في توحيد قومه، أكثر من الوقت في اجتياح الصين وخراسان وفارس وآسيا الوسطى. واضطر جنكيزخان أن يقتل الكثير من قومه من أجل توحيدهم حتى أباد قبائل كاملة، قبل أن يلتف على جدار الصين العظيم ويجتاحها. ورغم كل هذا العنف والدم فإن جنكيزخان عند المغول ليس معظما فحسب، بل هو في مقام الإله.

التحولات الكبرى في التاريخ العربي والإسلامي تشهد بذلك
لم يتمكن محمد علي من تحويل مصر إلى دولة حديثة، إلا بسلسلة من الدماء افتتحها بمذبحة المماليك. وقبله لم يتمكن بيبرس من بناء دولة قوية يهزم بها المغول والصليبيين في وقت واحد، إلا بقسوة في الملك، وتساهل في الدماء، افتتحه بقتل رفيق جهاده قطز. وقبلهم لم يتمكن العباسيون من إزاحة الدولة الأموية إلا بثورة دموية، قتل فيها عشرات الألوف حتى سمي الخليفة الأول بالسفاح. ثم تبع ذلك قمع سلسلة من الثورات بلا رحمة على يد المنصور، إلى أن استقرت الدولة وبقيت قرونا طويلة مهيبة الجانب. 
ومهما حاولت الأمم تحاشي الدماء فمن حتميات التاريخ أن أي تغيير كبير لا بد فيه من دماء، ومن حتمياته كذلك أن عهد الدماء الذي ينتج ذلك التغيير، تقدسه الأجيال التالية حتى لو اشتمل على القسوة. (٩)
-------------------
(١) منعا لسوء الفهم، فإن هذا المقال ليس تبريرا للعنف، بل وصف للحتمية التاريخية من خلال سرد النماذج المعروفة في التاريخ.
(٢) الربيع الأوربي هو سلسلة من الثورات السلمية والمسلحة ضد الممالك الأوربية، بعدما تأثر سكان أوربا بالثورة الفرنسية وتتابعت آثارها على مدى سنوات وعقود. 
(٣) يعزو البعض التغيير الكبير في الحريات للماجنا كارتا (الوثيقة العظمى) التي تفاهم عليها رجال الدين والنبلاء والملك، لكن الحقيقة أن هذه الوثيقة لم تحد من سلطات الملك شيئا يذكر، والفضل الأعظم في الديموقراطية البريطانية يعود لكرومويل. 
(٤) كانت السلطة في أيام كرومويل تسيّر دوريات تفتيش في الشوارع والأسواق، بل وحتى داخل البيوت، ويصل التفتيش إلى حد البحث عن اللحم في أيام الصيام الأربعيني في البيوت، واعتقال ومعاقبة من يوجد عنده اللحم.
(٥) لا تزال آثار تدمير كرومويل للتماثيل والصور والرسومات على زجاج الكنائس، ماثلة في كثير من الكنائس الكبرى في بريطانيا، وعلى رأسها كاتدرائية كانتربري البروتستانتية، التي توازي الفاتيكان عند الكاثوليك.
(٦) كانت روما قبل يوليوس قيصر تحكم لعدة قرون بطريقة شبيهة بأثينا، وذلك بمجلس نبلاء يمثل مشاركة سياسية نخبوية لا تصل لمستوى المواطن العادي، لكن لا تسمح لشخص واحد بالاستبداد بالسلطة.
(٧) تعمد بسمارك تجاهل البرلمان الذي رفض إجازة ميزانية الجيش، ومضى قُدما بالقوة في صرف الميزانية، ليس رغبة في توفير المال للجيش، بل حرصا على كسر هيبة البرلمان بسبب رغبة الشعب في تقوية الجيش.
(٨) لم تكن الثورة الأمريكية معركة واحدة، بل كانت مسيرة لعدة سنوات ومعارك كثيرة في الحرب مع التاج البريطاني، وهكذا الحرب الأهلية امتدت لعدة سنوات كذلك.
(٩) لا شك أن الرسالة المحمدية ترسخت بسلسلة من الحروب، حتى إن بعض المؤرخين قدّر المدة التي قضاها النبي صلى عليه وسلم سائرا في غزواته أطول من المدة التي بقي فيها في المدينة. وحين تولى أبوبكر رضي الله عنه الخلافة لم يتردد في أن يرسل عدة جيوش لمحاربة المرتدين، إلى أن استتب الأمر في كل الجزيرة العربية.

مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير على الرابط.