الأحد، 3 أغسطس 2014

خلق القرآن بين الإمام أحمد بن حنبل والدكتور عبدالوهاب المسيري


هل كان موقف الإمام أحمد من مسألة خلق القرآن موقفاً مبادئياً، أم كان مجرد ترف فكري وتحجر في قبول الرأي الآخر؟ هل مسألة خلق القرآن قضية مهمة تستحق كل تلك المحنة التي تعرض لها الإمام أحمد؟ هل يمكن أن يشارك د. عبدالوهاب المسيري رحمه الله المنشغل طوال حياته بالصهيونية والعلمانية بنقاش قضية خلق القرآن؟ بل هل يمكن أن ينضم الفيلسوف العقلاني لصف الإمام أحمد في نقاش كهذا؟(١) مجموعة أسئلة أطرحها لتكون مدخلاً للمقالة، ويبقى السؤال الأهم من "مخلوق وغير مخلوق" هو: لو لم تتم إثارة هذه القضية من قبل المعتزلة، هل تهمنا كثيراً هذه القضية؟ بمعنى هل المسألة برمتها ضرورية لسلامة العقيدة أم أنها مضيعة وقت.

قضية خلق القرآن يسجلها التاريخ كمثلبة للمعتزلة، الذين رفعوا مستوى أهميتها لدرجة امتحان الناس عليها بقوة السلطة. وموقف أهل السنة وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله كان إصراراً على أنه غير مخلوق رداً عليهم، وليس إنشاءً للفكرة ابتداءً، ولن تجد في صفحات التاريخ أن أهل السنة أثاروا القضية باتجاه الإثبات، حتى حركها المعتزلة من لدن الجعد بن درهم إلى أحمد بن أبي دواد وثمامة بن أشرس وغيرهم. 

بعد ١٢٠٠ سنة من الفتنة المشهورة يأخذنا الدكتور المسيري رحمه الله في رحلة فكرية تجيب على الأسئلة الواردة أعلاه، وتختص السؤال الأخير بانسيابية وتناسق عجيب، والأعجب من ذلك أن المسيري يخرج باستنتاج قاطع لصالح الإمام أحمد. بل إن الدكتور تجاوز الإمام بتأكيد هذه القضية وأنها ضرورة لانسجام العقيدة وتوافقها مع الفطرة أساساً.

يطرح الدكتور عبدالوهاب المسيري رحمه الله نظريةً أثبت فيها أن غالب الأديان والاعتقادات (حتى اللادينية) مبنية على نوع من أنواع التجسيد والحلول للمعبود (الإله) بطريقة يستطيع العابد أن يتعامل معها. وأن من طبيعة البشر أن يميلوا لشيء مقدس هو جزء من المعبود، يتعاطون معه بواحدة أو أكثر من حواسهم الخمس. ولا يكاد يسلم أي اعتقاد أو دين من تجسيد أو حلول في شيء يتعامل معه العابد بحواسه المباشرة.

ومن الأمثلة البسيطة لهذا التجسيد أو الحلول ما يوجد في الديانات الوثنية ( ومنها البوذية ) التي يتجسد فيها المعبود في حجر أو تمثال، ثم بقية أنواع التجسيد عند الديانات الوثنية كعبادة الشمس والكواكب والشجر، ثم الحيوانات كما في الهندوسية التي أصبحت الآلهة أكثر من العبّاد. ويتضح التجسيد في اليهودية والنصرانية أيضاً.

فاليهودية ترى حلول الله في كل الشعب اليهودي، فالشعب اليهودي كتلة إلهية بشرية يمكن التعامل معها بالحواس الخمس. وهذا الذي جعلهم يزعمون أن اليهودية جنس بذاته وقدر محتوم لا يمكن أن يختار الإنسان بموجبه أن يكون يهودياً أو لا يكون.

والنصرانية جسدت الله ( المعبود ) في شخص المسيح عليه السلام، فأصبح المسيح بذلك حالة إلهية يتعامل معها المؤمنون بشكل مباشر. ولأجل استمرار هذا التجسيد جعلوا من حادثة الصلب مفصلاً في انتقال التجسيد للأتباع، الذين قسموهم إلى قسمين رجال دين حلت فيهم القداسة، وعلمانيون وهم من ليسوا مقدسين. ويلاحظ أن الانتقال إلى منزلة رجال الدين ليس بالأمر العادي أو السهل، بل يجب أن تعقد لجنة تضم كرادلة لدراسة الموضوع، كما يجب أن يتقمص رجال الدين بعضاً من مظاهر القدسية كتحريم الزواج. ويمكن ملاحظة كيف عارضت الكنيسة الكاثوليكية كل الدعوات الألفية التي تتحدث عن عودة المسيح حتى لا يستعيد المسيح منهم حلول الألوهية.

الحركة الإصلاحية التي قام بها لوثر وكالفن في النصرانية، نقلت الحلول لجميع المؤمنين، وعارضت احتكار الحلول في طبقة رجال الدين، ومن هنا يلاحظ تناغم البروتستانتية مع اليهودية، فالشعبين كلهم آلهة حسب زعمهم، ودارسو الديانات والمذاهب يعرفون حجم الاتكاء الكبير على التوراة (العهد القديم) عند البروتستانتية.

وأطياف الأفكار اللادينية التي تبدأ من الإلحاد الفردي وتنتهي بالفكر العلماني، تمارس نفس التجسيد والحلول، فالإنسان يُألّه في الإلحاد الفردي، ويحل المعبود في ذاته، ويصبح التعامل مع ذاته بالحواس المعروفة أمراً سهلاً وميسراً. أما الفكر العلماني فإن المعبود هو كامل الكتلة البشرية التي تمثل جماعة بمصالح مشتركة في اللذة والمنفعة التي تعتبر أساس الفكر العلماني.

حتى الفرق المحسوبة على الإسلام، والتي تصنف إما بدعية أو كافرة من قبل أهل السنة، وقعت في إشكالية الحلول بدرجات متفاوتة. فالباطنية وبعض الصوفية يرون الحلول الصريح لله في شخصيات معينة ويرون تقديسهم بما يشبه العبادة الصريحة، فرق أخرى لم تصرح بالحلول لكنها غلت في بعض الشخصيات لدرجة قريبة من الحلول وهو الإيمان بارتباط خاص ومستمر لهم مع الله.

هذه الحيل، رغم أنها باطل عند أهل السنة، فقد كانت وسيلة لتحقيق مهمة التجسيد، ومن ثم التمكن من التعامل مع المعبود بالحواس الخمس لكل العقائد والأديان التي تبنتها. أهل السنة يرفضون كل ذلك بشكل مطلق ويؤمنون بأن الله بائن عن خلقه(٢)، والتي تعني استحالة التجسيد والحلول. حسنا، كيف إذا يمكن أن تُشبع حاجة الإنسان الطبيعية للتعامل مباشرة مع المعبود بالحواس الخمس دون أن تُخدش البينونة الكاملة؟ 

قد يفترض البعض أن ذلك في الكعبة والمشاعر(٣)، وهذا غير صحيح، فالكعبة والمشاعر رغم توقيرها وتعظيمها فهي في نهاية المطاف شعائر وليست صنما ولا يجوز مطلقا عبادتها أو التعامل معها وكأن الإله قد حل فيها. وقد اختصر لنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفي الصنمية عن المشاعر بقوله مخاطبا الحجر الأسود  ((إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)). لا بد إذاً من طريقة أخرى غير تجسيدية يمكن من خلالها تحقيق هذا الأمر.

هنا يأتي دور القرآن المنزل من عند الله، فالقرآن كلام الله، والكلام صفة من صفات المعبود سبحانه، وفي نفس الوقت نستطيع أن نقرأه ونكتبه ونحفظه ونفسره ونستمع إليه من غيرنا ومع هذا يبقى كلام الله غير مخلوق. وبهذا يحقق القرآن المطلب البشري في تعاملنا معه بحواسنا، ومع ذلك يبقى -رغم قراءتنا واستماعنا وكتابتنا وتفسيرنا له- كلام الله وصفة من صفاته. فلم يكن كونه كلام الله مانعا من التعامل معه بحواسنا، ولم يكن التعامل بالحواس منقصا من كونه كلام الله وصفة من صفاته. 

ومن هنا تأتي أهمية التأكيد على أن القرآن غير مخلوق، لأن كونه مخلوقا يزيل هذا التناسق العقدي الجميل الذي أشبع النزعة البشرية دون أي حلول إلهي في المخلوقات، بمعنى أن البينونة لم تخدش مطلقا. ومن يقرأ كلام المسيري يدرك أنه لا يكتفي بتقرير أن القرآن غير مخلوق، بل يذهب إلى أبعد من ذلك وهو إثبات أهمية تقرير هذا الأمر تحديدا، وأن إثارته مطلوبة وليست ترفا فكريا ولا نقاشا عبثيا. 

ــــــــــــــــــــــــــــ
١) هذا المقال مبني على كلام منشور للدكتور المسيري اضافة لنقاش شفوي معه حول الموضوع.

٢)  وممن توسع في هذه المسألة شيخ الإسلام في الحموية الكبرى، وقد ساق أقوال العلماء في هذه المسألة.

٣)  إن بني إسماعيل وكانوا قد أبعدوا عن أمر البيت فكانوا إذا خرجوا منها أخذوا معهم حجراً من حجارتها، فإذا أظعنوا في مكان وضعوه وطافوا به على أنه جزء من الكعبة، فانتشرت بعد ذلك عبادة الأصنام والأوثان، وتقبلت العرب رأي عمرو بن لحي الخزاعي، وتبدل دين إبراهيم ولم يبق من أثره إلا تعظيم البيت والطواف به الحج والعمرة والوقوف على عرفات ومزدلفة وهدي البدن، والإهلال بالحج والعمرة. ذكر ذلك محمود شاكر في التاريخ الإسلامي قبل البعثة ص ٨٨، الجزء الأول.




هناك تعليق واحد:

  1. أراد ان يكحلها فأعماها ....

    يظل السؤال قائما هذا الكلام المنزل من الله وهو القران هل القران المنزل مخلوق أم غير مخلوق ...قبل أن تجيب الوجودات نوعين وجود غني ووجود فقير بمعنى أبسط خالق ومخلوق ولاثالث ، الخالق الله وباقي ماهو موجود مخلوق ، تقول صفة لله جميل جدا صفة الله هذه المنزله هل هي الله أم جزء من الله أم غير الله ؟ ان قلت هي الله نسبت الحلول الى الله بتنزله مع نزول القران ، ان قلت جزء من الله اصبح الله مجزءا وأصبحت مجسما مشركا
    وان قلت غير الله سالناك غير الله بنحو التوازي ام التنزل ؟ اي بنحو انه خالق او مخلوق إن قلت الاول اصبحت مشركا لوجود شي موازي لله وان قلت الثاني ثبت المطلوب ان القران المنزل مخلوق .

    ردحذف