الثلاثاء، 17 فبراير 2015

هل كان الشنقيطي على بصيرة؟ .. رؤية في مخاطبة التيارات الجهادية



المقال الذي نشره الاستاذ محمد مختار الشنقيطي بعنوان (الجهاد على بصيرة)* ليس استثناء من طرحه كنموذج من التنويريين الذين كانوا مقصودين بمقالنا (رحلة نفسية مع التنويريين)(١). لكن هذا المقال ذهب إلى مدى بعيد في الاسترخاء، بجعل الأفكار العابرة والاستنتاجات الشخصية حاكمة على ثوابت قطعية ونصوص محكمة لا مجال فيها لفهمين.

وإن كان الهدف من مثل هذا المقال، ثني الشباب عن الالتحقاق بالحركات الجهادية وخاصة "الدولة الإسلامية"، فسيؤتي مفعولا معاكسا ولن يكون إلا ردحا داخليا "منولوج". والشباب الذين يستهويهم الطرح الجهادي لا يمكن التعامل معهم إلا بفهم الأسباب التي دفعتهم لهذا الطرح، وهي بعيدة تماما عما جاء في هذا المقال. (٢)

أما إن كان الهدف ترشيد الجماعات الجهادية فهو كذلك جهد فاشل، لاستخفاف هذه الجماعات بأي طرح لا يكترث بالمنهجية السنية، ويتحدث عن الجهاد وكأنه استخدام للقوة تحت مفهوم الدولة القطرية. والجماعات الجهادية لا ترفض هذا الطرح فحسب، بل تعتبر من يطرحه عميلا يريد أن يميت الفكر الجهادي خدمة لأعداء الإسلام. (٣)

افتراضات الكاتب محيطة برسالة الإسلام
لغة المقال تدل على أن طرح الكاتب لم يكن وجهة نظر قاصرة، أو رأيا على سبيل الفتوى التي تخطيء وتصيب، بل كان جزما بتحديد مراد الإسلام من الجهاد، وإحاطة بمنهجية الإسلام في استخدام القوة. فالكاتب يجزم بأن الإسلام  "حصر مسوغات القتال في ثلاث أمور"، ويجزم بأن "مناط الجهاد في الإسلام رفع الظلم حصرا". ويؤكد يقينه بهذا الأمر بقوله "إن نصوص القرآن المحكمة صريحة في حصر القتال في نطاق صد العدوان".

ولا غرو بأن الإنسان يستطيع الجزم بالأمرِ المجمعِ عليه، والبدهي المنطقي المعروف، والقطعي الذي لا جدال فيه لأحد. لكن أن يطرح وجهة نظر يمكن نقضها بسهولة، ثم يسردها على شكل مبدأ قاطع، فهذا ليس غرورا فكريا فحسب، بل جنون عظمة معرفي (Grandiosity) استغرق فيه الإنسان عيشه مع ذاته.

تجاهل النصوص القطعية
ليس الأستاذ الشنقيطي بالذي يجهل النصوص القطعية ثبوتا ودلالة بما يناقض طرحه، ولذا فإن غيابها عن مقاله ليس جهلا بها ولا عجزا عن فهم للقطعي من معناها. وتفسير غيابها الوحيد، هو تجاهلها قصداً، لأن إيرادها سيضطر الكاتب للتبرير والتفسير بطريقة تجعل مقاله في غاية الركاكة والتكلف والإعتذار المفضوح. (٤)

وليست إشكاليته في قطعية هذه النصوص فقط، بل إن الأمر يحمل في داخله مشكلة أخرى، وهي أن تفسير هذه النصوص وشرحها المخالف لما جاء في المقال، مجمع عليه عند الصحابة والتابعين وعلماء التفسير وشراح الحديث وفقهاء السلف والخلف، ولو أوردها الشنقيطي لأضطر لمخالفة هذا الإجماع المتتابع على مر العصور في التفسير، والكاتب أذكى من أن يجعل مقاله مناقضاً صراحةً لكل هؤلاء. (٥)

الرؤية الحداثية: الفتوحات توسع امبراطوري
بالطرح الذي طرحه الكاتب تكون كل الحروب التي خاضها النبي صلى الله عليه وسلم ثم حروب الردة والفتوح في عهد الخلفاء الراشدين ناتجة عما وصفه بـ "الفقه الامبراطوري" الذي يفرض التوسع ويخضع الآخرين للسلطة الإسلامية بالقوة. ولا يمكن له الإدعاء أنه كان يقصد الفتوحات في عهد الأمويين والعباسيين، لأن السياق الذي تحدث عنه ينطبق تماما على غزوات السيرة وحروب الردة وفتوحات الخلفاء الراشدين. (٦)

وبهذا الاعتبار يكون الكاتب قد نسف بجرة قلم كل ما ثبت في السيرة النبوية وسيرة الخلفاء عن أسباب القتال التي لا يشك أبسط قارئ للتاريخ أنها دينية. ومن حيث يشعر أولا يشعر وقع الكاتب في مساواة الفتوحات الإسلامية مع التوسع الامبراطوري للممالك غير الإسلامية.

هذا المسلك منبعه تقديس فكرة الدولة القطرية بحدود واضحة واعتراف دولي، وأي تجاوز لها هو توسع امبراطوري. والفكر السياسي الغربي الحديث (فكر ما بعد وستفاليا) يعتبر تحول البشر من الممالك المتوسعة إلى الدولة القطرية مبيّنة الحدود، نضجا بشريا لا يجوز فيه العودة للوراء. ويكاد يكون معظم التنويريين ممن يحمل هذا المبدأ، ويرفض مفهوم الدولة الإسلامية المتوسعة، ويعتبر مفهوم القطر (Nation State) أكثر قدسية من الإِسلام نفسه.(٧)

منهجية المقاصد
المقاصد والمصالح التي ترشد إليها الشريعة -كما يقول الكاتب- تتغلب على النصوص الفردية، وبذلك ينبغي تقديم هذه المقاصد والمصالح على تلك النصوص مهما كانت قطعية. وهذا المسلك في التعلق بالمقاصد والمصالح معروف لدى التنويريين، وحيلة جيدة في تجاهل النصوص قطعية الثبوت والدلالة.

المشكلة التي وقع فيها الكاتب أنه هو الذي حدد المقاصد ثم جعلها حاكمة على النصوص، بينما مفهوم المقاصد في الإسلام مبني على استقصاء كلي للنصوص والقواعد الشرعية الكبرى. والحقيقة هي أنه لا يمكن لأي مقصد من مقاصد الشرع أن يتعارض مع نص قطعي، وكيف يتعارض وهو مبني عليه في الأصل؟

وأي مقصد يتعارض مع النصوص بشكل صريح، فهو مصلحة مختلقة وليس مقصدا شرعيا. والشاطبي نفسه صاحب نظرية المقاصد من أشد الناس تشبثا بمبدأ انسجام النصوص مع المقاصد وأكثرهم رفضا لتقديم المقاصد المزعومة على النصوص القطعية.(٨)

دين بلا نية ولا التزام بالسنة
يفهم من كلام الشنقيطي أن ممارسة الدين والأعمال المشروعة لا تفتقر إلى الإخلاص لله في النية ولا الانضباط باتباع النبي عليه الصلاة والسلام. فالقتال الإسلامي "موقف أخلاقي وليس اعتقادي" حسب قوله، وهدف القتال كما يقول محصور تماما في رفع الظلم وليس من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا.

ويكفي أن تكون النية إزالة المستعمر أو المستبد ليكون من أعظم الجهاد، ولا داعي للسعي لتحكيم شرع الله حتى يكون جهادا. وينص الكاتب بوضوح أن ليس من اللازم أن تكون الراية دينية ليكون القتال جهادا، بل يمكن القتال أيضا تحت راية الوطن والكرامة والحرية والاستقلال، ثم يؤكد بكل استرخاء أن هذا جهاد مشروع نتقرب به لله.

ترى ماذا يبقى من الدين إن كان الهدف ليس دينيا والوسيلة غير منضبطة ومؤطرة بالدين؟ للكاتب الحق أن يثني كما يشاء على كل ساع لإزالة الظلم، أو لانتزاع الحرية والكرامة، لكن أن ينسبه للإسلام فهذا إضافة من عنده وليست في كتاب الله ولا سنة رسوله عليه الصلاة والسلام. (٩)


التلاعب بالاستدلال وتحوير التفسير
بعد تجاهل النصوص القطعية المشهورة عن الجهاد استخدم الكاتب بعض النصوص إما بتحوير معناها، أو بدلالة متكلفة معتسفة قد سحبت سحبا حتى تتفق مع المعنى الذي يريده. والتنويريون معروفون بالتكلف في لي أعناق النصوص وحشر الاستدلال حشرا بطريقة معتسفة.

يعلم الكاتب جيدا أن تفسير قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة" (١٠) ليس له علاقة بما أورده، بل إن معناها عند المفسرين ينقض مايريد. كما يعلم الكاتب أن آية التدافع (ولولا دفع الله ...الآية) ليست في سياق الجهاد، بل هي عامة لكل التدافع البشري وتفسيرها بعيد عما أورده.

كما يعلم أن آية القتال من أجل المستضعفين، لا تجعله مقدما على القتال في سبيل الله الذي جاء في نفس الآية مقدما عليه. ويعلم كذلك أن الحديث الذي شرع مقاتلة من يعتدي على النفس والمال والأرض، لا يعني تعطيل القتال من أجل رفع راية الدين.

الشورى والواقعية
يطالب الكاتب الجماعات الجهادية بأن تخلّص الأمة من المستبدين والظلمة والاستعمار، ثم تترك المسؤولية لاختيار عامة المسلمين. والجماعات الجهادية لا تعترف أصلا بأهلية غير المنتمين للجهاد بالشورى، فكيف باستئذان مليار مسلم؟
وعلى كل حال فهذا الطلب لايقتصر رفضه على الجماعات الجهادية، بل ترفضه كل الجماعات الثورية التي تؤمن بما يسمى العدالة الثورية في فترة ما بعد المستبد. ولرفضهم هذا وجاهة، لأن المجتمعات في فترة ما بعد الاستبداد مباشرة لا تزال تشتمل على أغلبية تطبعت على العبودية ولا تحسن تقدير الأمور إلا بعد مرور فترة من الوعي الثوري تضعها على جادة الكرامة والمسؤولية.

وكل الثورات الكبرى في التاريخ لم تطرح المشاركة السياسية الواسعة فورا بل جعلت حق صياغة الدستور ووضع المفاهيم الجديدة  في يد العصبة الثائرة، وفي أحيانٍ أخرى بيد القائد الفرد. ولو كان مفهوم الشورى بهذا المعنى، لكانت حروب الردة غير مشروعة لأن الأغلبية في جزيرة العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم رفضوا دفع الزكاة، وأجبرهم عليها أبوبكر رضي الله عنه بالسيف.(١١)

نعم أصاب الكاتب في أمور
أصاب الكاتب بقوله : "برهنت الأعوام الأربعة التي تصرمت منذ اندلاع الربيع العربي المجيد أن الثورات ضد المستبدين الفاسدين قد تكون سلمية، لكن الثورات ضد القتلة السفاحين لا يمكن أن تكون إلا عسكرية. لقد رفض المستبدون وظهيرهم الدولي أنسام الربيع، فعليهم أن يواجهوا عواصف الخريف وزمهرير الشتاء، بعد أن انبعثت روح الجهاد في الأمة اليوم بشكل لا نظير له في تاريخها القريب."

وأصاب بقوله: "أن هذه الطاقة الجبارة يساء استخدامها أحيانا بسوء التسديد، وضعف النظر الشرعي، وفقر الحكمة السياسية. فالعزيمة الصلبة والاستعداد للشهادة في سبيل الله لا يغنيان عن العمق الشرعي، والانضباط الأخلاقي، وحسن التقدير والتدبير.  وإذا لم تكن لدى المجاهدين رؤية سياسية وإستراتيجية ناضجة، تحوّلت تضحياتهم انتحارا على أعتاب العدمية".

واصاب بقوله: "لانطالب المجاهدين بالمستحيل، أو أن نحاكمهم بمعايير الملائكة، فهم بشر يصيبون ويخطئون، واحتمال الخطأ في الرأي غير مانع من الاجتهاد، واحتمال الخطأ في الممارسة غير مانع من الجهاد. وليس المجاهد فوق النقد، بل يجب تصحيح خطئه إذا أخطأ، والتبرؤ من فعله إذا أساء".

وأصاب بقوله: "على أن أخطاء المجاهدين وخطاياهم -مهما عظمت- ليست بمسوغ شرعي لتعطيل الجهاد.....ومهما يكن من أمر، فإن المجاهدين المسلمين اليوم لا ينقصهم الإقدام والتضحية، وإنما ينقصهم التبين الشرعي والسياسي..... فالمجاهد الباحث عن الموت في مظانه عصيّ على الهزيمة أمام أعتى جيوش العالم، إنما تهزمه أخطاؤه وخطاياه، ويحميه من الهزيمة أن يكون جهاده على بصيرة شرعية وحكمة سياسية".

الخطاب البديل
لايمكن ترشيد أو تصحيح مسار التيارات الجهادية بخطاب لا يأبهون له ولا يعترفون به، بل ويعتبرونه جزءا من طرح خصومهم، أو ممن يجب جهاده بنظرهم. ولا يمكن التأثير في الجهاديين إلا بخطاب ينطلق من نفس الثوابت التي يؤمنون بها، وخاصة في قضايا المرجعية والحاكمية والهوية والولاء والبراء.

والتيارات الجهادية لديهم مشاكل كبيرة في الطرح النظري والتطبيق العملي، وفي التخطيط والاستراتيجية، وفي التربية والتدريب، وفي برامجهم الاجتماعية والعسكرية. كما أن لديهم مشاكل أكبر في علاقتهم مع التيارات الجهادية الأخرى، والتيارات الإسلامية غير الجهادية، ومواقفهم من العلماء والشخصيات البارزة في العالم الإسلامي.

ومخطيء من يظن أن مشاكل الجهاديين هي فقط في الذبح والحرق وغيرها، ممايردده الإعلام المتحيز المدعوم من الغرب ومن يواليه. ولا يمكن أن نخاطب الجهاديين بنجاح ونحن نعيش باللاشعور تحت تأثير أجواء معادية للجهاد ومتربصة به ومحاربة له. (١٢)

--------------------
*المقال نشر في باب المعرفة في الجزيرة نت http://goo.gl/hqar1O

١) راجع مقالنا (رحلة نفسية مع التنويريين ) إضغط هنا.

٢) راجع مقالنا (ماالذي يستهوي الشباب في "الدولة الإسلامية") إضغط هنا.

٣) استمع إلى أي كلمة لقيادات الجهاد أو بيان للحركات الجهادية تجد هذه اللغة واضحة.

٤) هذه قائمة بآيات وأحاديث الجهاد التي تجاهلها الكاتب لأنها ورطة بمعانيها المحكمة التي تناقض طرحه

٥) أفرد الكثير من العلماء موضوع الجهاد إما بكتب أو بفصول كاملة من كتبهم ونقلوا الإجماع على أمور كثيرة مما أنكرها الكاتب، ويمكن العودة إلى زاد المعاد لابن القيم كنموذج.

٦) هذا الكلام فيه جرأة على المقام النبوي والخلفاء الراشدين لكننا نتكلف الاعتذار للكاتب بكون السياق ملتوٍ قليلا.

٧) يجد التنويريون صعوبة في إدراك أن الجهاديين لا يعترفون بمفهوم الدولة القطرية لأنها ترسخت في أذهانهم لدرجة غير قابلة للشك.

٨) لم يؤلف الشاطبي رحمه الله كتابه حيلة لتعطيل النصوص، إنما لتأكيد تكامل النصوص، وحاجتها لبعضها البعض، كما جاء في كتابه الآخر (الاعتصام). قال الشاطبي: “فإن مأخذ الأدلة عند الأئمة الراسخين، إنما هو على أن تؤخذ الشريعة كالصورة الواحدة، بحسب ما تثبت به كلياتها وأجزاءها المترتبة عليها، وعامها المرتب على خاصها، ومطلقها المحمول على مقيدها، ومجملها المفسر بمبينها، إلى ما سوى ذلك من مناحيها …. وما مثلها إلا مثل الإنسان الصحيح السوي، فكما أن الإنسان لا يكون إنسانا باليد وحدها، ولا بالرجل وحدها، ولا بالرأس وحده، ولا باللسان وحده، بل بجملته التي سمي بها إنسانا، وكذلك الشريعة، لا يطلب منها الحكم على حقيقة الاستنباط إلا بجملتها، من أي دليل كان، وإن ظهر لبادئ الرأي نطق ذلك الدليل، فإنما هو توهمي لا حقيقي، فشأن الراسخين في العلم، تصور الشريعة صورة واحدة، يخدم بعضها بعضا، كأعضاء الإنسان إذا صورت صورة متحدة” (الاعتصام : 1/312). فأين هذا الكلام من تعطيل النصوص بحجة المقاصد؟

٩) كثير يخلطون بين الثناء على عمل ما، وبين اعتباره عملا متقبلا من الله كنوع من العبادة المشروعة. والنبي صلى الله عليه وسلم أثنى على بعض كفار العرب كحاتم طيء ومطعم بن عدي، لكن لم يعتبر ثنائه عليهم تزكية دينية، بل وأثنى على رفع المظالم والأخلاق الحسنة لكن لم يعتبرها مدخلة للجنة ولا منجية من النار دون توحيد ونية واتباع.

١٠) غالب المفسرين على إن المقصود في قوله تعالى "ادخلوا في السلم كافة" هو الإسلام بمعنى أن تدخلوا مستسلمين تماما للإسلام بكافة تعاليمه دون اعتراض عليها. وحتى الذين فسروا المعنى بالصلح ذكروا أن المقصود هو التزام المسلمين بالصلح إذا اتفقت قيادتهم مع العدو على صلح مؤقت. وليس لهذا علاقة بأن العلاقة السلمية هي الأساس بين المسلمين والكفار.

١١) الثورة الفرنسية وثورة كرومويل والثورة الأمريكية والثورة الروسية والثورة الإيرانية، كلها نماذج لتفرد الطليعة الثورية بتحديد مستقبل الدولة دون استشارة عموم الجماهير.

١٢) لا يمكن أن نؤثر على الجهادين ونحن نخاطبهم بخطاب منطلق من تأثر بشاشات الإعلام الغربي والعربي الموالي للغرب، بل لا بد من إقناعهم بأننا ناصحون لهم محبون لتمكين دين الله حريصون على تحكيم شرع الله.










الخميس، 12 فبراير 2015

المفارقة اليمنية .. فوضى اليمن سبيل قوته


يصعب الحديث عن الشأن اليمني لإختلاف الوضع الاجتماعي والثقافي والسياسي عن كثير من الدول بشكل جذري، وحتى لو نجح المتحدث عن الشأن اليمني في ايضاح الصورة، فإن القارئ سيجد صعوبةً في فهمها لأن الطريقة التي تجري فيها الأمور في اليمن مختلفة جداً عن باقي الدول.



المؤسسات الوسيطة أقوى من الدولة
والسبب ليس التخلف التقني والتنموي والخدماتي كما يبدو للبعض، بل لأن اليمن لا يزال محكوما بالمؤسسات الوسيطة أكثر من أن يُحكم بالدولة المركزية كما هو الحال في كل دول العالم. والمؤسسات الوسيطة المقصودة هي القبائل والعلماء والأعيان والتيارات الاجتماعية و الفكرية والمذهبية، التي تفرض نفسها على الدولة أكثر مما تفرض الدولة نفسها عليها.

وإذا وضع هذا الاعتبار في الحسبان، يمكن فهم معظم أحداث اليمن منذ حكم الإمام يحيى وحتى الآن. وكذلك التطورات الأخيرة التي دخل فيها عامل الحوثيين وأنصار الشريعة لا يمكن فهمها إلا باستحضار طبيعة اليمن ودور المؤسسات الوسيطة.

ضعفها الآن قوة للمستقبل كيف؟
هذا الاختلاف عن الدولة الحديثة، جعل دور اليمن إقليميا وعالميا محدودا جدا في الماضي، لكن هو ذاته سيجعل دورها كبيرا في المستقبل. السبب هو أن ضعف الدولة المركزية بقدر ما يتسبب في الضعف والفوضى في ظروف ما، فهو أيضا يفتح المجال للقوى العقائدية والموجهة أن تستثمر الوضع وتكتسح بقوة تتفوق على سلطة الدولة المركزية.

ويخبرنا التاريخ أن مثل هذه القوى، تجعل شعبا فقيرا معدوم المقدرات، قوة هائلة تصنع التاريخ وتفتح الفتوحات. ومن هنا تحولت قبائل متفرقة فوضوية ليس عندها أي مقومات للدولة في جزيرة العرب بعد البعثة النبوية إلى أمة فاتحة عظيمة، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ جداً يصعب حصرها، بل تكاد تكون سنة اجتماعية تتكرر كلما تهيأت الفرصة لانطلاقة منظمة بإطار عقدي.

وما يجري في اليمن متمثلا في القصف الأمريكي بمؤامرة دولية، وما صاحبه من غزو ايراني على يد الحوثيين يدفع للاستشراف بتطور في هذا الاتجاه. وبقدر ما تظن القوى الإقليمية والعالمية أنها بإبقاء اليمن ضعيفا مفككا تحتوي المشكلة، فهي  في الحقيقة تجعل البيئة أكثر مناسبة لتحول القوى القبلية المفككة إلى قوة ضاربة إقليميا وعالميا.

استشراف سابق: المعركة بين الحوثيين وأنصار الشريعة فقط
كنت قد استشرفت في سلسلة تغريدات قبل عدة أشهر بعد دخول الحوثيين صنعاء في المرة الأولى، أن تنحسر كل القوى وتصفو المواجهة بين قوتين فقط الحوثيين وأنصار الشريعة. وتدل الأخبار القادمة من اليمن على أن ذلك هو ما يحصل، وأن كثيرا من القوى إما انضمت لأنصار الشريعة أو للحوثيين أو تحالفت مع أحدهما.

الحوثيون ورطوا أنفسهم بهذا الانتشار السريع، ولن يستطيعوا استيعاب ما استولوا عليه، لأنهم حَملوا فوق قدرتهم وتحملهم، وسيرتد عليهم توسعهم ارتدادا خطيرا ربما يؤدي لزوالهم. ويرجع ذلك لكونهم قوة دخيلة على اليمن اجتماعيا وعقديا وثقافيا، والدور الإيراني فيها مكشوف ولذلك لن تستطيع ابتلاع اللقمة التي وضعتها في فمها.

وبما أن القوة الوحيدة التي تواجه الحوثيين هي أنصار الشريعة، فمن الطبيعي أن تكون هي الكاسبة من انحسارهم أو زوالهم، وبذلك تتحقق المفارقة التي أشرنا إليها في تلك التغريدات أن سيطرة الحوثيين هي المفتاح لسيطرة أنصار الشريعة.

أنصار الشريعة وتكرار تجربة الدولة الإسلامية
توسع أنصار الشريعة في اليمن لن يكون مختلفا كثيرا عن  توسع "الدولة الإسلامية"، ذلك لأن مشروع أنصار الشريعة لا يحترم الحدود القطرية ولا يعترف بالقوانين الدولية. ويتفوق أنصار الشريعة على "الدولة الإسلامية" بتحاشي كثير من الممارسات التي استفاد منها خصوم الدولة في الحشد ضدها.

هذا الحذر والتروي عند أنصار الشريعة، يعطيهم مجالا أكبر للتوسع بدون المضاعفات التي صاحبت "الدولة" بسبب ترحيب الحاضنة الاجتماعية ودعمها، وبسبب انسجامهم مع معظم مكونات المجتمع اليمني. من جهة أخرى فإن هذا الحذر والتروي يقفل الطريق أمام خصومهم في افتعال الأعذار لتجييش الآخرين ضدهم دولاً وجماعات.
التغريدات السابقة
لإكمال فكرة المقال اسوق هنا التغريدات السابقة لان فيها استعراض للخريطة الاجتماعية والسياسية وتوضيح للوضع الذي آل إليه اليمن بعد دخول الحوثيين صنعاء:

  • المكونات الاجتماعية والحركية والسياسية التي تحدد مستقبل اليمن (سوى الحكومة) ثلاث أنواع، الجماعات المسلحة، الأحزاب، القبائل.
  • الحكومة في اليمن مؤسسة ضعيفة، وسلطتها محدودة، وأجهزتها فاسدة، ولولا الدعم الإقليمي والدولي لم تتمكن الحكومة من البقاء سواء في عهد علي صالح أو بعده.
  • ولا توجد قناعة لدى الشعب بالحكومة، لأنها لم تحقق مهمات السلطة، مثل الأمن، أو القضاء، أو الخدمات، بل معظم مؤسساتها خادمة لمصالح إقليمية ودولية.
  • وبعد إقالة علي صالح انتهى دور الحكومة، ولم يبق إلا الجيش الذي حرصت أمريكا على بقائه حتى يحارب القاعدة، لكن لأنه مخترق، انكشف أمام الحوثيين.
  • القبائل موزعة على كل اليمن، ورجالها مسلحون، لكنها مثل القبائل في أي مكان، تفتقر للتنظيم والتدريب والبرامج، وولائها المضمون لنفسها، وأما لغيرها فمتقلب.
  • ورغم أنها تفتقر للتنظيم والتدريب، إلا أنها أقوى مكوّن اجتماعي، ولا يمكن تطويع أي منطقة لأي جهة بما في ذلك الحكومة إلا بتفاهم مع شيوخ القبائل.
  • بعض شيوخ القبائل منضبط بالمبادئ والقيم، ويتحمل مسؤولية قبيلته، وبعضهم يسهل شرائه بالمال أو بالمناصب، أو بتسهيلات لعائلته وجماعته.
  • الجهات الإقليمية صاحبة التأثير في اليمن، تتسابق على شراء ولاء زعماء القبائل، وإذا لم تنجح مع شيخ الشمل، تنجح مع المرتبة الأدنى من الزعامات.
  • لسنا هنا بصدد قائمة بمن يشترى، لكن الاجتياح الحوثي لم يكن ليحدث لولا شراء ولاءات من هذا القبيل من قبل إيران، وكذلك من جهات خليجية.
  • الجماعات المسلحة القوية جماعتان فقط، هما أنصار الشريعة التي تعتبر فرع القاعدة في اليمن، والحوثيون الذين تمكنوا من اجتياح صنعاء قبل أيام.
  • أنصار الشريعة توسعت على أساس عقدي، مستفيدين من صعود نجم القاعدة، واستثمار مظالم الناس، والفطرة الدينية القوية للمواطن اليمني في الجملة.
  • لكن هذه الجماعة في حالة حصار، فهي مستهدفة من الحكومة اليمنية، ومن الأمريكان بطيارات الدرونز، ومن دول إقليمية، ومن الحوثيين ومن غيرهم.
  • ومع ذلك، فلا يزال لهم قوة وحضور في أكثر من منطقة، وعلاقة قوية ببعض القبائل، وقد استفادوا من فوضى الجيش بعد الثورة، وحققوا توسعا ملحوظا.
  • ويلاحظ على قاعدة اليمن، أنهم أكثر مراعاة للحاضنة الاجتماعية في أدبياتهم و تصرفاتهم، وأكثر تحاشيا للعمليات التي تعطي ذخيرة لمن يصفهم بالتطرف.
  • الحوثيون تأسسوا في منطقة صعدة، وبقي نفوذهم وشأنهم محدودا جدا في تلك المنطقة، وذلك بسبب عدم تقبل الشعب اليمني لعقائدهم، حتى مع الدعم الإيراني.
  • لكن بعد تداعيات الثورة في ٢٠١١، وإبعاد علي عبد الله صالح مع بقاء نفوذه على قيادات عسكرية، ومع وجود مصالح إقليمية، احتاجت للحوثيين تغيرت المعادلة.
  • وكانت أفضل طريقة للسماح لهم بالتمدد، هو تكليف قيادات الجيش الموالية لعلي صالح بالتراجع أمامهم، وهذا كان سبب وصولهم لمنطقة عمران ثم دخول صنعاء.
  • الأحزاب كثيرة لكن أهمها ثلاثة: حزب المؤتمر، وحزب الإصلاح، والحزب الاشتراكي، وهذه الأحزاب لديها سلاح، لكن ليست بمستوى الجماعات المسلحة.
  • حزب المؤتمر ليس إلا مظلة لقيادة علي صالح، وليس فيه من المبادئ والبرامج إلا الترقيع، ولم يكن ليبقى الأقوى سياسيا لولا الدعم الاقليمي ماديا وإعلاميا.
  • حزب التجمع اليمني للإصلاح “حركة الإخوان” حزب ديني يتبنى الطرح الإسلامي، وهو أكثر الأحزاب تنظيما، ويتمتع بولاء قوي من كوادره، وفيه جناحان :
  • الجناح الأول : مبالغ في السلمية ومراعاة الظروف الإقليمية، ومتحمس للتعاون مع أي حكومة قائمة، ويرضى بالأمر الواقع، والتفاهم مع القوى الإقليمية.
  • الجناح الثاني : له ميول عسكرية، ويرى أن ضعف الحكومة المركزية في اليمن سبب للاستعداد الدائم للقتال، والدفاع عن المكاسب، وله كوادر مدربة ومسلحة.
  • الجناح الأول كان له دور في تسلم صنعاء للحوثيين، وبعض رموزه متهمة بأنها اشتُريت إقليميا لتهميش الحزب، كما كان لهم دور في تمييع الثورة.
  • الجناح الثاني كان غير راض عن المبادرة الخليجية، ويعتقد أن كوادره تتجمع الآن في مدن أخرى من اليمن لمواجهة الحوثيين، وربما يتحالف مع القاعدة.
  • الحزب الاشتراكي كان له شأنه لأنه وريث دولة، لكن بعد أن انتهى استبداد الشيوعيين في الجنوب، تلاشى ثقله بسبب فطرة الناس الرافضة للشيوعية.
  • حل محل الحزب ما يسمى بالحراك الجنوبي، وهو كيان له حضور في عدن وحضرموت، لكنه يعاني من عدة مشاكل منعته من أن يكون له التأثير المتوقع.
  • أول المشاكل أنه لا يزال غير قادر على تبرئة نفسه من التطرف الاشتراكي، بسبب ثقل الشخصيات اليسارية فيه، وثانيها عدم قدرته على كسب القبائل في المنطقة.
  • الحراك الجنوبي بدأ سلميا، لكن ثقافة السلاح وتطورات الثورة، دفعته لتأسيس جناح عسكري، لكن لا يزال نشاطه القتالي أصغر بكثير من القاعدة والحوثيين.
  • نحن إذا أمام المشهد التالي: حكومة غير موجودة، جيش فاشل، الحوثيون، والقاعدة، هذه أقوى الجهات، القبائل غير مضمونة الولاء ومسلحي الإصلاح والحراك يتربصون.
  • بفهم هذه الخريطة، فإن المواجهة المحتملة لن تكون إلا بين القاعدة والحوثيين، لأن أيا من القوى الأخرى غير قادرة على المواجهة لوحدها بما في ذلك الجيش.
  • وربما تصبح هاتان الجهتان قطبين يتكتل حولها القوى المختلفة من الأجنحة المسلحة في الأحزاب والقبائل وقطاعات الجيش المتفلتة.
  • على الأرجح سيصطف مسلحوا الإصلاح مع القاعدة وكثير من القبائل، وتتفرق فلول الجيش بين الجهتين، أما الحراك الجنوبي فربما يبقى مستقلا.
  • يبقى عامل القوى الإقليمية والعالمية التي قطعا ستعمل لصالح الحوثيين حتى لو كانوا تابعين لإيران لأن القاعدة أخطر بكثير.

الثلاثاء، 3 فبراير 2015

هل تغير الشعب المصري بعد الانقلاب؟


كان لدى المتابع للشأن المصري سلسلة انطباعات عن مصر وجيشها، والشعب المصري وعلاقته بحكومته واستعداده للعنف. جاء الانقلاب ليشكك في هذه الانطباعات، ويفتح النقاش عن الشعب المصري وعلاقته بالقضايا الكبرى مثل الدين والسياسة والسلاح والأخلاق.

ولا يمكن تاريخيا لانقلاب أن يغير الشعب بنفسه، وكل ما فعله انقلاب مصر أن كشف أمورا كانت كامنة، فبدا كما لو أن طبيعة الشعب المصري قد تغيرت. والحقيقة أن مثل هذه الهزات التاريخية التي تكشف المصائب الكامنة، تنبه المخلصين الصادقين لخطورة المرحلة، فتدفعهم لبذل أقصى ما لديهم للعودة بالأمة للتوازن البشري والكرامة الإنسانية

المجرمون أكثر تنظيما من الطيبين
كشف انقلاب السيسي أن قيادات الثورة الحريصة على الشعب، فرطت بزمام المؤسسات الصلبة كالجيش والأمن والمال والإعلام والقضاء، وسلمتها للثورة المضادة بلا عناء. هذا التفريط حصل في مصر بشكل شامل، وحصل جزئيا في ليبيا واليمن، وكان يمكن تفاديه لو كانت قيادات الثورة واعية بالإصرار على إزالة آثار المستبد، والإمساك بزمام المؤسسات الصلبة.

والنموذج المصري كان نموذجا صارخا لأن المؤسسات كانت كلها بيد الفلول، وبقيت سليمة تحت سلطتهم بهيكلها ومنهجها وبرنامجها في القيادة والسيطرة. وبقائها سليمة بكيانها الكامل سهّل استخدامها بدرجة عالية من الكفاءة، ليس في تنفيذ الانقلاب فقط، بل في حملة القمع المدعومة بغطاء إعلامي وقضائي شامل بعد الانقلاب.(١)

ولا يعزى بقاء المؤسسات إلى قوة ذاتية فيها، لكن طبيعتها المنظمة تجعلها أقوى أمام الفوضوية في المسيرة الثورية. يضاف إلى ذلك سوء تدبير قيادات الثورة، حين رضوا  بالمجلس العسكري وحين لم يتخذوا حياله أي إجراء بعد حكم مرسي. (٢)

المجتمع المصري يتسامح مع الإلحاد
الانطباع عن المجتمع المصري قبل انقلاب السيسي أنه مجتمع مشحون بالعاطفة الدينية، ولا يجرؤ أحد أن يمس مقدساته إلا بحذر أو بشكل استثنائي. نعم لم تكن السلطات تعاقب من يعتدي على المقدسات الدينية، لكن المجتمع نفسه يجعله منبوذا مهجورا مخذولا بل ربما تعرض للاعتداء والاغتيال.

بعد الانقلاب وهيمنة القوى المعادية للإسلام، شن الإعلام حملة لإسقاط هيبة الدين، مدعومة بحملة أمنية لمحاصرة الدعوة في المساجد والمؤسسات التربوية والدعوية، وقمع من يدافع عن الدين. هذه الحملة جرّأت من كان صامتا من الملحدين ودفعت من لديه استعداد لمهاجمة ثوابت الإسلام أن يتكلم عنها بصوت مرتفع.

في المقابل انكفأ المحسوبون على الدين على أنفسهم واختفوا من الإعلام، إلا ما كان من الدين المضحك على غرار فتاوى علي جمعة، وانكمش دور المسجد واختفى دور المؤسسات الدعوية والتربوية. والخلاصة أن صورة الشعب المصري تحولت من ذلك الشعب المشحون بالعاطفة الدينية، إلى شعب لا يمثل له الإسلام إلا عاطفة عابرة.(٣)

المجتمع المصري تافه
لا ينكر انتشار الأمية والجهل في مصر قبل السيسي، لكن كان الذين يتصدون للشأن العام على درجة لا بأس بها من العلم والمعرفة، وكان المثقف والعالم والمفكر في الجملة هو الشخص المقدم. كما لا ينكر انتشار التفاهة، لكن تصدر العقلاء لمواجهة الجمهور أوجد حالة من التوازن تدفع التهمة عن وصم الشعب المصري بالتفاهة.

انقلاب السيسي جعل الممسكين بزمام الإعلام والتعليم والقرارات المركزية في البلد من أكثر الناس تفاهة وتخلفا أخلاقيا وحضاريا. في المقابل قمع الانقلاب كل من يتحمل مسؤولية كلمته ويحترم عقول الجماهير، فمن لم يكن سجينا فهو ممنوع من الكلام ومحروم من أي دور في البلد.

ولأن منهج الانقلاب البائس لا يمكن أن يستقيم على المنطق السليم ولا العقل المتزن، كان لا بد من برمجة الإعلام والتعليم والقرارات الحكومية والتعليقات الرسمية بما يشبه التخلف العقلي وازدراء العقل البشري. وهكذا آل الحال في مصر إلى أن يصبح المبدأ المعمول به  "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".  ولن يكون غريبا بعد ذلك أن نرى الإعلام والتعليم والقضاء والنظام السياسي يطبع الشعب على أقصى مظاهر التفاهة والتخلف.(٤)

هذه  التفاهة هي التي أخرجت لنا مزاعم الإعلام، بأن الإخوان يموّلون البيت الأبيض، وأن الكائنات الفضائية ستنظف الأرض من الإخوان. وذات التفاهة هي التي جعلت مكتب رئيس الجمهورية ووزير الدفاع، يتبنيان الاختراع الفضيحة لعلاج الكبد الوبائي والإيدز (الكفتادول).

الجيش المصري خائن
الانطباع عن الجيش المصري قبل انقلاب السيسي، أنه مهما تعرض للتسييس، فسيبقى مؤسسة وطنية بعقيدة عسكرية لحماية الوطن، وسوف يقتصر التسييس على قياداته العليا. وعلى كل حال كانت الأجهزة الأمنية المبرمجة لخدمة الحكام ضخمة بما يغني عن الحاجة للجيش في قمع الشعب.

بدأت صورة الجيش تتحول من جيش يدافع عن الوطن، إلى متمم للجهاز الأمني منذ الساعات الأولى من الانقلاب، ثم اكتلمت القناعة بذلك بعد مذبحة رابعة والنهضة. واستمر دور الجيش بعد ذلك بكل قطاعاته وخاصة الشرطة العسكرية والاستخبارات العسكرية متفرغا لقمع الشعب بدلا من الدفاع عن الوطن.

لكن مساعدة الجهاز الأمني للقمع، أهون بكثير من قلب مهمته، وتحويله لحماية أخطر عدو لمصر والعرب والمسلمين "الكيان الصهيوني". ولقد أثبتت أحداث سيناء أن الجيش يضحي بعناصره وسمعته ووطنيته من أجل حماية إسرائيل، ومن أجل التنسيق الكامل مع جيشها ومخابراتها ضد المواطنين المصريين والمقاومة الفلسطينية. (٥)

عناصر الجهاز الأمني متفقون على السادية
أثبتت مذبحة رابعة والنهضة ومذابح أخرى استعداد ضباط الانقلاب لإطلاق النار، وقتل من يفكر بالمواجهة السلمية مهما تحاشى استخدام العنف.  كما أثبتت أن هذا التصرف لم يتسبب في انقسام الجيش ولا الجهاز الأمني، بل إن الغالبية العظمى من عناصر الجيش والأمن ينفذون القمع والتنكيل والقتل بحماس وكأن المتظاهرين أعداء لهم. (٦)

هذا التماسك في الجهاز الأمني، رغم العنف الأقصى الذي يستخدم في قمع المحتجين، يفترض أن يكون رادعا قويا لمن يفكر بأي احتجاج. والردع ليس بسبب خوف المحتجين من القتل، لأن كثيرا منهم مستعد لما يعتبره شهادة، لكن بسبب قناعتهم أنهم سيـُقتلون دون إحداث أي خلل في الجهازالأمني، وبهذا فلماذا يضحون بأنفسهم؟ وما الثمن الذي يجنيه الشعب أو الوطن بقتلهم؟

الذي حصل هو عكس هذا التوقع، فالاحتجاجات استمرت وبدلا من أن تنحسر تضاعفت في أماكن كثيرة وشملت قطاعات كثيرة من الشعب. والأخطر من ذلك أن بعضها تحول إلى احتجاج مسلح كردع للجهاز الأمني عن استخدام القوة. ويبدو أن هذا الردع قد آتى ثماره، ولذلك قلت حماسة الشرطة للقتل الأعمى مثلما كان في بداية الانقلاب.

والانحسار في القمع والقتل بسبب الخوف من ردة الفعل المسلحة، دليل على وضاعة الأجهزة الأمنية وإثبات لنزعتها السادية الجبانة. ومن المعروف نفسيا وأخلاقيا أن الوضيع والرخيص هو الذي يبالغ في القسوة ضد من ليس لديه وسيلة دفاع، ويقلل من عنفه أو يوقفه ضد من لديه وسيلة دفاع. (٧)

الجهاز الأمني استخف بالأعراض
القمع والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان ليست جديدة في الدولة الحديثة في مصر، فهي دارجة منذ العهد الملكي ثم العهد الناصري والسادات ومبارك. لكن كل العهود السابقة كانت تتعامل بحذر شديد مع النساء، وتتحاشى انتهاك الأعراض، وحين تحصل تجاوزات في هذا الاتجاه، فهي استثناءات وليست الأساس.

بعد الانقلاب كُسر هذا الحاجز، وألغت الجهات الأمنية المحاذير، وصارت تتعامل مع النساء بقسوة بالغة، بل أُعطي الضوء الأخضر للضباط بانتهاك الأعراض بطريقة مؤسسية. ويعتقد خبراء الأمن عند السيسي، أن انتهاك عرض أي امرأة هو تأديب قاصم لها ولذويها وتخويف لمن تسول له نفسه مواجهة الانقلاب، بأن مصير أهله سيكون مثل مصيرها.

لم يدرك من نفذ هذه السياسة أنها تأتي بنتيجة عكسية، وتجعل كل من يصله خبر انتهاك الأعراض مستعداً لاستخدام القوة ضد الانقلاب. لكن الحماقة بلغت بضباط السيسي أن نفذوا نفس السياسة ليس في مدن مصر فحسب بل حتى في سيناء، وكان هذا من أقوى الأسباب لتجييش القبائل عسكريا ضد الانقلاب. (٨)

الشعب المصري مستعد لاستخدام القوة
يردد الكثير ممن يعرفون مصر أنها يصعب أن تكون نسخة من سوريا أو العراق أو اليمن، بتحول الثورة إلى مواجهة مسلحة. وفيما عدا منطقة الصعيد، فإن الشعب المصري في الجملة يتفادى مواجهة الدولة بالقوة ويتحاشى استخدام السلاح وماكان عكس ذلك فهو استثناء.

سيناء لها حكاية خاصة، كونها مختلفة اجتماعيا وتاريخيا عن بقية مصر بتكوينها الصحراوي والقبلي المتشدد، ولبعدها عن حوض النيل، ولا تحسب هذه الخصوصية كسرا للقاعدة في مصر. وقد ادركت الحكومات المتعاقبة خصوصية سيناء، فتعاملت معها بما يشبه الحكم الذاتي من خلال التفاهم مع قيادات القبائل منذ أيام فاروق وحتى آخر أيام مبارك.

والعنف الذي استخدم ضد الدولة في السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات، لم يكن مواجهة شاملة ولا عملا مؤسسا، بل كان عمليات متفرقة تم احتوائها وانقطعت بالكامل. لكن العنف الأخير في المواجهة مع الشرطة والجيش والذي شمل أهدافا نوعية، بشرية ومادية، يختلف بالكامل عن العنف السابق المبتور. (٩)

هذا العنف يتصاعد الآن ويأخذ زمام المبادرة، ويقلب الموازين لصالحه أمنيا ونفسيا، لأن الأهداف التي يتم اختيارها أهداف نوعية تربك الدولة بامتياز. وإذا صحت الأخبار بانضمام عدد كبير من ضباط الجيش بينهم قيادات عليا للثورة المسلحة (١٠)، فنحن أمام تغيير شامل في استخدام القوة ضد الانقلاب.

حتمية الاستجابة والأمر خير
نحن إذا أمام كشف فعال لمشاكل كامنة في المجتمع المصري، بعثها الانقلاب بالجملة ووضعها في أقبح صورها. وبقدر ما في هذا الأمر من إحراج لمصر، فإن فيه خيرا كثيرا لأنه يشتمل على استفزاز لكل المخلصين والصادقين من الشعب المصري لأن يفزعوا لإصلاح أحوال بلادهم وشعبهم.

ولو تتبعت نفسية  "الطيبين" في مصر -وهم كثير- لرأيت حالة الشعور بالأزمة والاستنفار لتدارك أحوال البلد البائسة. ووجود مثل هذه الحالة واعد بنقلة حضارية لمصر، حتى لو استمر الانقلاب في القمع وسالت دماء واستمر التنكيل بمن يرفض الظلم والطغيان. (١١)


--------------------------------------------------------

١)اثبت الجهاز الأمني والقضائي والإعلامي كفائته الفائقة بعد الانقلاب وعاد أقوى مما كان  عليه أيام مبارك.

٢) راجع مقالنا: الدولة العميقة كم هي عميقة إضغط هنا.

٣) ليس المقصود هنا إقرار أن الشعب المصري يتسامح مع الإلحاد لكن الصورة التي فرضها الوضع المصطنع بعد الانقلاب.

٤) التفاهة ليست مقتصرة على الإعلام، فكثير من أحكام القضاء كانت صبيانية لا تليق بطالب في كلية الحقوق فضلا عن قاض في محكمة عريقة، ولا أتفه من أن يضطر مواطن مصري التجرد من جنسيته المصرية لصالح الجنسية الاسترالية حتى يحظى بمعاملة كريمة لأنه أصبح استراليا.

٥) توّج هذه الصورة السيسي في تصريح أحمق قال فيه مخاطبا الشعب "أنتم اتخذتم القرار ونحن ندفع الثمن" يعني ان الشعب اتخذ قرارا بمحاربة الإرهاب والجيش يدفع الثمن.

٦) تماسك الأجهزة الأمنية في مراحل القمع أمام شعب ثائر، دليل على وحدة مصير هذه الأجهزة، والتربية الخاصة التي تقنع بها عناصرها على البقاء والتفاني في القمع، من أجل حماية الجسم الأمني لأن الجسم الأمني هو السلطة.

٧) الأعداد الهائلة في مظاهرات  ٢٥ يناير ٢٠١٥ كان مفاجئة للكثير من المراقبين لأن معظمهم توقعها اقل بكثير مما حصل.

٨) انتهاك الأعراض تحديدا هو أقوى وسائل تجنيد القبائل في سيناء ضد السلطة بل ربما كان سببا في انشقاق بعض الضباط.

٩) البيان الذي صدر حديثا عمن سموا أنفسهم العقاب الثوري وضع قائمة من الأهداف التي ستشل النظام بالكامل لو تم تطبقيها فعلا.

١٠) خبر نشرته عربي 21 نقلا عن أحمد منصور بعنوان :
انشقاق ثلاثة من ضباط الجيش وانضمامهم لـ'ولاية سيناء' إضغط هنا.

١١)المقصود بالطيبين هنا هو كل المتحركين لإنقاذ مصر من الانقلاب وليس الاخوان المسلمين فقط .