الثلاثاء، 3 فبراير 2015

هل تغير الشعب المصري بعد الانقلاب؟


كان لدى المتابع للشأن المصري سلسلة انطباعات عن مصر وجيشها، والشعب المصري وعلاقته بحكومته واستعداده للعنف. جاء الانقلاب ليشكك في هذه الانطباعات، ويفتح النقاش عن الشعب المصري وعلاقته بالقضايا الكبرى مثل الدين والسياسة والسلاح والأخلاق.

ولا يمكن تاريخيا لانقلاب أن يغير الشعب بنفسه، وكل ما فعله انقلاب مصر أن كشف أمورا كانت كامنة، فبدا كما لو أن طبيعة الشعب المصري قد تغيرت. والحقيقة أن مثل هذه الهزات التاريخية التي تكشف المصائب الكامنة، تنبه المخلصين الصادقين لخطورة المرحلة، فتدفعهم لبذل أقصى ما لديهم للعودة بالأمة للتوازن البشري والكرامة الإنسانية

المجرمون أكثر تنظيما من الطيبين
كشف انقلاب السيسي أن قيادات الثورة الحريصة على الشعب، فرطت بزمام المؤسسات الصلبة كالجيش والأمن والمال والإعلام والقضاء، وسلمتها للثورة المضادة بلا عناء. هذا التفريط حصل في مصر بشكل شامل، وحصل جزئيا في ليبيا واليمن، وكان يمكن تفاديه لو كانت قيادات الثورة واعية بالإصرار على إزالة آثار المستبد، والإمساك بزمام المؤسسات الصلبة.

والنموذج المصري كان نموذجا صارخا لأن المؤسسات كانت كلها بيد الفلول، وبقيت سليمة تحت سلطتهم بهيكلها ومنهجها وبرنامجها في القيادة والسيطرة. وبقائها سليمة بكيانها الكامل سهّل استخدامها بدرجة عالية من الكفاءة، ليس في تنفيذ الانقلاب فقط، بل في حملة القمع المدعومة بغطاء إعلامي وقضائي شامل بعد الانقلاب.(١)

ولا يعزى بقاء المؤسسات إلى قوة ذاتية فيها، لكن طبيعتها المنظمة تجعلها أقوى أمام الفوضوية في المسيرة الثورية. يضاف إلى ذلك سوء تدبير قيادات الثورة، حين رضوا  بالمجلس العسكري وحين لم يتخذوا حياله أي إجراء بعد حكم مرسي. (٢)

المجتمع المصري يتسامح مع الإلحاد
الانطباع عن المجتمع المصري قبل انقلاب السيسي أنه مجتمع مشحون بالعاطفة الدينية، ولا يجرؤ أحد أن يمس مقدساته إلا بحذر أو بشكل استثنائي. نعم لم تكن السلطات تعاقب من يعتدي على المقدسات الدينية، لكن المجتمع نفسه يجعله منبوذا مهجورا مخذولا بل ربما تعرض للاعتداء والاغتيال.

بعد الانقلاب وهيمنة القوى المعادية للإسلام، شن الإعلام حملة لإسقاط هيبة الدين، مدعومة بحملة أمنية لمحاصرة الدعوة في المساجد والمؤسسات التربوية والدعوية، وقمع من يدافع عن الدين. هذه الحملة جرّأت من كان صامتا من الملحدين ودفعت من لديه استعداد لمهاجمة ثوابت الإسلام أن يتكلم عنها بصوت مرتفع.

في المقابل انكفأ المحسوبون على الدين على أنفسهم واختفوا من الإعلام، إلا ما كان من الدين المضحك على غرار فتاوى علي جمعة، وانكمش دور المسجد واختفى دور المؤسسات الدعوية والتربوية. والخلاصة أن صورة الشعب المصري تحولت من ذلك الشعب المشحون بالعاطفة الدينية، إلى شعب لا يمثل له الإسلام إلا عاطفة عابرة.(٣)

المجتمع المصري تافه
لا ينكر انتشار الأمية والجهل في مصر قبل السيسي، لكن كان الذين يتصدون للشأن العام على درجة لا بأس بها من العلم والمعرفة، وكان المثقف والعالم والمفكر في الجملة هو الشخص المقدم. كما لا ينكر انتشار التفاهة، لكن تصدر العقلاء لمواجهة الجمهور أوجد حالة من التوازن تدفع التهمة عن وصم الشعب المصري بالتفاهة.

انقلاب السيسي جعل الممسكين بزمام الإعلام والتعليم والقرارات المركزية في البلد من أكثر الناس تفاهة وتخلفا أخلاقيا وحضاريا. في المقابل قمع الانقلاب كل من يتحمل مسؤولية كلمته ويحترم عقول الجماهير، فمن لم يكن سجينا فهو ممنوع من الكلام ومحروم من أي دور في البلد.

ولأن منهج الانقلاب البائس لا يمكن أن يستقيم على المنطق السليم ولا العقل المتزن، كان لا بد من برمجة الإعلام والتعليم والقرارات الحكومية والتعليقات الرسمية بما يشبه التخلف العقلي وازدراء العقل البشري. وهكذا آل الحال في مصر إلى أن يصبح المبدأ المعمول به  "إذا لم تستح فاصنع ما شئت".  ولن يكون غريبا بعد ذلك أن نرى الإعلام والتعليم والقضاء والنظام السياسي يطبع الشعب على أقصى مظاهر التفاهة والتخلف.(٤)

هذه  التفاهة هي التي أخرجت لنا مزاعم الإعلام، بأن الإخوان يموّلون البيت الأبيض، وأن الكائنات الفضائية ستنظف الأرض من الإخوان. وذات التفاهة هي التي جعلت مكتب رئيس الجمهورية ووزير الدفاع، يتبنيان الاختراع الفضيحة لعلاج الكبد الوبائي والإيدز (الكفتادول).

الجيش المصري خائن
الانطباع عن الجيش المصري قبل انقلاب السيسي، أنه مهما تعرض للتسييس، فسيبقى مؤسسة وطنية بعقيدة عسكرية لحماية الوطن، وسوف يقتصر التسييس على قياداته العليا. وعلى كل حال كانت الأجهزة الأمنية المبرمجة لخدمة الحكام ضخمة بما يغني عن الحاجة للجيش في قمع الشعب.

بدأت صورة الجيش تتحول من جيش يدافع عن الوطن، إلى متمم للجهاز الأمني منذ الساعات الأولى من الانقلاب، ثم اكتلمت القناعة بذلك بعد مذبحة رابعة والنهضة. واستمر دور الجيش بعد ذلك بكل قطاعاته وخاصة الشرطة العسكرية والاستخبارات العسكرية متفرغا لقمع الشعب بدلا من الدفاع عن الوطن.

لكن مساعدة الجهاز الأمني للقمع، أهون بكثير من قلب مهمته، وتحويله لحماية أخطر عدو لمصر والعرب والمسلمين "الكيان الصهيوني". ولقد أثبتت أحداث سيناء أن الجيش يضحي بعناصره وسمعته ووطنيته من أجل حماية إسرائيل، ومن أجل التنسيق الكامل مع جيشها ومخابراتها ضد المواطنين المصريين والمقاومة الفلسطينية. (٥)

عناصر الجهاز الأمني متفقون على السادية
أثبتت مذبحة رابعة والنهضة ومذابح أخرى استعداد ضباط الانقلاب لإطلاق النار، وقتل من يفكر بالمواجهة السلمية مهما تحاشى استخدام العنف.  كما أثبتت أن هذا التصرف لم يتسبب في انقسام الجيش ولا الجهاز الأمني، بل إن الغالبية العظمى من عناصر الجيش والأمن ينفذون القمع والتنكيل والقتل بحماس وكأن المتظاهرين أعداء لهم. (٦)

هذا التماسك في الجهاز الأمني، رغم العنف الأقصى الذي يستخدم في قمع المحتجين، يفترض أن يكون رادعا قويا لمن يفكر بأي احتجاج. والردع ليس بسبب خوف المحتجين من القتل، لأن كثيرا منهم مستعد لما يعتبره شهادة، لكن بسبب قناعتهم أنهم سيـُقتلون دون إحداث أي خلل في الجهازالأمني، وبهذا فلماذا يضحون بأنفسهم؟ وما الثمن الذي يجنيه الشعب أو الوطن بقتلهم؟

الذي حصل هو عكس هذا التوقع، فالاحتجاجات استمرت وبدلا من أن تنحسر تضاعفت في أماكن كثيرة وشملت قطاعات كثيرة من الشعب. والأخطر من ذلك أن بعضها تحول إلى احتجاج مسلح كردع للجهاز الأمني عن استخدام القوة. ويبدو أن هذا الردع قد آتى ثماره، ولذلك قلت حماسة الشرطة للقتل الأعمى مثلما كان في بداية الانقلاب.

والانحسار في القمع والقتل بسبب الخوف من ردة الفعل المسلحة، دليل على وضاعة الأجهزة الأمنية وإثبات لنزعتها السادية الجبانة. ومن المعروف نفسيا وأخلاقيا أن الوضيع والرخيص هو الذي يبالغ في القسوة ضد من ليس لديه وسيلة دفاع، ويقلل من عنفه أو يوقفه ضد من لديه وسيلة دفاع. (٧)

الجهاز الأمني استخف بالأعراض
القمع والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان ليست جديدة في الدولة الحديثة في مصر، فهي دارجة منذ العهد الملكي ثم العهد الناصري والسادات ومبارك. لكن كل العهود السابقة كانت تتعامل بحذر شديد مع النساء، وتتحاشى انتهاك الأعراض، وحين تحصل تجاوزات في هذا الاتجاه، فهي استثناءات وليست الأساس.

بعد الانقلاب كُسر هذا الحاجز، وألغت الجهات الأمنية المحاذير، وصارت تتعامل مع النساء بقسوة بالغة، بل أُعطي الضوء الأخضر للضباط بانتهاك الأعراض بطريقة مؤسسية. ويعتقد خبراء الأمن عند السيسي، أن انتهاك عرض أي امرأة هو تأديب قاصم لها ولذويها وتخويف لمن تسول له نفسه مواجهة الانقلاب، بأن مصير أهله سيكون مثل مصيرها.

لم يدرك من نفذ هذه السياسة أنها تأتي بنتيجة عكسية، وتجعل كل من يصله خبر انتهاك الأعراض مستعداً لاستخدام القوة ضد الانقلاب. لكن الحماقة بلغت بضباط السيسي أن نفذوا نفس السياسة ليس في مدن مصر فحسب بل حتى في سيناء، وكان هذا من أقوى الأسباب لتجييش القبائل عسكريا ضد الانقلاب. (٨)

الشعب المصري مستعد لاستخدام القوة
يردد الكثير ممن يعرفون مصر أنها يصعب أن تكون نسخة من سوريا أو العراق أو اليمن، بتحول الثورة إلى مواجهة مسلحة. وفيما عدا منطقة الصعيد، فإن الشعب المصري في الجملة يتفادى مواجهة الدولة بالقوة ويتحاشى استخدام السلاح وماكان عكس ذلك فهو استثناء.

سيناء لها حكاية خاصة، كونها مختلفة اجتماعيا وتاريخيا عن بقية مصر بتكوينها الصحراوي والقبلي المتشدد، ولبعدها عن حوض النيل، ولا تحسب هذه الخصوصية كسرا للقاعدة في مصر. وقد ادركت الحكومات المتعاقبة خصوصية سيناء، فتعاملت معها بما يشبه الحكم الذاتي من خلال التفاهم مع قيادات القبائل منذ أيام فاروق وحتى آخر أيام مبارك.

والعنف الذي استخدم ضد الدولة في السبعينات والثمانينات وبداية التسعينات، لم يكن مواجهة شاملة ولا عملا مؤسسا، بل كان عمليات متفرقة تم احتوائها وانقطعت بالكامل. لكن العنف الأخير في المواجهة مع الشرطة والجيش والذي شمل أهدافا نوعية، بشرية ومادية، يختلف بالكامل عن العنف السابق المبتور. (٩)

هذا العنف يتصاعد الآن ويأخذ زمام المبادرة، ويقلب الموازين لصالحه أمنيا ونفسيا، لأن الأهداف التي يتم اختيارها أهداف نوعية تربك الدولة بامتياز. وإذا صحت الأخبار بانضمام عدد كبير من ضباط الجيش بينهم قيادات عليا للثورة المسلحة (١٠)، فنحن أمام تغيير شامل في استخدام القوة ضد الانقلاب.

حتمية الاستجابة والأمر خير
نحن إذا أمام كشف فعال لمشاكل كامنة في المجتمع المصري، بعثها الانقلاب بالجملة ووضعها في أقبح صورها. وبقدر ما في هذا الأمر من إحراج لمصر، فإن فيه خيرا كثيرا لأنه يشتمل على استفزاز لكل المخلصين والصادقين من الشعب المصري لأن يفزعوا لإصلاح أحوال بلادهم وشعبهم.

ولو تتبعت نفسية  "الطيبين" في مصر -وهم كثير- لرأيت حالة الشعور بالأزمة والاستنفار لتدارك أحوال البلد البائسة. ووجود مثل هذه الحالة واعد بنقلة حضارية لمصر، حتى لو استمر الانقلاب في القمع وسالت دماء واستمر التنكيل بمن يرفض الظلم والطغيان. (١١)


--------------------------------------------------------

١)اثبت الجهاز الأمني والقضائي والإعلامي كفائته الفائقة بعد الانقلاب وعاد أقوى مما كان  عليه أيام مبارك.

٢) راجع مقالنا: الدولة العميقة كم هي عميقة إضغط هنا.

٣) ليس المقصود هنا إقرار أن الشعب المصري يتسامح مع الإلحاد لكن الصورة التي فرضها الوضع المصطنع بعد الانقلاب.

٤) التفاهة ليست مقتصرة على الإعلام، فكثير من أحكام القضاء كانت صبيانية لا تليق بطالب في كلية الحقوق فضلا عن قاض في محكمة عريقة، ولا أتفه من أن يضطر مواطن مصري التجرد من جنسيته المصرية لصالح الجنسية الاسترالية حتى يحظى بمعاملة كريمة لأنه أصبح استراليا.

٥) توّج هذه الصورة السيسي في تصريح أحمق قال فيه مخاطبا الشعب "أنتم اتخذتم القرار ونحن ندفع الثمن" يعني ان الشعب اتخذ قرارا بمحاربة الإرهاب والجيش يدفع الثمن.

٦) تماسك الأجهزة الأمنية في مراحل القمع أمام شعب ثائر، دليل على وحدة مصير هذه الأجهزة، والتربية الخاصة التي تقنع بها عناصرها على البقاء والتفاني في القمع، من أجل حماية الجسم الأمني لأن الجسم الأمني هو السلطة.

٧) الأعداد الهائلة في مظاهرات  ٢٥ يناير ٢٠١٥ كان مفاجئة للكثير من المراقبين لأن معظمهم توقعها اقل بكثير مما حصل.

٨) انتهاك الأعراض تحديدا هو أقوى وسائل تجنيد القبائل في سيناء ضد السلطة بل ربما كان سببا في انشقاق بعض الضباط.

٩) البيان الذي صدر حديثا عمن سموا أنفسهم العقاب الثوري وضع قائمة من الأهداف التي ستشل النظام بالكامل لو تم تطبقيها فعلا.

١٠) خبر نشرته عربي 21 نقلا عن أحمد منصور بعنوان :
انشقاق ثلاثة من ضباط الجيش وانضمامهم لـ'ولاية سيناء' إضغط هنا.

١١)المقصود بالطيبين هنا هو كل المتحركين لإنقاذ مصر من الانقلاب وليس الاخوان المسلمين فقط .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق