الثلاثاء، 30 ديسمبر 2014

الدولة العميقة كم هي عميقة؟ (١)


تحدث كثير من علماء الاجتماع عن المسار الطبيعي للثورات التغييرية الكبرى، وأشاروا إلى حتمية المشاكل الهائلة في الانتقال من واقع سياسي إلى واقع آخر. هذه المشاكل قد تعني عودة كاملة لأدوات وكوادر النظام القديم، أو تعني فوضى طويلة الأمد، أو أي سيناريو يؤخر قطف الثمرة والتخلص من آثار الماضي. (٢)

ويحلو للبعض أن يعزو ذلك إلى ما يسمى بـ"الدولة العميقة"، والتي يقصدون بها الدولة المؤسساتية المشتملة على أحزاب وبرلمانات ونظام قضائي قديم ومستقر مثل مصر.(٣) ثم يغرقون في شرح الفكرة على أساس أن تكوينها المستقر والعميق بهذه المؤسسات المتجذرة، يعطيها مقاومة طبيعية ضد التغيير. 

والحقيقة أن معظم -إن لم يكن كل- الأسباب التي تؤخر قطف الثمرة، مرتبطة بإرث الاستبداد ولا تقتصر على مؤسساته فقط. وسواء سميتها دولة عميقة أو أي إسم آخر، فهي شبكة عوامل متداخلة ناتجة عن طول بقاء المستبد (أو عصابة الاستبداد) وكلها مهمة في تأخير قطف الثمرة. (٤)

وحتى دول الاستبداد التي تبدو مؤسساتية، فإن الفحص الدقيق لمكوناتها يبين أن الفرق غير كبير بينها وبين الدول الأخرى التي تبدوا أقل تأسيسا. فمصر دولة "عريقة" بكيانها البرلماني والقضائي والأحزاب لكنها بالفحص الدقيق لا تختلف كثيرا -بعد سنين الاستبداد- عن ليبيا أو اليمن. 

والكيانات الاستبدادية لا تغير مؤسساتها من طبيعتها إلا في حالة واحدة، إن كان المستبد صاحب مشروع وطني أو قومي مثل هتلر وستالين وصدام. في مثل هذه الحالة لا تكون المؤسسات في خدمة المستبد كفرد، بل في خدمة الدولة ولكن بالطبع حسب رؤية المستبد. (٥)

ومن المفارقة ان مثل هذه الكيانات نادرا ما تندلع فيها ثوارت فضلا عن أن تتعثر، لأن المعطيات تختلف تماما عن الاستبداد الذي يغلب المصالح الشخصية على الوطن. وبما أن كل الدول التي اندلعت فيها الثورات كيانات استبدادية لخدمة فرد المستبد أو عصابة الاستبداد وليس الدولة نفسها، فهي ليست ذلك الاستثناء. 

وبناء على ذلك فمفهوم الدولة العميقة الذي تجري مناقشته هنا هو ما له علاقة بثورة ضد المستبد الفرد (أو عصابة الاستبداد)، الذي جعل إمكانات الدولة لمصلحته الشخصية وحاشيته. هذا النوع من الاستبداد تتشكل فيه الدولة العميقة سياسيا واجتماعيا وحركيا في منظومة معقدة، تجعلها عصية على الاختفاء حتى لو زال المستبد الفرد. ويمكن تتبع ومن ثم تفكيك وتحليل أركان هذه الدولة العميقة بالمفهوم المتعدي للمعنى المؤسساتي بالشكل التالي: 

كيانات الاستبداد العميقة
دولة المستبد لديها -مثل الدول الأخرى- وزارات ومصالح حكومية وشبه حكومية، وكل منها يعمل كترس في ماكنة كبيرة أسمها الدولة. هذه الكيانات التي تبدو كأنها لخدمة الوطن، أعيد تشكليها مع الوقت ليتضخم الجانب الخادم للمستبد وينكمش الجانب الخادم للشعب بقدر ترجّح نصيب المستبد منها. 

مفهوم الجيش يعاد تشكيله لخدمة المستبد بدلا من الدفاع عن الوطن، ومفهوم الأمن يعاد تشكيله ليخدم أمن الحاكم وليس أمن الشعب، وبذلك تكون معظم إمكانات الجيش والأمن البشرية والمادية في خدمة المستبد بدلا من الوطن والشعب. والكلام يندرج على الإعلام والقضاء والاقتصاد وغيرها من الكيانات الرسمية وشبه الرسمية. (٦)

ومع مرور الوقت، يتجاوز إعادة تشكيل هذه المؤسسات الجانب الفني والعددي إلى تغيير كامل في ثقافة هذه المؤسسات وعقيدتها. فالجيش والجهاز الأمني والقضاء والإعلام بل وحتى المؤسسات شبه الحكومية، يعاد تشكيلها بنيويا وتربويا لتصبح في خدمة الاستبداد بدلا من الوطن والشعب. (٧)

هذا التراكم يجعل الكوادر العاملة في هذه المؤسسات، بمثابة فريق مبرمج بشكل جماعي بخريطة عمل منهجية ومتكاملة لخدمة الاستبداد. والأخطر من ذلك أن مصالح هذه الكوادر تصبح مرتبطة ببقاء الوضع الاستبدادي ويترسخ في ضميرها وكل قناعاتها أن بقاء المستبد أو بقاء آثاره هو الضمان لحياة مقبولة لهم (٨). 

والتشكل بهذه المنظومة المعقدة بقدر ما هو فعال في حماية المستبد، فإنه فعال كذلك في إبقاء منظومته حتى بعد ذهابه، بل والتحايل من أجل إعادته أو إعادة مظلته الاستبدادية. وبسبب هذا التشكيل المعقد والمتجذر تربويا وتنظيميا، لا يمكن إزالة آثار المستبد إلا بتضحيات كبيرة هي بمثابة بتر جزء من المجتمع. 


كثرة المنتفعين من الواقع الاستبدادي
الدولة ذات الطابع الاستبدادي تتكون بطريقة تكثر فيها الكائنات النفعية الطفيلية داخل وخارج المؤسسات المذكورة سابقا. هذه الكائنات الطفيلية لا تعيش إلا على الاستبداد وتربط حياتها واقتصادها به، بل وحتى متعتها وراحتها ببقاء المستبد وترسيخ استبداده (٩). 
تشتمل هذه الكائنات النفعية على جموع كبيرة من التجار والكتاب والمثقفين والعلماء، وتتضمن كذلك طوائف خاصة إضافية حسب تركيبة الدولة الاجتماعية والثقافية(١٠). وهي بجموعها الكبيرة لها قدرة فعالة على حماية المستبد بوسائل كثيرة تتجاوز المؤسسات الرسمية، بل أن أساليب هذه الجموع تكاد تصنع نظاما اجتماعيا كاملا قائما على تطبيع الاستبداد، بحيث يبدو المجتمع وكأنه يرفض التغيير بطريقة آلية.
وليس غريبا أن تصبح هذه التشكيلة الضخمة عدوة لأي ثورة، لأنها ستكون من أوائل من يخسر بمجرد تخفيف درجة الاستبداد فضلا عن زوال المستبد. وإذا زال المستبد تبقى برمجتهم الطفيلية مدمنة على الاستبداد، فتجد نفسها تلقائيا في حلف طبيعي مع بقايا المؤسسات المذكورة أعلاه لإعادة المستبد أو لإعادة جو الاستبداد. 
ولا يمكن للثورة أن تنجح دون أن تستحضر قياداتها كثرة هذه الكائنات، واختراقها العميق للمجتمع، ومن ثم قدرتها على تعطيل الثورة أو إفشالها. وبما أن هذه الجموع متداخلة مع المجتمع بطريقة معقدة، فلا يمكن التعامل معها بإعلان الحرب، لأن الفاصل بينها وبين بقية المجتمع النظيف سيكون صعبا بعد ترسخ جو النفاق الذي تركه المستبد.
وربما لا يصلح للتعامل معهم إلا بإرهاب فكري تمارسه الثورة ضد كل من يريد أن يحمي بقايا المستبد، وذلك بعد تجريدهم من الدعم الذي كانوا يلقونه من المؤسسات الرسمية التي أزيلت بعد زوال المستبد. ولأنهم طفيليون نفعيون سوف يدركون بهذا الإرهاب أن مصلحتهم هي في إزالة آثار علاقتهم بالمستبد، فتنقلب الثقافة من تعظيمه إلى تحقيره.
ومن الوسائل الفعالة في تحييد أو تهميش هؤلاء أو تقليل دورهم،  تفعيل الأغلبية الصامتة التي تحب الخير وتبغض الشر لكنها سلبية تماما. إذا فُعّلت هذه الأغلبية أصبحت أداة للموازنة في مقابلة جيش المنتفعين، وهو جيش جبان ما أن يرى الخطر حتى يغير جلده وانتمائه.

مفاهيم وقيم ترسّخ وتحمي الاستبداد
كلما طالت فترة الاستبداد كلما تغير مفهوم الخطأ والصواب إلى ما يناسب ترسيخ الاستبداد، ومن ثم يصبح تصحيح هذه المفاهيم أو إعادة المفاهيم الصحيحة من أهم واجبات الثورة وربما من أصعبها. وهذه المفاهيم إما أن تكون مفاهيم دينية وتربوية لها أصل تم تحريفها لترسيخ الاستبداد،(١١) أو تكون مفاهيم وقيم اجتماعية مخترعة ليس لها أصل، لكنها نشأت وترعرعت وترسخت كثقافة مقبولة في المجتمع في ظل الاستبداد.(١٢)
المفاهيم الدينية والتربوية ليست مرتبطة بدين محدد، فالمستبد يجيد استخدام كل الأديان والمذاهب، ولديه فريق جاهز من المرجعيات الدينية والثقافية لتحوير النصوص والتعليمات الدينية والقيم الثقافية لتصب في صالحه. ولأن الأجهزة الإعلامية والثقافية بيد المستبد، فإن المراجع والمثقفين يحتكرون المنصات التي تؤثر في الجماهير فيتضاعف تأثيرهم.(١٣)
أما المفاهيم الاجتماعية فليست محتاجة لمنظرين، بل هي مرتبطة مباشرة بطول أمد الاستبداد. فالاعتماد على الحاكم في كل شؤون الحياة وإيكال أمر السياسة والاقتصاد والقانون والنظام له، وتقويم الناس بناء على قربهم وبعدهم عن الحاكم، وربط النجاح والفشل برضا الحاكم، كلها مفاهيم لا تحتاج علماء ولا مثقفين بل تتشكل تلقائيا. 
وطول أمد المستبد يحوّل هذه المفاهيم -بنوعيها- إلى ما يشبه العقائد الراسخة، تتسع دائرتها حسب طول مدة الاستبداد. ويستحيل أن تزول هذه المفاهيم بزوال المستبد، لانها ترسخت في الوجدان والضمير ولا يزيلها أحداث سياسية أو تغييرات في النظام والحكم (١٤). 
وحتى لو كان معظم الشعب يكره الحاكم، تبقى التربية على هذه المفاهيم في أعماق اللاشعور، فتوفر الفرصة للاستبداد أن يبقى، بل لفلول المستبد أن تعود. ومن المفارقات أن كثيرا ممن شارك في الثورة ضد الحاكم رافضا شخصه لا يستطيع إزالة هذه التربية من وجدانه.
ولا يمكن أن تزول هذه التربية إلا بطريقتين، إما القبول بعامل الزمن والاستعداد لموجة من الانتكاسات قبل تنظيف القلوب والنفوس منها، أو بطريقة العلاج بالصدمة الجماعية للشعب، بوسائل نفسية فعالة باستغلال ظروف الحروب والكوارث.

بيئة السقوط الاخلاقي 
إذا كان الاستبداد من النوع الذي يسخر البلد للمستبد على حساب الوطن، فإن طول أمده يؤدي لأن يدور كل شيء من تصرفات الناس حول إرضاء الحاكم وحاشيته. في واقعٍ يخلق جوا مثاليا لمنظومة أخلاقية كاملة، قائمة على النفاق والكذب وتقمص شخصيات غير حقيقية (١٥).
ويتفاقم الجو النفاقي حتى يعيش الشعب حالة تمثيل جماعي، يعلم فيه كل فرد أن الآخر يمارس تمثيلية ويرد هو بدور آخر من التمثيلية، والآخر يعلم أن الأول يمارس دوره وهكذا. هذا الجو يتفرع عنه كثير من الأخلاق السيئة المعاكسة للأمانة، وهي الكذب والغدر والغش والخيانة. 
واذا تفاقمت هذه الأخلاق السيئة تفضي تلقائيا لضرب القيم الأخرى المرتبطة باحترام الذات والآخرين، فتنحسر الغيرة والكرم والفزعة والإيثار وحسن الظن، ويحل محلها البخل والدياثة وسوء الظن والخذلان والأنانية. وهذا بدوره يؤدي إلى انحطاط قيمة الإنسان عند نفسه وعند غيره، فتنهار الكرامة والعزة والثقة بالنفس والاعتداد بالهوية. 
وإزالة المستبد لوحدها، يستحيل أن تعالج هذه المنظومة الأخلاقية السيئة، وستبقى لسنين وربما أجيال توفر مجالا مثاليا لتعثر الثورة أو لعودة المستبد. ولا يمكن علاج هذا السقوط الأخلاقي، إلا بثورة أخلاقية توازي الثورة السياسية، تُستنفر فيها كل القوى الثقافية والدينية والحيل الاجتماعية والحركية لإحياء القيم العليا في نفوس الناس.(١٦)

العلاقات الإقليمية والعالمية 
لا يمكن أن يبقى المستبد الفرد الذي سخر الوطن وقدراته لمصلحته الشخصية في الدولة العميقة إلا بدعم إقليمي أو دولي. وذلك لأن المستبد مثلما سخر مؤسساته العسكرية والأمنية والإعلامية والمالية لمصلحته داخل الوطن، فإنه يسخر سياسته الخارجية من أجل أن يحظى بمزيد من الدعم من القوى الخارجية.
والدعم الخارجي إما أن يأتي ممن يتناغم معه في الاستبداد من حكام الدول الأخرى (١٧) أو من دولة غير مستبدة لكنها مستفيدة من بقاء هذا المستبد.(١٨) وطول أمد المستبد الفرد يزيد من ارتباط هاتين الجهتين بالواقع الاستبدادي لدولته، فيزيد من ربط مصيرهم به.
ولهذا ستسعى هذه القوى بكل ما أوتيت من قوة لمنع الثورة، وتسعى بعد نجاح الثورة لعودة المستبد أو مستبد بديل، يعيد نفس الوضع السابق. وهو تصرف تلقائي لا يحتاج مؤامرة ولا ظروفا خاصة، بل هو رد فعل المتوقع لأي دولة أخرى تضررت من زوال مستبد كانت مصالحها مرتبطة بوجوده. 
ولا يمكن منع هذه القوى من أن تساهم في تعثر الثورة أو فشلها إلا بتماسك الثورة، ووضوح أهدافها وقوة الدعم الشعبي لها وطول نفس الجماهير. وربما أهم من ذلك كله دهاء القيادة الثورية في التعامل مع الحيل المنظمة التي تتقنها عادة هذه الدول، لأنها تنطلق من مؤسسات قائمة بينما الثورة تنطلق من تنظيم جنيني. 

غياب الشخصيات القيادية والخبرة التنظيمية في الثورة
ولا يخفى أن هذا العامل له صفة سلبية، لكنه أيضاً نتيجة للواقع الاستبدادي بكل العوامل المذكورة أعلاه، وبذلك فهو جزء من طبيعة الدولة العميقة. وتفسير وجوده بسيط، وهو أن طول أمد المستبد، يعني القضاء تلقائيا على كل قدرة قيادية منافسة سواء كانت منافسة ظاهرة أو منافسة كامنة. (١٩)
ولا يعني أن يكون الاستئصال جسدياً أو أمنياً بالضرورة، بل يحصل بوسائل كثيرة تستحوذ تلقائيا على كل أصحاب القدرة القيادية الكامنة. من هذه الوسائل تطويعهم لصالح المستبد، أو قتل روح المسؤولية والإيجابية فيهم، أو إجبارهم على تفريغ الشحنة القيادية في اتجاه فني أو مهني أو تجاري بعيدا عن العطاء الثوري. 
ولهذا تجد الثورة نفسها أمام واقع صعب، ليس لديها فيه شخصيات قيادية ولا منظومة حركية، تواجه بها الخبرة التنظيمية الطويلة لفلول المستبد وتركيبتهم الحركية، التي ستكون في حالة جاهزية دائمة. وحتى لو كان في الثورة قائد جيد فإنه غالبا ما يجد نفسه أمام مهمة صعبة في توفير القيادات، والهيكل الحركي الفعال لمبارزة فلول المستبد. 

مع ذلك النصر للثورات 
هذه العوامل رغم قوتها فإنها قد تعطل الثورات، وتتسبب في انتكاساتها وطول أمدها، لكنها لا يمكن أن توقف عجلة التغيير مادامت الثورة تغييرا حضاريا حقيقيا. أما إذا كانت الثورة انتفاضة عابرة أو غضبا مؤقتا فليس لها فرصة أن تصمد أمام تشعب ونفوذ الدولة العميقة. (٢٠) 

-------------
١) يصدر هذا المقال فيما يمكن اعتباره تعليقا على العودة الفعلية لنظام بن علي في تونس عن طريق السبسي، وهو النموذج الثاني لفشل الثورة بعد نجاح الانقلاب في مصر في إقصاء مرسي. 
٢) الثورة والثورة المضادة للمؤلف بلينيو كوريا دي اوليفيرا إضغط هنا.
٣) معظم الحديث عن الدولة العميقة صاحب ثورة مصر والانقلاب على اعتبار ان عودة الاستبداد من نتائج وجود الدولة العميقة. 
٤) الدولة العميقة بالمعنى الذي طرحه هذا المقال تشمل كل الدول التي اندلعت فيها الثورات "تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا". 
٥) رغم القمع الذي يمارسه المستبدون الوطنيون والقوميون والايدلوجيون، فإن القبول الشعبي عادة يعطيهم عصمة من الثورة. وخلال التاريخ كله لم تندلع ثورة تاريخية حقيقية ضد مستبد صاحب مبدأ، بل بالعكس يمجده الناس في حياته وبعد مماته. 
٦) نظرة سريعة لواقع معظم الدول العربية وخاصة التي اندلعت فيها الثورات يرى تجسيد هذه الحقائق.
٧) لايوجد جيش عربي لديه عقيدة قتالية مبنية على نظرة قومية أو وطنية الا الجيش العراقي أيام صدام. 
٨) اللافت للنظر أن بنية الدولة الحديثة تصنع طبقتها الحاكمة تلقائياً، فلا تجد دولة في الشرق أو الغرب مهما كانت حرة، إلا والحكام الفعليون في البلد أو النخب السياسية من طبقة واحدة مغلقة، وفي هذا الحوار لميشال مافيزولي تجد توضيحاً أكثر لهذه الفكرة إضغط هنا.
٩) يسميها التوسير بأجهزة الدولة القمعية إضغط هنا.
١٠) في الخليج وليبيا والأردن واليمن شيوخ القبائل وفي مصر الفنانين الخ. 
١١) من نماذجها مفاهيم طاعة الحاكم والخروج والفتنة والمصلحة. 
١٢) من نماذجها مفاهيم "من البديل" و "الأمن أولا" و "محاربة الإرهاب".
١٣) يعتقد البعض أن التأصيل الديني مقتصر على المسلمين، بينما كانت الكنيسة سباقة في تأصيل الاستبداد لملوك أوربا فيما يسمى القرون الوسطى.
١٤) يسميها ابن خلدون بالعوائد ويقول عنها : والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الامد فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الاجيال وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها.
١٥) وهو ما يسميه الكواكبي في طبائع الاستبداد بالتمجد، وأفرد له فصلاً كاملاً في كتابه بعنوان الاستبداد والمجد. 
١٦) نعترف بخجل وحزن أن هذا حال كثير من الدول العربية مع الأسف الشديد قبل وبعد الثورات. 
١٧) هذه الظاهرة حصلت في محاربة الثورة الفرنسية وتآمر الممالك الأوربية لعودة الملكية خوفا من انتشار الثورة الفرنسية لبقية البلدان، وتحصل الآن في دعم انقلاب مصر وانتخاب السبسي وفوضى حفتر الخ. 
١٨) قديما وقفت بريطانيا ضد الثورة الفرنسية رغم أنها سبقت فرنسا في الحريات، والآن تقف أمريكا وكثير من دول أوربا مع السيسي والسبسي والقوى اليمنية المناهضة للثورة.
١٩) لا تحتاج أن تكون مؤرخا أو مكثرا من قراءة التاريخ لتعلم أن المستبدين في العالم العربي إما استأصلوا القيادات التي فيها قوة كامنة للتغيير أو قضوا على تأثيرها أو أعادوا توجيهها.
٢٠) راجع مقالنا في التقرير (الربيع العربي نهضة حضارية أم انتفاضة فاشلة) إضغط هنا.


مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير.

الاثنين، 22 ديسمبر 2014

أمريكا على الحقيقة



هذا ليس تقويما أخلاقيا أو قيميّا لأمريكا ولا ترجمة لعواطف تجاهها، بل هو اجتهاد في رؤية موضوعية للحالة الأمريكية، وأثر التاريخ والتركيبة السياسية والواقع الاجتماعي والسكاني في حاضرها ومستقبلها. كما إنه ليس تكرارا للحديث عن مستقبل أمريكا فالمكتبة متخمة بالكتب والمقالات التي تتحدث عن ذلك،(١) إنما هو استعراض متجرد للتركيبة السياسية والاجتماعية الأمريكية، ومحاولة الربط بين هذه التركيبة كسبب والواقع الأمريكي كنتيجة.

الولايات المتحدة متفردة فعلا فهي تتميز عن معظم دول العالم بتركيبتها السياسية والاجتماعية وقصة تكوينها وطريقة تنامي قوتها ثم حكاية صعودها العالمي وتحولها لامبراطورية. (٢) هذه التفاصيل تجري مناقشتها كثيرا، والغالب على هذه المناقشات إن لم يكن كلها، السير في الخط الأكاديمي بقوالب الدراسات الطويلة التي تضيع في ثناياها الملاحظات المفصلية الكاشفة للعلاقة بين الكيان الهيكلي والاجتماعي وناتجه في السياسة الداخلية والخارجية. 

هذه محاولة لتشريح الحالة الأمريكية والتعرف على حقيقتها من منظار تاريخي وسياسي واجتماعي واقتصادي وفكري وعلاقتها مع العالم. وإذا اتضحت الصورة في قصة نشأة أمريكا ونموها، وفي معرفة التركيبة السياسية والاجتماعية والمنهج الاقتصادي، سوف يسهل فهم أي نقاش حول واقع أمريكا ومستقبلها. ولا نزعم أن هذا المقال ينافس دراسات قدمتها مؤسسات عريقة ومتمكنة، لكنه محاولة لتسهيل الصورة في فهم الحالة الأمريكية بمقاربة مبسطة.

النشأة والنمو
في نشأة أمريكا مجموعة من الحقائق لا يمكن أن تُمسح من وجدان الأمريكي، ولا ذاكرته التاريخية وسوف تبقى مؤثرة في التفكير والتصرف الجمعي الأمريكي مهما زعم الأمريكان غير ذلك. ولا ينفي ذلك أن الكثير منهم اجتهدوا في التخلص من سلبيات التاريخ، لكن عوامل النشأة ترسخت بشكل لا يمكن لها أن تتوقف عن التأثير في العقل الجمعي الأمريكي إلا بزوال أمريكا نفسها، أو تغيير نظام حكمها بالكامل. 

الحقيقة الأولى أن إنشاء أمريكا مشروع استيطاني عنصري، يتفوق على كل النماذج العنصرية الاستيطانية في التاريخ، وتتمثل فيه العنصرية بأكثر من جانب. الجانب الأول هو إفناء شعب كامل (مئة مليون هندي أحمر) من أجل إحلال شعب دخيل من أوربا. الجانب الثاني هو جلب الملايين من السود من أفريقيا لاستعبادهم في مزارع البيض، وما صاحب ذلك من احتقار للجنس الأسود في نقلهم بالسفن وقسوة في سوء المعاملة بعد ذلك.(٣)

والعنصرية بقيت رسمية قانونية إلى عهد قريب، ولم تظهر القوانين التي تمنع العنصرية إلا قبل عقود قليلة. (٤) وظهور هذه القوانين لم ولن يزيل آثار هذه العنصرية من الوجدان الأمريكي، ولا يمكن للقوانين أن تصنع ضميرا، أو أن تخلق قيما، أو أن توجد أخلاقا ومشاعر. نعم نجحت هذه القوانين إجرائيا نجاحا كبيرا، حتى اعتلى عرش أمريكا رجل أسود، لكن العنصرية "باقية وتتمدد". (٥)

والعنصرية لا تؤذن بتفكك الدولة ولا تؤثر في قوتها لو كان أحد الأطراف قليل العدد أو ضعيف التأثير، لكنها قد تدمر البلد وتقضي عليه إن كان لدى كل أطراف العنصرية القوة الكامنة الكافية لتحدي الطرف الآخر. (٦) والأمريكان ذوي الأصول الأوربية غالبهم لا يزال متشربا فوقية الرجل الأبيض وسيادته على الأجناس الأخرى. وفي المقابل فإن غالب الأمريكان السود في حالة ثأر دفين على ما أصاب آبائهم وأجدادهم من ظلم. وما حصل في لوس أنجلوس قبل عشرين عاما بسبب ضرب الشرطة للمواطن من أصول أفريقية رودني كينج أمام الكاميرا، وما يحصل الآن بسبب قتل السود بدم بارد نموذج لهذه الحقيقة. 

وكدليل آخر على تجذر الفكر الاستيطاني في العقلية الأمريكية هذا الاندفاع الخرافي لتأييد إسرائيل بطريقة تكاد تكون جزء من العقيدة الأمريكية. مع أن نفوذ الصهاينة في السلطة الفيدرالية وكثرة البروتستانت الصهاينة عاملين مهمين، لكن لم يكن الصهاينة لينجحوا دون جاهزية في الوجدان الأمريكي للاستيطان. (٧)

الحقيقة الثانية أن أمريكا لم تنشأ كقومية انبثقت منها دولة فكونت قطرا بطريقة تلقائية كما هو الحال في معظم دول العالم، بل نشأت أمريكا بولايات قليلة، بطريقة آلية إجرائية تحت مظلة الدستور، ثم استغرقت سلسلة انضمام الولايات الأخرى بنفس الطريقة الآلية حوالي ٥٠ سنة. هذه النشأة المصنوعة صناعة هي بمثابة تفاهم سياسي فوقي، أكثر منها اندماجا أو ذوبانا في هوية قومية واحدة بطريقة تلقائية.(٨)

هذه الحكاية في التكوين الغريب للوطن عند نشأة أمريكا، جعلت الانتماء مصطنعا والهوية متكلفة في الوجدان الأمريكي، مقابل الانتماء الطبيعي والهوية الواضحة في المواطنة عند معظم دول العالم. ولهذا السبب ترى الأمريكي يعيش هاجس الانتماء فيعوضه بالشكليات والإكثار من رفع العلم الأمريكي، والتغني بمجد أمريكا بمناسبات لا تمت بصلة للوطنية. وكمقارنة لتوضيح الصورة لا ترى من يرفع علم دولته في أوربا إلا في مباريات كرة القدم، لأنهم ليسوا بحاجة لإثبات هويتهم وانتمائهم. 

والانتماء المصطنع الذي يترجم بطريقة مسرحية قابل للانحسار بسهولة، إذا تعرض لهزة كبيرة بسبب سياسي أو عسكري أو أمني أو اقتصادي. وقد شاهدنا ذات العلم الأمريكي الذي يرفع بشكل مصطنع، يحرق في بعض المظاهرات المعارضة للعنصرية. (٩)

ولعل فشل النظام الفيدرالي في حسم الخلاف بين الشمال والجنوب، ولجوء الطرفين للحرب لحسم النزاع، دليل على محدودية قدرة النظام الفيدرالي على احتواء الوطن. وبنفس المقياس فإذا ما أحست بعض الولايات أنها متضررة سياسيا وأمنيا واقتصاديا، بسبب تحملها عبء الاتحاد بعد التوسع الامبراطوري المرهق والانكشاف الاقتصادي، فلن نستغرب ان تعلن بعضها الرغبة في الانسحاب من هذا الاتحاد. (١٠)


التركيبة السياسية 
تعتمد أمريكا اعتمادا كليا في تركيبتها السياسية على النظام الفيدرالي المثبت بطريقة مقدسة في الدستور. والإجراءات المحددة في هذا النظام هي التي ينتج عنها تكوين الكونجرس وانتخاب الرئيس، ومن ثم وضع القوانين ورسم السياسة الداخلية والخارجية. هذا النظام جميل ظاهريا في تمكين الشعب من المشاركة السياسية والمحاسبة، وتحقيق درجة عالية من الموازنة بين السلطات الفيدرالية والمحلية، لكن فيه إشكالات بنيوية لا يمكن إصلاحها إلا بتفكيك الدولة. 

الإشكال الأول أن النظام بقدر ما فيه مما ذكر أعلاه، فإن فيه ثغرات تمكّن الجماعات المنظمة القادرة على التآمر، من خطف جزء كبير من الدولة لصالحها. ومن هنا تمكن لوبي اليمين المتطرف، واللوبي الصهيوني ولوبي النفط والمال من تغليب مصالحهم على المصلحة العليا للولايات المتحدة. (١١)

هذه الثغرات لم تكن واضحة حين وضع النظام، لاستحالة استخدامها أيام الخيل والقطار، ولم يتبين أن استخدامها ممكن إلا بعد اختراع الهاتف والاذاعة والتلفاز، ثم الثورة الجديدة في المعلومات والاتصالات. ومنذ مطلع القرن العشرين والكيان الفيدرالي يتنقل بين اللوبيات، حتى انتهى به المطاف تحت السيطرة الكاملة للصهاينة. (١٢)

الإشكال الثاني أن النظام الفيدرالي رغم انه ظاهريا مجرد رابط بين الولايات، لكنه في الحقيقة نظام متغول في نشاطه القانوني والقضائي والأمني ومن ثم الإداري والاقتصادي. ووضوح الفاصل بين السلطة المحلية والسلطة الفيدرالية قانونيا وإداريا وأمنيا، لم يقلل من التغول أبدا. 

وحين تضخم دور أمريكا العالمي، وصارت امبراطورية، وتعاظم دورها الاقتصادي عالمياً، تعاظمت  تداعيات توسعها من مشاكل أمنية وتبعات عسكرية. هذا التعاظم كشف الطبيعة المتغولة للنظام الفيدرالي، بطريقة صارخة وضاعف تدخلات السلطة الفيدرالية قانونيا وأمنيا واقتصاديا وإداريا عدة أضعاف. 

نظام الضرائب يلزم كل الولايات بدفع حصة من الضرائب للسلطة الفيدرالية، وأتى التوسع الامبراطوري فزاد الإنفاق بشكل مهول، ومن ثم تضاعفت مطالبة الولايات بدفع حصتها الضريبية للسلطة الفيدرالية. من جهة أخرى خلق التوسع الامبراطوري لأمريكا أعداء كثير في العالم، وخطرا خارجيا وداخليا عليها، فدفعها لتضخيم العمل الاستخباراتي والأمن الفيدرالي، سواء من ناحية العدد والكوادر، أو من ناحية الدور والتدخل في حياة الناس. (١٣)

من الناحية الاقتصادية فتح توسع النفوذ الأمريكي الأسواق للشركات الأمريكية، فتحولت إلى مؤسسات عملاقة بدخل سنوي وأصول تزيد عن دخل وأصول بعض الولايات، مما أدى لتحرك النظام الفيدرالي وتفكيكها. وقد تعرضت عدة شركات عملاقة للتفكيك بقرار فيدرالي، وليس ذلك بمؤامرة ولا خطة من خصوم هذه الشركات، لكنه إجراء طبيعي في صلب النظام الفيدرالي يمنع هذه الشركات من التضخم والاحتكار.(١٤)

التركيبة الاجتماعية
إضافة للعنصرية المتجذرة في الشعب الأمريكي، هناك حقائق أخرى عن المجتمعات الأمريكية تتصادم مع روتين النظام السياسي في أمريكا. 

الحقيقة الأولى غلبة الأمية السياسية على الأمريكان، فمعظم الأمريكان لا يعرفون شيئا عن العالم، بل لا يعرفون شيئا خارج ولايتهم، وربما لا يعرفون شيئا خارج مدينتهم. واذا كان المواطن لا يعرف شيئا عن الواقع السياسي والاقتصادي، ولا يهتم بالفوارق بين الاطروحات المختلفة للسياسيين، فكيف يكون له دور مسؤول في الانتخاب والمشاركة السياسية؟. 

والأمية السياسية هي مما استثمرته اللوبيات لتوجيه الشعب بالطريقة التي تريد، من خلال استخدام الإعلام والتحكم بهذه الجموع الجاهلة. ولذلك فإن الكثير من المواطنين الأمريكان لا يهتمون أصلا بالنشاط السياسي والانتخابات، وإن اهتموا ففي حدود المجلس البلدي أو كونجرس الولاية. أما القليل الذي يهتمون بانتخابات مجلس النواب والكونجرس والرئيس فإن مقاييسهم ليست منطلقة من علم ومعرفة، بل من اهتمامات محدودة تعرف قيادات اللوبيات كيف تتلاعب فيهم من خلالها. (١٥)

الحقيقة الثانية هي حداثة المجتمعات الأمريكية، بمعنى أن أفراد المجتمع وأسره جديدة على بعضهم بعضا، سواء كانوا مهاجرين قادمين من خارج أمريكا أو متنقلين داخل أمريكا. ولا يكاد يوجد مجتمع مستقر داخل أمريكا في إلا في حالات نادرة في بعض القرى والمدن الصغيرة. 

يعتقد البعض أن هذه الحداثة تعطي حيوية وديناميكية للمجتمع الأمريكي، لكن الحقيقية أن غياب الاستقرار، ومن ثم قصر أمد العلاقة بين الناس، يحرم المجتمع من التفاهم على طريقة معينة في الحياة، ويشعر الجميع بأنه غريب على الجميع. ولهذا السبب فإن غالب النشاطات الاجتماعية في المجتمعات الأمريكية مبنية على الوضع التجميعي المؤقت، والعلاقات الجديدة وليس مبنيا على استقرار وملازمة تاريخية. 

الحقيقة الثالثة أن المجتمع الأمريكي يقدس السلاح، ويعتبر الحق في اقتناء وحمل السلاح واستخدامه والتدرب عليه حقا طبيعيا، ولذلك جاء النص عليه في الدستور الأمريكي. وأصل فكرة تقديس حمل السلاح مبدأ فلسفي جميل، مبني على منع الدولة من التغول على الشعب، لكن يبدو أن الفكرة لم تحقق شيئا في منع هذا التغول كما ذكرنا في الحديث عن التركيبة السياسية. ولهذا فإن انتشار السلاح واستخدامه، لن يخدم هذه الفكرة، بقدر ما يخدم ارتفاع نسبة الجريمة وفرصة الفوضى لو قلت هيبة السلطة الفيدرالية أو المحلية. 

ورغم الحرب على الإرهاب والهاجس الأمني الذي سيطر على مفاصل الحياة في أمريكا، فلا تزال الميليشيات المسلحة قانونية في أمريكا، بل وتحولت إلى تجارة وشركات ومؤسسات مالية. هذه المفارقة بين المبدأ الذي من أجله قدس الدستور الأمريكي حمل السلاح، وبين نتائج انتشار السلاح، هي نموذج آخر من التناقضات الكثيرة بين المبادئ والواقع في الحياة الأمريكية.(١٦)

المنهج الاقتصادي
يتبنى الأمريكان الرأسمالية بطريقة عقائدية، وكأن آدم سميث موجود معهم على مدى الزمن، يدير اقتصادهم بشكل مستمر. وقد أدى التوجه المتطرف رأسماليا في منهج الحياة الأمريكي إلى عدة إشكالات، تركت أثرها على الدولة الأمريكية والمجتمع الأمريكي. 

الإشكال الأول أن التطرف الرأسمالي يعطي مساحة كبيرة للنشاط "النقدي" المجرد، فيتضخم هذا النشاط ويبتلع النشاطات التجارية والصناعية والخدماتية والمعلوماتية والبحثية. وبما أن النشاط النقدي غير منتج بل هو تلاعب ظاهري بالأرقام، فهو طريق مضمون للدمار الاقتصادي. هذا التضخم في النشاط النقدي (الاقتصاد الوهمي) المدمر للاقتصادي الحقيقي من حتميات التطرف الرأسمالي، ولا يمكن تفاديه إلا بالتخلص من تقديس الرأسمالية. (١٧)

الإشكال الثاني أن الاستغراق في القيم الرأسمالية يهون الاعتماد على الديون الربوية حتى لو بلغت أرقاما فلكية، بل حتى لو تجاوزت قدرة الإنتاج القومي كله على سدادها. هذا التهاون هو الذي جعل الاقتصاد الأمريكي معتمد بنيويا على القروض منذ تاريخ نشأة أمريكا. وإذا كان الكيان الأمريكي في مراحل سابقة قادرا على التعافي من الديون المتكررة على السلطة الفيدرالية، فإن التراكم الأخير يستحيل التعافي منه بكل المقاييس الاقتصادية. (١٨)

الإشكال الثالث أن النظام الرأسمالي المتطرف، يصنع تفاوتا طبقيا خطيرا في المجتمع، ويزرع الأحقاد والضغائن والفجوة النفسية الهائلة بين الطبقات. وقد بينت الإحصاءات أن الوقت يدفع باتجاه تكدس الأموال عند الأقلية الصغيرة، وأثبت آخر إحصاء أن التفاوت الحالي هو أكبر تفاوت منذ بدأ جمع المعلومات ونظام الإحصاء. وفي أحد هذه الإحصاءات حصل ١٪ على أكثر من خُمس دخل الشعب الأمريكي، و١٠٪ دخلهم أكبر من دخل نصف الشعب الأمريكي. (١٩)

النخبة الفكرية الأمريكية
رغم الأمية السياسية ومحدودية الثقافة العامة في المجتمع الأمريكي، فقد أنتجت أمريكا عددا لا بأس به من المفكرين والفلاسفة، بل وكان للمفكرين دور في نشأة أمريكا الأولى وتدوين دستورها وصياغة مبادئ الدولة. لكن واقع الحياة الأمريكية تسبب في إشكالات أثرت في مدى عطاء هذه النخبة وطريقة تأثيرها في الحياة الأمريكية.

الإشكال الأول أن تراكم آثار التركيبة الفيدرالية وتضخم نفوذ اللوبيات، قلل من دور المفكرين في صناعة الرأي العام، وصياغة السياسة حين جردهم من المنصات المؤثرة في المجتمع الأمريكي. فالمفكرون لا يمكن أن ينافسوا قوى الإعلام الهائلة التي تديرها اللوبيات برسائل ساذجة وسطحية عن واقع أمريكا والعالم. كما أنهم لا يمكن أن ينافسوا قوى المال التي تُرشح من ترغب للمواقع السياسية في الكونجرس والحكومة. 

الإشكال الثاني أن المفكرين المؤمنين بقيم الحرية والعدالة انتهوا إلى إحباط حين أدركوا عجزهم عن إقناع أنفسهم بموازاة مزاعم المشروع الأمريكي في تحقيق هذه القيم، بينما أمريكا تحارب الحريات في كل أنحاء العالم بدم بارد. وفي المقابل ترعرع دور المنظرين للاستعمار والاستقطاب العالمي والتطرف اليميني لأنهم أكثر انسجاما مع السياق الأمريكي الحالي. وكلما ازداد دور هؤلاء المنظرين كلما أضفى المزيد من الشرعية على الصدام الاجتماعي داخل أمريكا ومواجهة العالم خارج أمريكا. (٢٠)

أمريكا والعالم

علاقة أمريكا بالعالم هي كذلك كتلة من المفارقات تسبب فيها قصة نشأة أمريكا وتنامي حجمها وقوتها الاقتصادية والعسكرية وقدراتها الصناعية والتقنية. كانت أمريكا ملتزمة بمبدأ "مونرو" (٢١) وتتحاشى التمدد العالمي، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى ففتحت الشهية أمام هذا التمدد، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فاندفعت أمريكا بلا حساب لملء فراغ بريطانيا وفرنسا في العالم. ومنذئذ صارت علاقة أمريكا بالعالم في حالة مفارقة لأنها تخضع  لحقائق متناقضة:

الحقيقة الأولى أن العالم كله يحتاج أمريكا اقتصاديا، فإمريكا تنتج ربع الناتج العالمي، وعملتها تكاد تكون العملة العالمية الرسمية، ولا تنافسها أي عملة صعبة أخرى. كما إن العالم يحتاج أمريكا تقنيا لأن مساهماتها التقنية أكثر من نصف مساهمات بقية العالم، وطوابير الأي فون في مدن العالم أكبر دليل على ذلك. هذه الحاجة تقوي أمريكا وتعطيها عمرا، ولكن في نفس الوقت تدفعها لغرور يعميها وينسيها مشاكلها الخطرة والكارثية. (٢٢)

الحقيقة الثانية أن الغرب المتحالف مع أمريكا يحتاجها عسكريا وأمنيا، وكان ولا يزال يعتمد عليها منذ الحرب العالمية الثانية، ولو اجتمعت كل جيوش أوربا ما استطاعت أن توازي قوة الجيش الأمريكي وتسليحه. كما أنه يعتمد أمنيا على أمريكا بسبب قوة انتشار السي آي إيه، والتي توازي بنفوذها النفوذ المخابراتي لكل دول أوربا مجتمعة. هذا الاعتماد الأوربي والغربي على أمريكا زاد من غرورها، ومن ثم عجزها عن الانتباه للتحديات الكارثية. (٢٣)

الحقيقة الثالثة أن أمريكا حين تمدد نفوذها السياسي، استغرقت في التعامل مع العالم بطريقة الهيمنة والتحكم، واعتقاد أن كل شبر في العالم خاضع لرأيها وإرادتها ومحقق لمصالحها. هذا الشعور هو الذي أدى لصدام أمريكا مع قوى اليسار في الخمسينات والستينات والسبعينات، ثم الإسلام الجهادي بعد التسعينات. وبسبب الحقيقتين السابقتين لم يكن بمقدور آلة القرار في أمريكا أن تتصور خطورة هذا التحدي العالمي مطمئنة لحاجة العالم وتحالف الغرب. (٢٤)

ثم أما بعد

هذا الفحص الشامل لأمريكا ربما يعين على فهم واقعها الحالي وتصور مستقبلها، وحقيقة استشراف من يرى أنها ستسقط أو على الاقل تنكمش انكماشا كبيرا. وربما تحين الفرصة لاحقا لتتبع هذه المحاولات في الاستشراف، ومدى مقاربتها لفهم أمريكا بالطريقة التي طرحت هنا.


-----------------
(١) يكفيك أن تكتب في قوقل سقوط أمريكا باللغة العربية أو باللغة الانجليزية، وترى الكم الهائل مما كتب عن هذا الموضوع. 

(٢) قد تشبه أمريكا بعض الدول في بعض تفاصيل نشأتها، مثل كندا والبرازيل لكن لا تجتمع معها في كل صفات التفرد والتميز. 

(٣) الطريقة التي شُحن فيها الأفارقة كالحيوانات في السفن، والتي كانت تتسبب في وفيات تزيد عن ٥٠% ترمى جثثهم في المحيط ثم بيع من بقي حيا منهم، واستعباد اطفالهم وقتل كبار السن الذي صاروا عديمي الفائدة منهم، واستخدام فتياتهم للمتعة، كلها نماذج من العنصرية المتجذرة في الشخصية الأوربية. وفي هذا الرابط المزيد من التفصيل إضغط هنا

(٤) يعتقد البعض أن العنصرية انتهت مع تحرير العبيد أيام ابراهام لنكولن، لكن الحقيقة أن العنصرية لم تنته رسميا وقانونيا إلا بعد حملة الحريات المدنية بقيادة مارتن لوثر كنج في الستينات الميلادية، حيث بقي الأسود يعامل كمواطن أقل درجة بعد تحريره من العبودية إلى أن ألغيت بالكامل قبل ٥٠ سنة تقريبا. 

(٥) الإحصاءات عن الممارسات العنصرية في أمريكا، تعكس هذه الحقيقة وتبين أن القوانين لم تزحزح النزعة العنصرية عند البيض ضد السود واللاتينيين وكل الفئات الأخرى. وفي تعليقه على الأحداث الأخيرة قال أوباما كلاما قريبا من هذا إضغط هنا.


(٦) حينما تمارس العنصرية ضد فئة صغيرة مثل الغجر في أوربا، لا يشكل ذلك خطرا على كيان الدولة، لكن حين تكون كل فئة كبيرة كما في أمريكا فالعنصرية خطر حقيقي على الكيان. 

(٧) من أفضل من تحدث عن هذا الموضوع الدكتور عبد الوهاب المسيري في كثير من كتبه، وهنا عرض مختصر لأحد كتبه التي تناولت الموضوع إضغط هنا

(٨) دقق في هذا الخط الزمني ولاحظ انضمام الولايات وطريقة الانضمام إضغط هنا.

وهذا بحث أكاديمي موسع في تحدي الهوية في العقلية الأمريكية إضغط هنا.

(٩) في عام ١٩٩١ حصلت احتجاجات أعنف من الاحتجاجات التي حصلت الآن في لوس انجلس ومدن أخرى، كان سببها ضرب الشرطة لرودني كينج المواطن الأمريكي من أصول أفريقية بلا سبب أمام الكاميرا وانتشار الفيديو وقتها. 

(١٠) هناك حركة حقيقية تنادي باستقلال كاليفورنيا وهذه إحدى إصداراتها إضغط هنا

(١١) لمعرفة المزيد عن دور اللوبيات وتاريخها راجع كتاب (من يحكم أمريكا تأليف شادي فقيه).

(١٢) كنموذج لاختطاف السياسة الخارجية الأميركية من قبل اللوبيات تأمل هذا البحث في الجزيرة نت إضغط هنا.

(١٣) منذ أن أنشئت الإف بي آي، وقادها إدجر هوفر وهي تحشر أنفها في كل شيء، حتى تضخمت لمستوى مكلف للولايات المتحدة بعد أزمة سبمتبر وصارت أكثر حضورا من الشرطة المحلية. 

(١٤) فكك القضاء الفيدرالي عدة شركات كبرى أمريكية كان آخرها مايكروسوفت، واعتبر بعض المفكرين هذا التفكيك دليلا على التغول الطبيعي للدولة الحديثة التي لا تريد لشيء أن ينافسها في السلطة والنفوذ.راجع كلام ملتون فريدمان المفكر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في هذه المقالة التي ينتقد فيها تغول السلطة المركزية على حرية الانتاج والملكية والتجارة إضغط هنا.

(١٥) متابعة بسيطة للقنوات المحلية في أمريكا، تبين لك مدى سذاجة الشعب وقابليته للتلاعب به ممن يقود الإعلام.

(١٦) هذا موقع رسمي للميليشيات الأمريكية، ليس فيه أي تحفظ على التدريب وحمل السلاح إضغط هنا.

(١٧) تحدث الاقتصادي المتخصص الحاصل على جائزة نوبل بول كروجمان عن استحواذ النشاط النقدي على الاقتصاد، وكيف أنه يدمر الاقتصاد بكل سهولة، وان الاستغراق في ذلك حتمي لا مفر من الانهيار بعده إضغط هنا.

(١٨) تأمل الصعود الصاروخي للدين القومي الأمريكي في هذا الرسم البياني إضغط هنا.

(١٩) راجع هذه المقالة حول الموضوع في نيويورك تايمز إضغط هنا.

(٢٠) تابع مقالات ومحاضرات الفيلسوف الامريكي نعوم شومسكي وتدرك مدى الإحباط الذي أصابه وأصاب عددا كبيرا من أمثاله. 

(٢١) مبدأ مونرو، هو التزام أمريكي تعهد به الرئيس جيمس مونرو سنة ١٨٢٣ بتحديد نفوذ الولايات المتحدة بين شمال كندا وجنوب المكسيك ومنتصف المحيط الأطلسي ومنتصف المحيط الهادي. وهو المبدأ الذي تخلت عنه أمريكا تدريجيا حتى نسته تماما.

(٢٢) لماذا يحتاج العالم أمريكا مقال مختصر ومركز إضغط هنا.

(٢٣) راجع هذا المقال في مجلة فورين افيرز: لماذا تبقى قوات امريكا في اوربا إضغط هنا

(٢٤) راجع مقالنا من يحصد أرباح الحرب على الإرهاب إضغط هنا.

مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير.

الاثنين، 15 ديسمبر 2014

خواطر فكرية



تمر في الذهن بعض الأحيان خواطر فكرية تستحق الصيد والتثبيت على طريقة صيد الخاطر لابن الجوزي. وعند تدوين هذه الخواطر تظهر بعض التفاصيل الإضافية التي تكمل الصورة فتنتهي على شكل فكرة متكاملة. وهذه بعض من الخواطر الفكرية التي قد يكون من المفيد عرضها كأفكار مستقلة مدعومة ببعض الهوامش التي تفتح المجال لمن يريد أن يتوسع في أي منها بتحويلها لمقال كامل. 

حرية التفكير تقتضي حرية التكفير
الذين ينادون بحرية التفكير يناقضون أنفسهم حين يتضايقون من ظاهرة التكفير كموقف فكري مجرد(١). والحقيقة التي تغيب عن أدعياء الليبرالية ( الداعين لحرية التفكير والتعبير) أن الهامش المفتوح للتكفير طبقا لأصول الفكر الليبرالي أوسع من الهامش المحدد بالشريعة. (٢)

فالتكفير، سواء كان تكفيرا نظريا لمن يمارس ممارسة معينة، أو تكفيرا عينيا لشخص معين، هو بالمنطق الليبرالي ممارسة فكرية لا يجوز الحجر عليها، ولا التدخل فيها، طبقا لأساسيات المنهج الليبرالي. بينما في الشريعة هناك منهج دقيق لضبط كلا المستويين. 

التكفير النظري (المطلق) له مبرراته المحددة بالشرع(٣)، فلا يجوز أن يوصف عمل معين بأنه مخرج من الملة إلا إذا كان موصوفا بالشرع بذلك (٤). بينما يسمح الفكر الليبرالي لكل صاحب رأي أن يصف أي عمل بأنه مخرج من الملة، وينسب هذا الموقف لدين الإسلام، لأن ذلك من حرية التفكير والتعبير. 

التكفير العيني في الشرع أشد صعوبة، ولا يمكن أن يوصف شخص معين بأنه خرج من الإسلام، إلا إذا تحققت فيه الشروط، وانتفت الموانع، وحصل ذلك في مجلس قضاء معتبر، أو على لسان عالمٍ موثوق.(٥) أما الفكر الليبرالي فلا يمنع أي شخص من وصف شخص آخر بأنه خرج من الملة، لأن هذا التوصيف في نهاية المطاف وجهة نظر لا يجوز الحجر عليها. 

لا تستهينوا بالإنكار بالقلب 
يستغرب البعض من أن الإنكار بالقلب فيه براءة للذمة، رغم أنه موقف سلبي، ولا يلجأ إليه إلا العاجز الذي لا يستطيع الإنكار باليد واللسان. أصحاب هذه النظرة يغيب عنهم التناول الحضاري لطرق التغيير في الإسلام، فيفوتهم أن إنكار شخص واحد سواء باليد أو باللسان أو بالقلب، لا يبرئ ذمة البقية، بل لا بد من إنكار جماعي بما أمكن من المراحل الثلاث. (٦)

وبقدر ما في المجتمع من التزام، فإن إنكار المنكر بالقلب، يحقق عدة أمور توازي في كفاءة أدائها نسبة الملتزمين بإنكار القلب من أفراد المجتمع. وكلما زاد عدد المنكرين بالقلب، كلما تم تجريد الفاسد والظالم ممن يوفر له الظروف التي ينفذ فيها المنكر، سواء كانت ظروفا نفسية أو أخلاقية أو أمنية. 

الإنكار بالقلب يَحرمُ مقترف المنكر من المثقف والإعلامي الذي يطبل له، ويحرمه من العالم الذي يفتي له بالباطل، ويحرمه من رجل الأمن الذي يقمع الناس من أجله، ويحرمه من دعم القيادات الاجتماعية التي تزيد من هيبته. وكلما زادت نسبة المنكرين بالقلب، كلما أمكن حصار المقترف للمنكر حتى بدون إنكاره باليد واللسان، وكلما قل الإنكار بالقلب كلما توفر له الفرصة في المضي قدما بمنكره.(٧)

ولذلك لا يمكن أن يتحقق إنكار المنكر بالقلب، إلا أن يترجم بموقف يثبت السلبية ضد صاحب المنكر، ولا يجوز إدعاء أن إنكار القلب موقف قلبي منعزل. ولهذا حذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن غياب الإنكار بالقلب يعني غياب الإيمان (وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (٨).


العلاقة بين ذكر الله ومواجهة الظلم
يفهم غالب الناس أن الذكر الذي أمرنا به، هو ترداد الأذكار المعروفة والأدعية والقرآن، وأن هذا هو المقصود بأن يبقى اللسان رطبا بذكر الله. نعم لا شك أن ذكر الله باللسان خير عظيم، لكن لا يمكن أن يتم به الذكر الحقيقي إلا بأن يتمثل بتذكر الله في كل حين، لما يؤدي للتصرف بما يدل على استحضار الله في كل عمل وظرف. (٩)

فحين نذكر الله بلساننا ونحن لا نغض البصر، أو نذكره بلساننا ونحن نغش في البيع والشراء والتعامل، فهذا ذكر باللسان ونسيان بالقلب. وحين يكون اللسان رطبا بذكر الله ونحن نتعامل مع الوالدين والزوجة والأبناء والجار والصديق تعاملا غير شرعي، فاللسان رطب والقلب جاف من ذكر الله. 

وأعلى درجات ذكر الله، أن يستحضر الذاكر عظمة الله في لحظات الاختبار الصعبة، وخاصة رفض المغريات التي تدفع الإنسان لإتيان الشهوات أو لأكل الحرام أو لقول الباطل. وأعلى منها إدراك أن قوة الله أقوى من أي قوة، حين يجد الذاكر لله نفسه ملزما بقول كلمة الحق رغم التبعات الصعبة لقولها، فلا يبالي بسبب تحقيقه لذكر الله في أعلى صوره. (١٠)

سمو السلوك الحضاري في الإسلام 
لا ترتقي المجتمعات حضاريا بالطرق والبنايات الجميلة والتقنية، فهذه ليست إلا تطبيقات مدنية يحسن فيها الإنسان استخدام الأدوات والآلات. إنما يحصل الرقي الحضاري بتكامل بني آدم مع بعضهم البعض، وتقليل الضرر المتحصل من بعضهم على بعض. 

وبهذا التكامل تتحقق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقضائية والسياسية، وبمثله تتحقق الكرامة الإنسانية. وبمثله كذلك تتحقق نصرة المظلوم، وإعانة المحتاج، وإغاثة الملهوف، وضمان العاجز، وتقوية الضعيف الخ. وبتقليل الضرر تنحسر الجريمة، ويتلاشى الفقر، ويختفي الفساد المالي والإداري، وتخف الحوادث وبقية انواع الضرر. 

وأرقى أنواع السلوك الحضاري، هو الذي يستحضر فيه الإنسان تلقائيا أثر تصرفه على الآخرين، ومن ثم مردوده عليه، فيتصرف باستحضار هذا الأثر فيرتقي حضاريا. وهذا ما يدفع الإنسان الحضاري إلى تحاشي إلقاء القمامة في الشارع، ويدفعه للانضباط بالطوابير، وإعطاء الفرصة للآخرين والالتزام بأنظمة السير والمرور. (١١)

ولقد وصلت كثير من الأمم الأوربية وغيرها، لهذا المستوى ليس فقط بالنظام والقانون فقط، بل بتشرب المسؤولية الحضارية عند كل فرد في تلك المجتمعات. هذا الالتزام الفردي يعطي ضمانا أقوى من ضمان القانون والسلطة، وأكثر محاربة للفساد والظلم والجريمة.

هذا الاستحضار للمسؤولية الجماعية، يحققه الإسلام باستحضار أعلى مستوى، وهو المسؤولية أمام الله الرقيب العليم السميع البصير القدير، واستحضار الثواب والعقاب، ومن ثم الإحساس بالمسؤولية في كل تصرف يقدم عليه الإنسان. وما كانت مجتمعاتنا الإسلامية الحالية لترتكس في التخلف الحضاري، إلا لغياب هذا الشعور بالرقابة الربانية والمسؤولية أمام الأمة في كل تصرف متعدي للآخرين. (١٢)

الفلسفة النظرية والفلسفة التطبيقية والإسلام
النقاش في منطق أرسطو ممتع ذهنيا، لكنه عديم الفائدة من الناحية العملية، لأنه منطق نظري بحت يكاد يستحيل ترجمته لتطبيقات تنفع الإنسان أخلاقيا واجتماعيا وتنمويا. وحتى نقاش فلاسفة عصر النهضة أمثال كانت وديكارت لم تقفز بعيدا في الفائدة حتى بعد تناوله بعض قضايا الخير والشر والأخلاق والفضيلة. (١٣)

 فلسفة هوبز و لوك وروسو ومونتسيكو وميكافيلي، لها شأن آخر لأن لها أثر عملي في المجتمعات والسلوك والسياسة والاقتصاد، وربما كان لها الدور الأكبر في التكوين الحضاري الأوربي الحديث الذي يقلده العالم كله تقريبا. قد يدعي البعض أن الفلسفة النظرية هي الأصل الذي انطلقت منه الفلسلفة التطبيقية، لكن دراسة متفحصة في عطاء الفلاسفة التطبيقيين، تبين أن انطلاقتهم مستقلة ومستغنية تماما عن الفلسفة النظرية. 

ومع أن الفلسفة الأوربية قد أنجزت نجاحاً في الطرح الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، إلا أن اضطرابها في نظرتها للحياة والكون والإنسان ومفهوم الفضيلة والأخلاق واضح للعيان ومشاهد لكل مطلع عليها، بل إنها تجاوزت ذلك بالعجز التام عن تحديد المطلقات فيها، الذي جر عليها الفشل في معرفة كنه المرجعية التي تنطلق منها في صياغة هذه النظرات. (١٤)

وهنا يتجلى سمو الإسلام في تحديد المرجعية، وتحديد طريقة الاستنباط منها، ومن ثم صياغة المطلقات بشكل شديد الوضوح، ومعرفة المنهج الذي تتفرع منه تفاصيل الحياة والكون والإنسان والأخلاق والعقائد. ولأن الإسلام مصدره خالق العقل نفسه سبحانه، فسيكون بالضرورة متكاملا متماسكا قويا متجانسا خاليا من التناقض، وعلى كل حال بأي قياس يقارن ما جاء عن الخالق بما قدمه المخلوق. 

ولهذا السبب لم تكن المجتمعات الإسلامية بحاجة للفلاسفة، وكان آلاف العلماء في الفقه والحديث يتفوقون على بن سينا والفارابي والكندي في الأثر الاجتماعي والحضاري في التاريخ الاسلامي. والسبب ليس لأن هؤلاء العلماء عباقرة، لكن لأنهم ينهلون مباشرة من الوحي المنزل من الخالق نفسه، بينما الفلاسفة يعتمدون على عقول المخلوقين. (١٥)


المنهجية سلامة وأمان
حين تريد التعرف على مدينة كبيرة، تستطيع أن تتعرف عليها بطريقتين، إما أن تشاهد خريطتها كاملة ثم تتناول أحيائها ومعالمها بطريقة منظمة، أو أن تتمشى في شوراعها شارعا شارعا وتستغرق سنين من أجل أن تعرفها. الطريقة الأولى هي الطريقة المنهجية الشاملة التي تليق بالعاقل والحريص على المعرفة الشاملة، والثانية هي الطريقة التلقينية التي تليق بالعاجز عن النظرة البانورامية.

ربما يليق بعامي جاهل أن يتلقى الدين تلقينا بتعليمات محددة في العبادة والسلوك والحلال والحرام ومبادئ العقيدة، لكن الإسلام يجعل هذا استثناء وليس القاعدة. الأصل في الإسلام أننا نتعلم ديننا بمنهجية شاملة ثابتة راسخة في التلقي والفهم والتطبيق والاختلاف، والمواقف وتقويم الآخرين وليس بقالب معلب. 

وضوح هذه المنهجية والانضباط فيها، هو الذي يؤدي إلى عقيدة صحيحة وعبادة صحيحة وسلوك صحيح وبناء مجتمعي وسياسي سليم. وغموض هذه المنهجية أو عدم الانضباط بها، هو الذي يؤدي إلى اضطراب في العقيدة ومخالفات في العبادة، وانحراف في السلوك وضعف اجتماعي وتشتت سياسي. 

منهجية التلقي تعني لا مرجع لنا إلا القرآن وما صح من السنة، ومنهجية الفهم تعني لا فهم لنا إلا على طريقة فهم الصحابة وما أجمعوا عليه، وهكذا منهجية التطبيق والاختلاف والتقويم والمواقف. والانضباط بهذه المنهجية لا مجال فيه للاختيار، فهو واجب شرعي ومنصوص عليه، بل هو مرتبط بنيويا بهوية المسلم المتبع لمحمد عليه الصلاة والسلام.

كما أن الانضباط بهذه المنهجية عودة للسمو الحضاري الذي كنا عليه، لأنه يعيد تشكيل العقل المسلم بخريطة واضحة، تسهل الوصول لكل معالم الحياة والتعامل معها بمراد الوحي. وفي المقابل فإن التلقين بطريقة القالب، لايمكن فيها إلا سلوك طريق واحد، ومسار واحد في وقت واحد. (١٦)

-----------------------------



١) نقصد بالموقف النظري المجرد هو اتخاذ موقف بوصف عمل ما بالكفر أو شخص ما بالردة بالقول أو الكتابة فقط دون التحرك أو الدعوة لما يترتب عليه من أحكام

٢) يقول جون ستيوارت مل "فإذا انعقد إجماع البشر على رأي، وخالفه في هذا الرأي فرد واحد، ماكان حق البشرية في إخراس هذا الفرد، بأعظم من حقه في إخراس البشرية إذا تهيأت له القوة التي تمكنه من ذلك.
ورد ذلك في كتابه أسس اللبرالية السياسية، الفصل الثاني "في حرية الفكر والمناقشة"، ترجمة وتقديم وتعليق إمام عبدالفتاح إمام وميشيل متياس. للإطلاع على الكتاب على هذا الرابط.

٣) المقصود هنا هو تكفير الردة وهو إخراج من كان مسلما أو محسوبا على المسلمين من الملة وليس المقصود وصف من لا يدين بالاسلام أصلا كالنصارى واليهود والهندوس والبوذيين والملحدين بالفكر فهذا ليس محل نقاش. 

٤) يقصد بذلك مثلا وصف عمل معين بأنه كفر مثل إنكار شيء من القرآن أو الاستخفاف بآياته أو بمقام النبوة أو إنكار معلوم من الدين بالضرورة أو مولاة الكفار دون أن يحدد شخصا معينا. هذا يسمى تكفير مطلق ولا حرج فيه أبدا بشطر أن يكون موصوفا في الكتاب والسنة بأنه كفر. 

٥) الشروط هي العلم والإرادة والقصد والموانع هي الجهل والإكراه والتأويل، ولا يصلح لأي شخص أن يكفر الآخرين كما يشاء، بل لا بد أن يكون ذلك في مجلس القضاء أو على لسان عالم يعرف كيف يطبق مفهوم تحقيق الشروط وانتفاء الموانع حتى لا يصبح التكفير فوضى بين الناس.


٦) الحديث عند مسلم عن أبي سعيد الخدري قال ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان).

٧) ولذلك كان العصيان المدني الناجح من أقوى وسائل التغيير السلمي وهو نموذج من نماذج التغيير القلبي بالالتزام بالسلبية الكاملة تجاه الظالم الطاغية 

٨) الحديث الذي فيه هذه العبارة رواه مسلم عن بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال  "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي ، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ، ويقتدون بأمره ، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه ، فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه ، فهو مؤمن ، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".

٩) ومصداق ذلك ما جاء في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم "إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى:{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا}، وقال تعالى:{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم}، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب له؟ رواه مسلم.
١٠) ولهذا السبب كان قول كلمة الحق عند سلطان جائر أعلى درجات الجهاد كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنها أعلى درجات استحضار عظمة الله

١١) لاحظ التعبير النبوي في تحقيق هذا المعنى كما جاء في  " صحيح مسلم " من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة ، فلتدركه منيته وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ، ويأتي إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه . 

١٢) ولهذا نقرأ في القرآن ختم الآيات التي تتحدث عن أمور حياتية في الزواج والطلاق وحقوق الناس بصفات الله سبحانه: العليم القدير الكبير العزيز البصير السميع الغفور الرحيم الجبار المنتقم  الخ تأكيدا بأن الحياة كلها تحت رقابة الله وعلمه وبصره إضافة لكونها خاضعة لغضبه ورحمته. 

١٣) تمتع بمشاهدة محاضرة طه عبد الرحمن الفلسفة والأخلاق إضغط هنا

١٤) ولعل هذا مصداق قول الله سبحانه "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير".
فهذه مصادر المعرفة الثلاثة علم يعرفه الإنسان بنفسه وحواسه وهدى يهدي له غيره من البشر وكتاب منير مصدر غير بشري من عند الخالف نفسه.

١٥) أفضل من تحدث عن هذا الموضوع بن تيمية رحمه في كتابه العظيم درء تعارض العقل والنقل وكتابه نقض المنطق حيث راجع كلام كل الفلاسفة الذين قبله بمن فيهم فلاسفة العرب وفصل في الرد عليها بمنهجية تنقضها بمنطقهم هم وتؤكد مرجعية الوحي 
كتاب در تعارض العقل والنقل إضغط هنا.
كتاب نقض المنطق إضغط هنا.


١٦) من الكتب التي حاولت تأطير هذه المنهجية كتاب معالم الانطلاقة الكبرى لمحمد عبد الهادي المصري إضغط هنا.


مقالة منشورة في صحيفة التقرير.

السبت، 6 ديسمبر 2014

المرأة



ليس غريبا أن تكون قضية المرأة وموقعها في المجتمع وحقوقها وواجباتها مسألة مركزية في القلق الفكري الذي يسود العالم العربي والإسلامي.  ومثلما أدت ثورة الاتصالات والمعلومات إلى تغيير قوى المعادلة الفكرية فقد أدت كذلك إلى تدفق غير مسبوق لما يقال ويكتب وينشر عن المرأة المسلمة. (١)

ومما ضاعف هذا القلق الفكري، تداخل التاريخي والسياسي بالديني، مما جعل المسألة خاضعة لحساسيات اجتماعية ومداراة لدوائر معينة، أكثر منها مراعاة للانضباط الشرعي والمنطقي. ومع ضعف المرجعية والتشرذم الثقافي والاضطراب الفكري وما نتج عن هذا التدفق من ارتباك ولبس في المفاهيم، فلا بد من تحديد مجموعة من المسلمات التي يفترض أن لا جدال فيها. وتبقى مساحة النقاش بعد ذلك فيما هو خارج هذه المسلمات. وليس من الحكمة تكرار ما كتبه الكثير في الدفاع عن تكريم الإسلام للمرأة، فقد خدموا الموضوع خدمة بحثية متوسعة ويكفي في هذا المقال التأكيد على هذه المسلمات. (٢)

المرجعية فيما يخص المرأة مصدرها ليس الرجل
في الإسلام لا يوجد إلا مطلق واحد في المرجعية والتلقي، سواء في العقيدة أو الشعائر التعبدية أو العلاقات البشرية أو دور وموقع الرجل والمرأة في المجتمع. وبناء عليه فإن حقوق المرأة وواجباتها لا يقررها الرجل ولا المرأة بل يقررها هذا المطلق الوحيد وهو النصوص الشرعية التي مصدرها الوحي. 

والنصوص الشرعية يقصد بها القرآن وما صح من السنة، فلا مجال لعادات ولا تقاليد ولا تراكمات اجتماعية، ولا رأي فيلسوف ولا تجربة بشرية في السويد أو بحثا علميا في الأرجنتين. وحتى أقوال علماء المسلمين إنما يستدل لها ولا يستدل بها فهي ليست حجة بذاتها ولم يقل أحد بذلك. (٣)

التعامل مع النصوص لا يحتكره الرجل
المنهجية الدينية واضحة كذلك في أن تفسير النص الشرعي والاستدلال منه وتنزيله على الواقع ليس حكرا على الرجل، بل هو حق لكل مؤهل من الرجال والنساء. ومهما زعم المتنطعون فلا خلاف بين العلماء في أن لا فرق بين المرأة والرجل في حق تفسير النصوص والاستنباط منهما، وإصدار الفتاوى وتحديد المواقف الشرعية لمن ملك زمام هذا الأمر من الجنسين. (٤)

فإذا كان النص الشرعي هو المرجعية وليس الرجل، وإذا كان الرجل والمرأة متساويان في حق التعامل مع هذا النص، فلا مجال لاحتكار الرجل لتقرير مصير المرأة وحقوقها وواجباتها. وباستحضار هاتين القاعدتين نستنتج أن حقوق المرأة وواجباتها بمقياس الشرع في مقام أعلى من سلطة الرجل ونفوذه. ولا يستطيع الرجال أن ينسبوا هذا الاحتكار لأنفسهم في تحديد دور المرأة طبقا للدين، إلا في المجتمعات التي تختلط فيها المرجعية وترتبك المنهجية ولا يُعرف الحق فيها من الباطل. (٥)

التراكمات التاريخية والاجتماعية والدين
بعض التراكمات الاجتماعية والتاريخية تتجاوز كونها عادات وتقاليد إلى مشاعر واعتقادات، وتختلط في وجدان الناس مع المفاهيم الدينية حتى يظنها أغلب أعضاء المجتمع من الدين. ولأن محور البناء الاجتماعي هو علاقة الرجل بالمرأة، فإن قضية المرأة تصبح أكثر القضايا تأثرا بهذه التراكمات الاجتماعية. وقد لا تكون هذه التراكمات مخالفة لنصوص الشرع بشكل مباشر، لكنها تصطدم بقواعد الشرع العامة أو مبادئه الكلية وروح التشريع . 

بعض هذه التراكمات تترسخ بشكل قوي في الوجدان الشعبي لدرجة تعطيها هيبة لا يتجرأ أشجع العلماء والقيادات الاجتماعية والسياسية في مصادمتها أو إنكارها. هذه الهيبة أمر قابل للتصور ويعذر من يتحاشى مصادمتها، لكن هذا التحاشي لا يحولها لدين ولا أحكام شرعية . وحين يبرر أحد العلماء المتبوعين ترك إنكار هذه التراكمات فهذا موقف مقبول وله هامش شرعي، لكن حين يفتي بشرعية هذه التراكمات فهذا مفتئت على الله ورسوله ومعتد على الشرع. (٦)

القواعد الشرعية وسد الذريعة
نصت الشريعة على بعض المباحات تحديدا، لكن الغالبية العظمى من المباحات تحت القاعدة الشرعية العامة أن "الأصل في الأشياء الإباحة" ما لم يرد في تحريمها نص، أو يندرج تحريمها تحت قاعدة شرعية عامة. بعض هذه المباحات ربما تصبح في مكان معين وزمن معين وظرف معين وسيلة لمحرم فتكون حراما بذلك، ومن هنا تأسست القاعدة الفقهية المعروفة سد الذرائع. 

وليس المقام مناقشة هذه القاعدة بذاتها، فهذا شأن الأصوليين فيما بينهم، لكن لا بد من إثبات ثلاث حقائق تضبط استخدام القواعد الشرعية عموما، وسد الذريعة خصوصا :
الأولى لا يجوز توسيع استخدام الهامش المقصود بالقواعد الشرعية وتغليبها على النصوص الصريحة، وإلا فنحن أمام ابتداع لدين جديد. 
الثانية أن تطبيق القواعد الشرعية فيما ليس فيه نص مسألة اجتهادية خلافية لا يجوز لطرف إلزام المخالف في تطبيقاتها. 
الثالثة أن الاجتهاد في تنزيل القاعدة على قضية معينة، هو اجتهاد مصلحي لمنع مشكلة ما، ولا ينبغي اعتباره دينا بذاته فيه إثم وأجر. (٧)

المتفق والمختلف 
كل ما ثبت في الكتاب والسنة (دليلا ودلالة)  بخصوص المرأة وحقوقها وواجباتها فهذا لا مجال للخلاف فيه، أما ما لم يثبت فهو أمر يجوز فيه النقاش والأخذ والرد، ولكل من له القدرة على النظر في الأدلة أن يقول رأيه سواء فيما لم يرد فيه نص أو فيما تعددت فيه المعاني المستنبطة من النص. والقضايا الخلافية بخلاف معتبر لا يجوز لطرف أن يسفه الطرف الآخر أو أن يجرّم صاحبه أو أن يتهمه بالتخلف أو التحرر. (٨)

والعقول البشرية تختلف في قياس الأمور التي لم يحددها الشرع، أوالتي تركها الشرع لتقدير يتفاوت فيه البشر. ويجب أن لا يكون لدى المسلم حساسية في توسيع الخلاف في هذه القضايا، سواء في تكييفها الفقهي أو في تنزيلها على قواعد الشرع الكبرى أو في تقدير المصالح والمفاسد منها. وأيا كان الرأي الذي يختاره فريق، فعليه أن يقر أن اختياره تقدير بشري وليس دينا أو حكما من عند الله. 

كلاهما طرح مصطنع 
الطرح المعارض للإسلام في المجتمعات المسلمة تحت مسميات التطور والحداثة والمعاصرة، طرح مصطنع، لم يكن ليوجد ولم تكن المجتمعات المسلمة لتسمح له بالظهور، لولا أنه مدعوم بحماية سياسية، وفرض سلطوي واحتضان وتمكين من قبل القوى الغربية المهيمنة. والرد على هذا الطرح تحت مظلة عفاف المرأة فقط، رد ضعيف بل لا بد من حماية الهوية الإسلامية ذاتها من هذه الهجمة الكبرى، وتطهير بلاد المسلمين من الغزو الفكري كله قبل أي خطوة في الرد عليه. (٩)

والعكس صحيح، فقهر المرأة وحرمانها من حقوقها باسم الإسلام طرح مصطنع، سببه الجهل والظلم والطغيان السياسي، وهو الذي أدى للخلط بين التراكمات الاجتماعية والدين. والرد على هذا الطرح لا يكون بتبرئة الإسلام من هذا القهر والظلم في منصات إعلامية وثقافية، بل لا بد من إزالة الأسباب الأصلية وهي الجهل والظلم والطغيان السياسي. 

الدين هو الضامن قبل السلطة
حق المراة  في الإسلام مضمون بالدين نفسه، قبل أن يكون محميا بقوة السلطة والقانون، والرجال في المجتمع الإسلامي مأمورون  شرعا بأداء وضمان وحماية حق المرأة حتى لو قصرت السلطة في تأمين حقها. والتقصير في القيام بحق المرأة من قبل الرجال، ومن قبل مؤسسات المجتمع مخالفة شرعية وإثم قبل أن يكون مخالفة قانونية.

وغياب الحماية الدينية للمرأة، والاعتماد كليا على السلطة والقانون، يوجه المجتمع تلقائيا بسبب سلطة الرجل القوية، إلى الدوران حول الرجل في النفوذ، وحول المرأة في المتعة. والاعتماد الكلي على حماية القوانين، يفتح المجال لاستغلال الرجل لسلطته، ويحول المرأة إلى أداة متعة مجردة للرجل مهما بلغت القوانين من القوة في حماية ضعف المرأة. (١٠)


الرجل والمرأة والمساواة والاختلاف 
هذا الموضوع تحديدا كثر الكتابة عنه، وليس من الحكمة تكرار كلام الآخرين، لكن باختصار فإن الرجل والمرأة متساويان في البشرية والكرامة الإنسانية، والتكليف والمسؤولية وسبب الخلق والمآل بعد الممات، ولا تنقص المرأة في هذا التكريم شيئا عن الرجل. بل إن القرآن نص على أن المرأة خلقت من الرجل فكأنها نسخة منه "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" مما يعني أن البشر نتاج الجنسين وليسوا نتاج جنس واحد.

وأما ما جاء عن تفضيل للرجال "وللرجال عليهن درجة"، فهذا ليس مرتبطا بحب الله والقرب منه، بل هو تفضيل قدري بإمكانات معينة للرجل، وإلا فقد نص القرآن على تساوي الفرصة أمام الله من الجنسين " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ". وبذلك يكون هذا التفضيل القدري مثل تفضيل الغني على الفقير في قوله تعالى "" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " ومع ذلك لم تنفع الغني أمواله عند الله "" وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى". (١١)

------------------------------------
١) الكتب التي ألفت في قضية المرأة والإسلام كثيرة جدا، بعضها منضبط والكثير منها غير منضبط وضرت أكثر مما نفعت حتى لو كان كاتبها مجتهدا في الدفاع عن الدين. ونرفض أي محاولة لتقديم الإسلام ونظامه الاجتماعي بطريقة تجميلية وتحسينية لاسترضاء أصحاب المناهج البشرية، فلسنا بحاجة لذلك، وثقتنا بمنهجنا ثقة مطلقة وقناعتنا راسخة لا تقارن بها ثقة الآخرين بمناهجهم. وحين نتناول أي قضية، فإنما نعرف الحق فيها من مصدر رباني معتمدين على وحي مقطوع به، لا يرتقي إليه الشك، في منهجٍ لفهم الحياة والكون والإنسان، نعتبره حاكما على غيره، ومرجعا في تقويم غيره من المناهج والبشر. 

٢) كثير ممن يكتب عن المرأة يأخذ اتجاها في الكتابة دون الإشارة إلى هذه المسلمات الهامة، التي في نظري تزيل غموضا كبيرا خاصة نفي احتكار الرجل لتقرير حقوق المرأة. وحين يعتقد أصحاب المناهج البشرية أن منهجهم في النظر للحياة والكون والإنسان، هو خلاصة الجهد الذهني والفكري الذي تراكم عبر قرون، فإنهم مضطرون لأن يعترفوا أنه متغير، بخلاف منهجنا الذي نؤمن أنه صادر عن خالق البشر، ولذلك فهو ثابت ومستقر، لا يملك البشر تغييره ولا دور لهم فيه إلا التفسير والتمحيص والتنزيل على الواقع. ومهما كان الجهد البشري راقيا ومبدعا فلن يكون بحال منافسا ولا مقاربا لما يصدر عن خالق البشر. 


٣) حتى الأئمة الأربعة يقولون إذا وافق كلامنا كتاب الله وسنة رسوله وإلا فاضربوا به عرض الحائط. 

٤) اتفق العلماء على تحريم تولي المرأة للإمامة العظمى والقضاء، واختلفوا في بعض الولايات الأخرى، لكنهم جميعا اتفقوا على حقها في كل ما له علاقة بالعلم الشرعي من تفسير وتدريس واستنباط وفتيا إذا كانت مؤهلة. 

٥) صحيح أن الواقع تاريخيا ليس فيه إلا القليل من النساء، محدثات وعالمات ومفتيات مقارنة بالرجال، لكن هذه القلة لا تعني عدم أحقيتهن لذلك. 

٦) معظم مشاكل المرأة في بلدنا مرتبطة بهذه القضية، وهي الخلط بين التراكمات الاجتماعية والدين، وهذا منزلق وقع فيه الكثير من العلماء، الذين بالغوا في إضفاء صفة شرعية على هذه التراكمات.

٧) سد الذريعة توسع فيه المالكية، لكنها قاعدة معروفة في كل المذاهب، ويتفق علماء الأصول على مشروعيتها إنما يختلفون في التوسع في تطبيقها وهذا بحث موسع في الموضوع إضغط هنا.

٨) الخلاف المعتبر، هو الذي يتبنى فيه كل طرف موقفا فقهيا مبنيا على دليل ثابت باجتهاد سائغ في الفهم والاستنباط. وهذا بحث موسع في الموضوع إضغط هنا.

ومن نماذجه في قضية المرأة، الخلاف على كشف الوجه، فكلا الفريقين له أدلته المعتبرة، وفي كلا الفريقين علماء كبار، فلا يجوز لأي فريق احتقار الرأي الآخر ووصفه بالتخلف أو التحرر.

٩) بدأت ظاهرة الدعوة لتحرير المرأة المسلمة، سواء بلغة مناقضة صراحة للإسلام أو بلغة مغلفة بالدين، منذ بدايات الاستعمار في بلاد المسلمين، راجع كتابات قاسم أمين في نهاية القرن التاسع عشر. 

١٠) صحيح أن المجتمعات الغربية لم يبق لحماية المرأة فيها إلا القانون، لكن هذا لا يعني إن بلاد المسلمين في وضع أفضل فكثير منها لا دين ولا قانون يحمي المرأة. ولذلك فليس من الحكمة مخاطبة الغرب بمهاجمة وضع المرأة "السيئ" هناك، فوضع المرأة في كثير من بلاد المسلمين أسوأ. 


١١) هذا العقدة التي تعيشها مجتمعاتنا عن المرأة، لم تكن موجودة في المجتمع النبوي مطلقا، وكان فهم الصحابة بتساوي الرجل والمرأة في الإنسانية والتكليف والمسؤولية أمرا تلقائيا، لكن واحدة من الصحابيات (أم عمارة الأنصارية) تمنت أن يكون النص واضحا في تكليف النساء مع الرجال، فنزل قوله تعالى"إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما . " الأحزاب ٣٥، وهو تأكيد في أن الخطاب الشرعي مشترك للرجل والمرأة في التكليف والمسؤولية.

مقال سبق نشره في صحيفة التقرير.