الاثنين، 23 يونيو 2014

إيران الثورة.. مع أو ضد أمريكا؟



المبدئية والبراجماتية في السياسة الإيرانية والخطوة التالية لإيران



طالما وصفت إيران أمريكا بالشيطان الأكبر، وارتبط انطلاق الثورة الإيرانية بقوة العداوة لأمريكا، فهل يعتبر تفاهمها مع أمريكا ضد السنة في العراق خيانة لمبادئها وانقلابا على ثوابتها؟ هذا السؤال يمكن الإجابة عليه بالانتقال للإجابة على سؤال أكبر، وهو عن دور المبدئية مقابل المصلحية الواقعية (البراجماتية) في السياسة الإيرانية؟ والذي بدوره سيقودنا إلى معرفة معلومة أوسع، وهي حجم المسموح به براجماتيا في الفكر الشيعي عموما وفي ولاية الفقيه خصوصا. نستطيع من خلال دراسة هذه المعلومة الرجوع للسؤال الأول. في تسلسل منطقي ضروري لا يختزل المواقف أو يجتزئها.


هل هذا هو التعاون الأول مع أمريكا؟
التعاون الأمريكي الإيراني الحالي ضد أهل السنة في العراق، يحصل الآن بشكل مكشوف وبصوت مرتفع، لكن مثله حصل وتكرر كثيرا دون رفع الصوت. فقُبيل وخلال الغزو الأمريكي لأفغانستان كان هناك تنسيق (غير مباشر) بين الأمريكان والإيرانيين بسبب العدو المشترك (طالبان). وقد أوعزت إيران لتحالف الشمال بالقتال جنبا إلى جنب مع القوات الأمريكية ضد طالبان، وفي أكثر من مرة فتحت إيران مجالها الجوي لتنفيذ عمليات للطيران الأمريكي ضد طالبان والقاعدة. (1)
وعندما أعلنت أمريكا نيتها غزو العراق 2003، أوعزت إيران لكل الفصائل الشيعية بالتفاهم الكامل مع أمريكا. وأثناء الغزو طلبت إيران من السيستاني أن يفتي بعدم تعرض الشيعة للاحتلال. وبعد الغزو وقبل انطلاق المقاومة العراقية حصل بعض الصدام السياسي بين الحليفين (أمريكا وإيران)، ما لبث أن نُسي بعد انطلاق المقاومة العراقية، فعاد التفاهم بينهما، ووافقت أمريكا على إعطاء إيران اليد العليا في العراق. واستمر هذا التفاهم الكامل بين الإيرانيين والأمريكان بسبب خطر التيارات الجهادية السنية إلى أن وصل ذروته الآن. (2)
وفي مسار آخر كانت إيران بعد انطلاق الثورة تتهم دول الخليج بأنها عميلة لأمريكا وسوف تعاملها معاملة المتخندقين مع العدو. إلا أنها أدركت أن العداوة المعلنة لن تنفعها، فغيرت لغة الخطاب إلى لغة صداقة واحترام، وانفتحت اقتصاديا وسياسيا على أكثر من دولة، خاصة الكويت وقطر والإمارات رغم أنها مصنفة إيرانيا كجزء من المعسكر الأمريكي. 


هل كانت معاداة أمريكا في الأصل مبدئية؟
هذا الاستعداد للتفاهم الكامل مع أمريكا لمواجهة الإسلام السني في العراق وافغانستان يعيدنا إلى سؤال أهم: هل كانت معاداة أمريكا في الأصل مبدئية؟ بعبارة أخرى هل كان ما بذلته إيران في تنفيذ سياسة معادية لأمريكا، من بينها صناعة حزب الله ومحاربته إسرائيل أكثر من مرة ثم دعمها لحماس، هل كان عملا مبدئيا؟ الثورة السورية المباركة تجيبنا أن أمريكا وإسرائيل بالنسبة لإيران أمر ثانوي، إذا كان الجهاد السني هو الخطر المشترك. وليس سرا أن أمريكا وإسرائيل راضيتان عن مشاركة إيران وحزب الله في سوريا، والاعتراضات الشكلية يدحضها الواقع المخالف. ولكن يبقى السؤال: لماذ أنشأت إيران حزب الله في لبنان وأزعجت إسرائيل كثيرا ودعمت حماس ماديا؟ أليس هذا عملا مبدئيا؟.
المطلع على تفاصيل السياسة وآلية القرار الإيرانية، يدرك أن إنشاء حزب الله ودعم حماس مرتبط باستراتيجية أمنية قومية، أكثر من ارتباطه بايديولوجيا. فإيران ما بعد الثورة ترى نفسها دولة خارج النفوذ الأمريكي ولها قرارها المستقل، وتعلم أن أمريكا لن تسمح لها بهذه الاستقلالية، ولا حل لمنع أمريكا من إزعاجها، إلا بحيل سياسية وعسكرية واستخباراتية وأمنية تردع الأمريكان عن اجبار إيران على الخضوع. من ضمن هذه الحيل الانفتاح على روسيا والصين والتفاهم مع دول أوربا، وتقوية الدفاعات الإيرانية الخ. لكن من أقوى هذه الوسائل إيذاء أمريكا من خلال خاصرتها في المنطقة (إسرائيل)، عن طريق دعم حماس، وجعل إسرائيل تحت مرمى صواريخ حزب الله. فالقضية إذا ليست نصرة لفلسطين كمبدأ، بل هي التفاف أمني على أمريكا وإتيانها من "اليد الي تؤلمها".
والمتأمل في النشاطات الثقافية والإعلامية والدينية الشيعية الحالية في العراق، يرى التخلي عن القضية الفلسطينية وشطبها من الضمير الشيعي بالكامل. أما الأدبيات الإيرانية فالراصد الذكي يرى أنها متكلفة مصطنعة، لتكون كافية لتبرير مواجهة إسرائيل ومن ثم أمريكا وليس لذاتها كقضية إسلامية مقدسة.


سياسة إيران براجماتية، لا بل هي مبدئية!!!
هذا التحليل السياسي يعطي انطباعا عاجلا بأن إيران دولة مصلحية براجماتية أكثر منها مبدئية ايديولوجية، لكن هل هذه هي الحقيقة؟ لا يمكن معرفة الحقيقة إلا بالانتقال من النظرة السياسية إلى التأمل الفكري المذهبي، لنرى أين تنتهي الأيديولوجيا وأين تبدأ البراجماتية. وإذا ما بذلنا بعض الجهد الفكري في هذا التأمل، فسوف نرصد ثلاث أسباب تجعل الفاصل بين المبدئية والبراجماتية غير موجود، لأن ما يبدو براجماتيا هو في الأصل جزء من المنهجية الإيرانية المقبولة مبدئيا. 


السبب الأول: إيران دولة قومية (قطرية)
لا يوجد في الموروث الفقهي الشيعي ما يمكن أن يعتمد عليه في بناء الدولة ورسم العلاقات الدولية، وبناء عليه لا مفر من الاعتماد على مفهوم الدولة القومية الحديثة لإقامة إيران كدولة بعد الثورة. ورغم أهمية المذهب الشيعي الإثنا عشري في إنشاء إيران الثورة، فإنها في حقيقتها دولة قومية (قطرية) ترسم سياستها بالمنظار القومي، كدولة مستقلة ذات سيادة ولها مصالح أمنية قومية عليا. لا يعني هذا التقليل من أهمية المذهب ولا تساهل إيران في نشره وخدمته، لكن يبقى المذهب خادما لمصالح إيران القومية وليس العكس. ومن المفارقة ما ذُكر أعلاه، أن تكليف حزب الله والميليشيات العراقية بالقتال في سوريا، ثم مشاركة الحرس الثوري في القتال في العراق هو خدمة للأمن القومي الإيراني أكثر منه خدمة للمشروع المذهبي. والدفاع عن المصالح القومية العليا عند البعض قضية مبدئية لكنها عند من يقدم الدين والمذهب براجماتية مصلحية وبهذا تتداخل البراجماتية والمبدئية. وحين نتحدث عن الدولة القومية فإن المقصود هو "القطرية" تحديدا بالمفهوم الحديث للدولة، وليس القومية الفارسية مع أن الأخيرة لها دور كبير في السيكولوجيا الإيرانية والتوجه السياسي.


السبب الثاني: "ولاية الفقيه" ذاتها مشروع براجماتي 
الأساس الفكري الذي نشأت إيران الثورة عليه هو مبدأ ولاية الفقيه، وهو ذاته مشروع براجماتي استخدمه الخميني كوسيلة للتخلص من السلبية السياسية في الأدبيات الشيعية. فمرويات الفكر الإثناعشري المنسوبة للأئمة لا تشتمل إلا على مبدأ انتظار المهدي، والاعتماد عليها يعني استحالة التحرك السياسي من أساسه. محاولات الاجتهاد في الفقه الشيعي لا تخلو من "ابتداع" مشاريع سياسية محدودة وحشرها في المشروع الشيعي، لكنها لا تصمد أمام الزخم الهائل للمرويات التي تناقض ذلك. وهذا ينسحب على نفس نظرية ولاية الفقيه التي كانت موجودة قبل الخميني، ولم تترجم إلى مشروع عملي لنفس السبب. الخميني نجح في تحويل ولاية الفقيه لمشروع سياسي، لأنه استغل الظروف المواتية واحتقان الشعب ضد الشاه، فكان طرحه لها براجماتيا واقعيا وليس طرحا نظريا مصادما للمرويات. هذا الدور البراجماتي البنيوي لولاية الفقيه في تأسيس إيران الثورة، جعل البراجماتية والمبدئية متداخلتان بالضرورة. (3)


السبب الثالث: التقية بوابة نفسية واسعة للبراجماتية 
رغم الخلاف على مفهوم التقية لا ينكر أحد من الشيعة أن التقية ركن من أركان التشيع، وفيها جانب براجماتي كبير. وقد يُعترض بأن الشيعة صارت لهم دولة وقوة، ويفترض أنهم لم يعودوا بحاجة للتقية، فهل بقى للتقية هذا الدور في إفساح المجال للبراجماتية؟ يجاب على هذا الاعتراض بنقطتين، أولاً أن إيران لا تتعامل مع وضعها الداخلي فقط بل تتعامل مع توازنات إقليمية وعالمية تلعب فيها التقية دورا كبيرا. ثانياً تربية الشيعي على مبدأ التقية يضفي عليه حالة نفسية، تجعله -فردا كان أو جماعة أو دولة- في حالة أكثر استعداداً للبراجماتية ممن لا يؤمن بها. هذا الاستحضار للتقية يتحول إلى منصة نفسية للقرار البراجماتي، ومن ثم قبوله ضميرياً وتحويله إلى قرار مبدئي. وهكذا تصبح التقية الدينية آلية لأدلجة المصالح والقرارات التي في أصلها مخالفة للمبادىء، ومن ثم تتداخل الأيدولوجيا والمصالح بطريقة متشابكة.(4)
لهذه الأسباب لا يبقى معنى للسؤال ما دام تحقيق المصالح ذاته جزءا من المبدأ، وما دامت المرجعية النصية تسمح لمفهوم المصلحة أن يتمدد بلا حدود. هذا ليس تمرينا ذهنيا في الوصول لحل لغز نادر، بل هو محاولة لمعرفة طريقة تفكير صاحب القرار الإيراني واستشراف خطوته التالية. وبناء على هذا التحليل فإن دور الهوية والعقلية الفارسية، وطريقة الحوزة الإيرانية في توسيع هامش المذهب لصالح الدولة أقوى من المذهب نفسه. وتبعا لذلك يستطيع المراقب -في الجملة- توقع ما تنوي إيران الإقدام عليه تجاه الأزمة العراقية وغيرها من الأزمات.
------------------------------------------------------------------------------------

(1) للمزيد من التفاصيل (اجتماعات بون للتنسيق ضد الطالبان) هنا و هنا
(2) لمزيد من التفاصيل عن الاجتماعات الثلاثية أمريكا/العراق/إيران بعد احتلال العراق (في منتصف الصفحة) هنا
(3) بحث موسع عن تاريخ ولاية الفقيه وكيف تمكن الخميني من تفعيله عمليا بعد أن لم ينجح أحد قبله هنا
(4) لمزيد من التفاصيل عن التقية من موقع الشبكة الإمامية هنا

مقالة سبق أن نشرت في جريدة التقرير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق