الخميس، 11 سبتمبر 2014

"ذهنية الإرهاب لماذا يقاتلون بموتهم" لجان بودريار




ذهنية الارهاب

جان بودريار 




لقد شهدنا من الأحداث الجسام العالمية، من موت (الأميرة) ديانا إلى مباريات كأس العالم في كرة القدم – أو الأحداث العنيفة والواقعية، من الحروب إلى حروب الإبادة الجماعية. أما من الأحداث الرمزية ذات الصفة العالمية، أي ليس فقط ذات الشيوع الإعلام العالمي، تلك التي تودي بالعولمة، ذاتها، إلى الإخفاق، فلم نشهد أيّاً منها. طوال فترة ركود التسعينات، كان السائد هو عطالة الحوادث (بحسب تعبير الكاتب الأرجنتيني ماسيدونيو فرنانديز) وإذا بتلك العطالة تنقضي. فقد علقت الحوادث إضرابها، حتى أننا جعلنا، مع عمليات نيويورك ومركز التجارة العالمي الإرهابية وأثرها، حيال الحدث المطلق، أم الحوادث، الحدث المحض الذي يجمع في صلبه كل الحوادث التي لم تحدث قط.


في إثره، اهتز رهان التاريخ والقوة، لا بل اهتزت أيضاً شروط التحليل.

ينبغي التريث، لأن الأحداث إذا ركدت وجب استشراف ما يليها والسعي بأسرع منها، أما إذا تسارعت فوجب عندئذ التريث دونها، من دون أن يؤدي ذلك بنا إلى الغرق في ركام الخطب وسحابة الحرب، محتفظين، نصب أعيننا، بالسرعة الخاطفة للصور التي لا تنسى.

كل الخطب والتعليقات تتكشف عن قدر هائل من تصريف الانفعال حيال الحدث نفسه وحيال الفتنة التي يولدها. فالشجب الأخلاقي والاتحاد المقدس ضد الإرهاب هما بحجم التهلّل الاستثنائي لمشهد تدمير هذه القوة الفائقة العالمية، لا بل، رؤيتها، على نحو ما، وهي تدمر نفسها بنفسها، كأنها ترتكب انتحاراً مشهوداً.

ذاك أنها، نظراً لقوتها التي لا تحتمل، هي التي أججت كل هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم كله، وهي، تالياً، التي (من دون أن تعلم) هذه المخيلة الإرهابية التي تسكننا جميعاً.

أن نكون حلمنا جميعاً بهذا الحدث، أن يكون العالم بأسره قد حلم به، لأن أحداً لا يسعه ألا يحلم بدمار أي قوة بلغت من الهيمنة ما بلغته، هو أمر لا يتقبله الوعي الأخلاقي الغربي، لكنه حقيقة، وهو حقيقة بحجم العنف المؤثر (العاطفي) لكن الخطب التي تسعى لمحوه.

إلى حد ما، هم الذين ارتكبوا الفعلة، لكننا نحن الذين أردناها. وإذا لم ندرك ذلك يفقد الحدث كل بعده الرمزي، فيبدو إذ ذاك، حادثة محضة، وفعلاً مجانياً محضاً، ثمرة تهيؤات إجرامية لبضعة متعصبين، يكفي القضاء عليهم وإزالتهم من الوجود، والحال أننا نعلم جيداً، أن الأمر ليس كذلك.

ومن هنا ذلك الهذيان المضاد للخوف سعياً وراء تعزيم الشر: لأن الشر موجود أينما كان، كموضوع غامض لرغبتنا. لولا هذا التواطؤ الدفين لما كان للحدث الوقع الذي كان له، وفي استراتيجيتهم الرمزية يدرك الإرهابيون، بلا ريب، أنهم يستطيعون الاتكال على هذا التواطؤ المضمر.

هذا أمر يتعدى بكثير مجرد الحقد على قوة عالمية مسيطرة يبديه المحرومون والمستغلون، أولاء الذين هبطوا في الجهة الخطأ من النظام العالمي. فهذه الرغبة الخبيثة كامنة حتى في ألباب الذين يشاركون في منافع هذا النظام العالمي . ذلك أن الحساسية حيال كل نظام نهائي، حيال كل قوة نهائية، هي لحسن الحظ شمولية. وكان البرجان التوأمان لمركز التجارة العالمي يجسّدان، أكمل تجسيد، ولأنهما توأمان بالذات، هذا النظام النهائي.

لا حاجة إلى نزعة موت أو تدمير، ولا حتى إلى مؤثرات غير سوية. فمن صلب المنطق، والحتم أن يؤجج تفاقم قوة القوة، الرغبة في تدميرها. وأن تكون شريكة في دمارها الخاص. عندما انهار البرجان تولد شعور بأنهما يردان على انتحار الطائرتين الانتحاريتين بانتحارهما الخاص، قيل: "الله نفسه لا يسعه إعلان الحرب على نفسه" فليكن معلوماً، إنه بلى، يستطيع.

فالغرب، وقد تصرّف كما لو أنه في موقع الله (ذي القدرة الإلهية والشرعية الأخلاقية المطلقة) يغدو انتحارياً ويعلن الحرب على نفسه.

إن أحلام الكوارث التي لا تحصى عدداً تشهد على هذا الاستيهام الذي تعزّمه، بالطبع، بالصورة إذ تُغرق كل هذا بالمؤثرات الخاصة. غير أن الجذب الشمولي الذي تمارسه على غرار البورنوغرافيا، يُظهر أن الانتقال إلى الفعل وشيك دائماً – ذلك أن إغواء التنكر لكل سستام يتعاظم كلما دانى الأخير حد الكمال أو القوة المطلقة.

وبأي حال، الأرجح أن الإرهابيين (كما الخبراء) لم يتوقعوا انهيار البرجين التوأمين الذي مثّل، أكثر بكثير من ضربة البنتاغون، الصدمة الرمزية الأشد. لقد شهد الانهيار الرمزي لسستام بأكمله جراء تواطؤ غير مرتقب وكأنه بانهيارهما من تلقائهما، كأن بانتحارهما هذا، انضم البرجان إلى اللعبة لكي يبلغ الحدث تمامه.

على نحو ما، إنه السستام بأكمله الذي، لهشاشته الداخلية، يعين تمام الفعل الابتدائي، فكلما تركز السستام عالمياً بحيث لا يشكل، في حده الأقصى، سوى شبكة واحدة، ازداد تعرضه (للمخاطر) من نقطة واحدة (لقد استطاع قرصان انترنت فيلبيني عبر حاسوبه المحمول، أن يطلق فيروس "I Love You " الذي جاب العالم مخرباً شبكات بأكملها). هنا ، كانوا ثمانية عشر انتحارياً تمكنوا، مسلحين بالسلاح المطلق للموت مشفوعاً بالكفاية التكنولوجية، من افتعال سيرورة كارثية جامعة.

عندما يكون الموقف مُحتكراً، على هذا النحو، من قبل القوة العالمية، وعندما نكون حيال هذا التركيز المذهل لكل وظائف الآلية التكنوقراطية والفكر الأحادي، فأي سبب آخر يمكن سلوكه غير التحويل الإرهابي للموقف؟ إن السستام نفسه هو الذي ولّد الشروط الموضوعية لهذا الرد العنيف المباغت. فباستئثاره بكل الأوراق، يُرغم الآخر على تغيير قواعد اللعبة. والقواعد الجديدة ضارية، لأن الرهان ضارٍ، فعلى سستام تفرض قوته المفرطة بالذات تحديداً غير قابل للحل، يرد الإرهابيون بعمل نهائي يكون عوضه، هو أيضاً، مستحيلاً. إن الإرهاب هو الفعل الذي ينشئ خصوصية لا راد لها في لب سستام من التبادل المعمم. كل الخصوصيات (الأجناس، الأفراد، الثقافات) التي بذلت بموتها عوض قيام دورة تبادل عملي تحكمها قوة واحدة، تثأر اليوم لنفسها عبر هذا التحويل الإرهابي للموقف.

رعب مقابل رعب. ولم يعد هناك، وراء كل هذا، أي بعد أيديولوجي، لقد أصبحنا بعيدين جداً من كل أيديولوجيا وسياسة.

ذلك أن الطاقة التي تغذي الرعب لا تعبّر عنها أيديولوجية ولا أي قضية حتى ولو كانت إسلامية. إذ لم يعد الأمر منوطاً حتى بتحويل العالم، بل يهدف (كما الحركات الهرطوقية في زمانها) إلى إشاعة الراديكالية عبر التضحية في حين أن السستام يهدف إلى تحقيق ذلك عبر القوة.

الإرهاب، كالفيروس، ماثل في كل مكان، هناك حقن عالمي متواصل للإرهاب الذي هو كالظل الملازم لكل سستام سيطرة، مهيأ، أينما كان لأن يصحو كعامل مزدوج. لم يعد هناك خط فاصل كفيل بالإحاطة به، إنه في لب هذه الثقافة التي تحاربه، والشرخ المرئي (والحقد) الذي يجعل على المستوى العالمي، المستغلين والمتخلفين في مواجهة العالم الغربي يرفد، سراً، الشرخ الداخلي في السستام المسيطر. باستطاعة هذا الأخير أن يجبه كل تضاد مرئي. ولكن ماذا عن الآخر، ذي البنية الحموية (الفيروسية) - كأن كل جهاز سيطرة يعزز الجهازية المضادة له، ضد هذا الشكل من الارتكاس شبه الآلي لقوته الخاصة، لا يستطيع السستام أن يفعل شيئاً. والارهاب هو الذبذبة الصادمة لهذا الارتكاس الصامت.

لا يتعلق الأمر إذاً لا بصدام حضارات ولا بصدام أديان، كما يتعدى بكثير الإسلام وأميركا اللذين تجري المحاولات لحصر النزاع فيهما لتوليد وهم مجابهة مرئية ووهم حلّ بالقوة. صحيح أن في الأمر تضاداً أساسياً، لكنه تضاد يُبين، عبر طيف أميركا (التي ربما كانت المركز السطحي، لكنها ليست، بمفردها، تجسيد العولمة) وعبر طيف الإسلام (الذي، هو أيضاً، ليس تجسيد الإرهاب)، أن العولمة المنتصرة تخوض صراعاً مع ذاتها. وفي هذا المعنى يمكننا الحديث عن حرب عالمية، ليست ثالثة، بل رابعة وهي الوحيدة العالمية حقاً، لأن رهانها هو العولمة بالذات. الحربان العالميتان الأوليتان كانتا مطابقتين لصورة الحرب الكلاسيكية. الأولى أنهت تفوق أوروبا والعهد الكولونيالي. والثانية أنهت النازية. الثالثة، التي جرت بالفعل، تحت ستار الحرب باردة، وحرب رادعة، أنهت الشيوعية. ومن حرب إلى أخرى كنا نتقدم، كل مرة، خطوات أبعد في الطريق إلى نظام عالمي وحيد. وها إن هذا الأخير وقد بلغ اليوم، منتهاه، يخوض صراعات مع القوى المضادة المنتشرة حيثما كان في قلب العالمي نفسه، وفي كل التشنجات الراهنة. حرب كسرية لكل الخلايا، لكل الخصوصيات التي تتمرد في هيئة أجسام ضدية. مجابهة، عصية على الادراك المباشر بحيث إنها تقتضي من حين إلى حين، إنقاذ فكرة الحرب عبر مسرحات مشهدية من قبيل مسرحة حرب الخليج وحرب أفغانستان اليوم. لكن الحرب العالمية الرابعة تجري في مكان آخر. إنها ما يُقلق كل نظام عالمي، وكل سيطرة هيمنية - فلو كان الاسلام مسيطراً على العالم لنشط الإرهاب ضد الإسلام. ذلك أن العالم هو نفسه الذي يقاوم العولمة.



الإرهاب لا أخلاقي. وحدث المركز العالمي للتجارة، هذا التحدي الرمزي، هو لا أخلاقي، ويرد على عولمة هي الأخرى لا أخلاقية، إذاً، فلنكن نحن أيضاً لا أخلاقيين، وإذا أردنا أن نفهم شيئاً فلنذهب إلى ما وراء الخير والشر. ولنحاول، وقد قُيّض لنا أن نشهد حدثاً لا يتحدى الأخلاق وحسب، بل كل أشكال التأويل أيضاً، أن نمتلك فهماً للشر. جوهر المسألة يكمن ها هنا: في التفسير الخاطئ كليا الذي أنتجته الفلسفة الغربية، فلسفة الأنوار، لمسألة الخير والشر. نحن نعتقد أن تقدم الخير أي ارتقاءه بالقوة في الميادين كافة (العلوم، التقنيات، الديمقراطية، حقوق الانسان) يتماشى مع هزيمة الشر وتقهقره. إذ يبدو أن أحداً لم يدرك أن الخير والشر يرتقيان بالقوة في الوقت نفسه ووفق الحركة نفسها. وانتصار أحدهما لا يؤدي إلى زوال الآخر، بل العكس تماماً. غالباً ما يُنظر إلى الشر، من الناحية الميتافيزيقية، بوصفه هفوة طارئة، غير أن هذه المسلّمة التي تشتق منها كل أشكال الإثنينية في الصراع بين الخير والشر، هي مسلّمة باطلة. الخير لا يقلل من حجم الشر، والشر لا يقلل من حجم الخير: إن أحدهما لا يختزل الآخر، وصلتهما لا فكاك منها. ففي الجوهر لا يقدر الخير أن يحبط الشر إلا بتخليه عن كونه خيراً، لأنه، باستئثاره بالحكر العالمي للقوة إنما يتسبب بشرارة لإشعال عنف موازٍ.

في العالم التقليدي، كانت لا تزال هناك موازنة بين الخير والشر، وفق علاقة جدلية تضمن على الرغم من تقلبات الظروف توتر العالم الأخلاقي وتوازنه - كما كانت المواجهة، خلال الحرب الباردة، بين القوتين العظيمتين تضمن توازن الرعب. إذاً لا تفوق لأحد على الآخر. ويختل هذا التوازن عند الشروع بتعميم كلي للخير (هيمنة الإيجابي على أي شكل من أشكال السلبية، استبعاد الموت وكل قوة محتملة العداء - انتصار قيم الخير دائماً أبداً). عندئذٍ يختل التوازن ويصبح كأن الشر قد استعاد استقلالية خفية، نامياً على نحو أسي، توسعي.

مع الفارق الملحوظ، نقول إن هذا يشبه ما جرى في النظام السياسي مع زوال الشيوعية والانتصار العالمي للقوة الليبرالية: فعندها فقط برز عدو شبحي، حقنت به أرجاء الكرة الأرضية كافة، منسلاً من كل صوب كفيروس، منبثقاً من كل فجوات القوة. إنه الإسلام. لكن الاسلام ليس سوى الجبهة المتحركة لبلورة هذا التضاد. فهو (التضاد) في كل مكان، ويداخل كل واحد منّا. إذاً، رعب ضد رعب. لكنه رعب غير موازٍ، وهذا اللاتوازي هو الذي يجعل القوة العالمية الاعظم بلا حيلة كلياً. ففي غمرة صراعها مع ذاتها لا يسعها إلا أن تغوص في منطقها الخاص بموازين القوى، عاجزة عن الاتيان بأي دور على أرضية التحدي الرمزي والموت الذي باتت تجهل عنه أي شئ لأنها ألغته من ثقافتها.

إلى اليوم، لقد نجحت هذه القوة المتممة، إلى حد بعيد، في استيعاب وحلّ كل أزمة، وكل سلبية، موجدة بذلك وضعاً محبطاً في جوهره، ليس فقط في أعين معذبي الأرض، بل أيضاً في أعين الميسورين وذوي الحظوة، في رخائهم التام.

الحدث الأساسي هو أن الإرهابيين قد كفوا عن الانتحار سدى، وهو أنهم يراهنون بموتهم الخاص على نحو هجومي وفاعل، وفق حدس استراتيجي هو، ببساطة، الحدس بهشاشة الخصم العائلة، وهشاشة سستام بلغ شبه كماله، وهو، لذلك، معرّض للأذى من أي شرارة.

لقد استطاعوا أن يجعلوا موتهم سلاحاً مطلقاً ضد سستام يحيا من استبعاده الموت، ومثاله هو "صفر من القتلى"، كل سستام يقوم على صفر من الموتى، هو سستام حصيلته عدم، وكل وسائل الردع والدمار لن تكون مجدية ضد عدو سبق له أن جعل موته سلاحاً هجومياً مضاداً. "ما همنا من القصف الأميركي !! إن رجالنا يتوقون للموت بقدر ما يتوق الأميركيون للحياة !". ومن هنا معادلة السبعة آلاف قتيل الذين تكبدهم، دفعة واحدة، سستام "صفر من القتلى".

هكذا إذاً، كل شئ هنا منوط بالموت، وليس فقط الانبثاق المفاجئ للموت عبر البث المباشر والزمن الواقعي، بل عبر انبثاق موت أكثر من واقعي بكثير: موت رمزي وشعائري - أي الحدث المطلق الذي لا راد له.

تلك هي ذهنية الارهاب..

الامتناع عن مهاجمة السستام بمعايير موازين القوى. فمثل هذا، هو المتخيل (الثوري) الذي فرضه السستام نفسه والذي لا تكتب له الحياة إلا إذا داوم على استدراج مهاجميه للقتال على أرض الواقع التي هي لطالما كانت أرضه. بل نقل الصراع إلى الدائرة الرمزية حيث القاعدة هي قاعدة التحدي والارتكاس والمزايدة. بحيث لا يكون ممكناً الرد على الموت إلا بموت مماثل أو أشد. تحدي السستام بعطاء لا يستطيع الرد عليه إلا بموته الخاص وانهياره الخاص.

إن فرضية الارهاب تقوم على أن السستام نفسه ينتحر رداً على التحديات المتعددة للموت والانتحار. ذلك أن لا السستام ولا السلطة ينجوان بنفسيهما من الفرضية الرمزية - وفوق هذا الشرك تتربع السانحة الوحيدة لهلاكهما. في هذه الحلقة المدوخة من التبادل المستحيل متناهية الصغر، لكنها تسبب جذبا، فراغا، وحملاً حرارياً هائلاً، حول هذه النقطة المتناهية الصغر، يتكثف السستام بأسره، سستام الواقع والقوة، وتُشل حركته، وينكفئ بفاعليته المفرطة.

إن تكتيك النمط الإرهابي يكمن في التسبب بواقع مفرط والتسبب بانهيار السستام من تلقائه تحت وطأة هذا الإفراط في الواقع. فكل سخرية الموقف، مقرونة بالعنف الذي تستحشده السلطة ينقلبان ضده، ذاك أن الاعمال الإرهابية هي في الوقت نفسه مرآة عاكسة ومضخمة لعنفه الخاص، ونموذج لعنف رمزي يمتنع عليه، ومرآة للعنف الوحيد الذي لا يستطيع ممارسته، عنف موته الخاص.

لذلك لا تستطيع القوة المرئية أن تفعل شيئاً ضد الموت المتناهي في الصغر، ولكن الرمزي، لفرد ما.

يجب أن نرضخ لحقيقة أن نوعاً جديداً من الارهاب قد ولد أخيراً، شكلاً جديداً من الفعل الذي يلعب اللعبة ويتقن قواعد اللعبة لكي يزعزع سياقها. فهؤلاء لا يكتفون بأنهم لا يقاتلون بأسلحة متكافئة، لأنهم يراهنون على موتهم الخاص وهو الأمر الذي لا يُجبه برد ممكن (إنهم جبناء)، بل تملكوا أيضاً كل أسلحة القوة المسيطرة. المال والمضاربة في البورصة، تكنولوجيا المعلوماتية، والطيران، البعد المشهدي والشبكات الإعلامية: لقد اكتسبوا كل ما توفره الحداثة والعالمية، من دون أن يغيروا الهدف القائم على تدميرهما.

والأدهى أنهم حتى استخدموا رتابة الحياة اليومية الأميركية كقناع وغطاء للعبة مزدوجة. ناموا في ضواحي أميركا، وقرأوا ودرسوا في وسط عائلاتها، قبل أن يستيقظوا بين ليلة وضحاها قنابل بشرية مؤقتة. إن دربتهم على تدبير هذه الحياة السرية ببراعة قد تكون إرهاباً يساوي إرهاب العمل الاستعراضي في 11 أيلول، لأنها تلقي الشبهات على أي فرد من الناس: ألا يعقل أن يكون أي إنسان مسالم إرهابياً محتملاً؟ وإذا تمكن هؤلاء من الإفلات من دون أن يلحظهم أحد فكل واحد منهم هو مجرم خفي ( وكل طائرة مشبوهة)، وقد يكون ذلك، في آخر الأمر، صحيحاً.

وربما كان ذلك مرتبطاً بشكل لا واعٍ من الإجرام المحتمل، المقنع، والمكبوت بعناية، لكنه دائماً قابل إن لم يكن للانبثاق فللاعتمال سراً لدى شهودنا أي شر. وعلى هذا النحو يتشعب الحدث إلى أدق تفاصيله – مصدراً لإرهاب ذهني أكثر تخفياً.

الفارق الجذري يكمن في أن الإرهابيين، إلى امتلاكهم أسلحة السستام، يمتلكون، علاوة على ذلك، سلاحا مميتاً: وهو موتهم الخاص. وإذا اختاروا أن يقاتلوا السستام بأسلحته هو، فسوف يتعرضون للتصفية على الفور. وإذا لم يقاتلوه إلا بموتهم لهلكوا جميعاً، بسرعة ممائلة، في تضحية لا طائل تحتها – ولطالما اتبع الارهاب هذه الطريقة إلى يومنا هذا (...) ولذا كان مصيره الفشل.

غير أن الأمور تختلف إذا ما قرنوا كل الوسائل الحديثة المتوافرة بهذا السلاح ذي القيمة الرمزية الطائلة. فهو سلاح يضاعف إلى ما لا نهاية القدرة على التدمير. وجمعهم بين هذه العوامل كلها (والتي تبدو في أعيننا متنافرة لا سبيل للجمع فيما بينها) هو الذي يمنحهم مثل هذا التفوق. أما استراتيجية الحرب "النظيفة"، التكنولوجية، فهي تبقى، في المقابل، مجانبة ذلك التجلي للقوة "الواقعية" غبر القوة الرمزية.

إن النجاح الاستثنائي لمثل هذه العملية يثير مشكلة، ولكي ندرك شيئاً منها علينا أن نتخلى عن رؤيتنا الغربية لنرى قليلاً ما الذي يجري في تنظيم هؤلاء الإرهابيين، وما يدور في رؤوسهم. ذلك أن هذا القدر من الفاعلية يفترض قدرة عالية على الحساب والعقلانية يشق علينا الاعتراف بأنها (القدرة) موجودة لدى الآخرين. وحتى لو توفرت، فهناك دائماً، كما يحدث في أي تنظيم أو جهاز سري، تسريبات وهفوات.

لذا نحسب أن سر مثل هذا النجاح يكمن في عوامل أخرى. الفرق أن الأمر لديهم ليس عقد عمل بل ميثاقاً وفريضة شعائرية، وهذه الفريضة بمنأى عن أي تخاذل أو فساد أو وهن. والمعجزة تكمن في القدرة على التكيف مع الشبكة العالمية، والمناقبية التقنية من دون أن يفقدوا شيئاً من هذا التواطؤ على الحياة والموت. فعلى الضد من العقد، لا يربط الميثاق بين أفراد – حتى "انتحارهم" ليس بطولة فردية، بل هو فعل شعائري جمعي يُمليه وازع مثالي. وقد أدى الجمع بين تركيبتين، تركيبة بنية عملانية وتركيبة ميثاق رمزي، إلى جعل عملً بمثل هذا الحجم ممكناً.

ما عدنا نمتلك أي معرفة بما يكون عليه الحساب الرمزي، كما في لعبة البوكر أو البوتلاتش: رهان أقل، لمحصلة أكبر. وهو تماماً ما حصل عليه الإرهابيون في عملية منهاتن والذي من شأنه أن يكون مثلاً إيضاحياً لنظرية الكاوس (الفوضى) الأصلية: صدمة أولية تسبب نتائج لا تحصى، في حين أن الانتشار الأميركي الهائل (عاصفة الصحراء) لا يحقق سوى نتائج متهافتة – وينتهي الإعصار أشبه برفة جناحي فراشة.

لقد كان الإرهاب الانتحاري إرهاب فقراء، أما هذا فهو إرهاب أثرياء. وهذا ما يخيفنا بنحو خاص: هو أنهم أصبحوا أثرياء (يمتلكون كل الوسائل) ولم يتخلوا عن رغبتهم في هلاكنا. طبعاً، بحسب سلم قيمنا، إنهم يخادعون : ليس من أصول اللعبة أن يكون الموت رهان اللعبة. غير أنهم لا يبالون والقواعد الجديدة للعبة ليست ملكنا.

كل الوسائل مشروعة لإفقادهم أفعالهم كل اعتبار. ومن بينها نعتهم بـ"الانتحاريين"، و"الشهداء"، لكي نسارع، على الأثر، إلى القول إن الشهادة لا تثبت شيئاً، وإنما لا صلة لها بالحقيقة، بل حتى إنها (بحسب نيتشة) العدو الأول للحقيقة, من المؤكد أن موتهم لا يثبت شيئاً، ولكن ليس هناك ما يثبت في سستام تظل فيه الحقيقة عصية على الإدراك - أو أننا، نحن، من يزعم امتلاكها؟ ومن ناحية أخرى، إن الحجة ذات الشبهة الأخلاقية البادية قابلة للرد. فإذا كانت الشهادة الطوعية للانتحاريين لا تثبت شيئاً فإن الشهادة غير الطوعية لضحايا العملية الارهابية لا تثبت شيئاً هي الأخرى، وفي جعلها حجة أخلاقية (من دون حكم على عذابهم وموتهم) شبهة من عدم المراعاة والإباحة.

حجة أخرى تنم عن سوء نية: هؤلاء الارهابيون يقايضون موتهم بمطرح في الجنة. فعملهم ليس مجانياً، ولذلك ليس عملاً صادقاً، كأن القائل يقول إن العمل لا يكون مجانياً إلا إذا كانوا لا يؤمنون بالله، وإلا إذا كان الموت بلا رجاء، كما هو الموت بالنسبة لنا (مع أن الشهداء المسيحيين كانوا يقيمون حساباً مختلفاً عن هذه المعادلة السامية). إذاً، هنا أيضاً، لا يقاتلون بأسلحة متكافئة لأن لهم الحق في الخلاص، وهذا ما لا نأمل فيه. وهكذا نقيم نحن الحداد على موتنا، فيما هم يستطيعون أن يجعلوا منه رهاناً بأسمى المعاني.

والواقع أن كل هذا: السبب، البرهان، الحقيقة، الجزاء، الغاية والوسائل، إنما هو شكل من أشكال الحساب النموذجية الخاصة بالغرب، حتى الموت نقومه بمعدلات الفائدة، وبتعابير النسبة بين النوعية والسعر. حساب اقتصادي هو حساب المعوزين الذين ما عادوا يجرؤون على تحديد السعر.

ما الذي قد يحدث - باستثناء الحرب التي ليست، في حد ذاتها، سوى طبقة واقية تقليدية؟ يجري الحديث عن الارهاب البيولوجي، عن الحرب البكتيرية أو الارهاب النووي. غير أن شيئاً من هذا كله لا يمت بصلة إلى التحدي الرمزي، بل هو من قبيل الإبادة الصامتة، بلا مجد، بلا مخاطر، من قبيل الحل النهائي.

والحال أنه تفسير خاطئ للارهاب أن يُنظر إلى العمل الارهابي بوصفه منطقاً تدميرياً بحتاً. إذ يبدو لي أن موتهم الخاص لا ينفصل عن عملهم (وهذا، بالضبط، ما يجعل منه عملاً رمزياً) وليس على الاطلاق إبادة لا شخصية للآخر. كل المعنى كامن في التحدي وفي المبارزة، ما يعني أيضاً في علاقة ثنائية، شخصية، مع القوة الخصم. إنها هي التي أذلتك، وهي التي ينبغي أن تُذل. وليس فقط أن تُباد. يجب أن تُهان. وهذا أمر لا يتأتى مطلقاً من القوة العارية أو من إزالة الآخر. فهذا الآخر ينبغي أن يستهدف وأن يُصاب في سياق الخصومة. ففضلاً عن الميثاق الذي يربط ما بين الارهابيين أنفسهم، هناك ما يشبه ميثاق المبارزة مع الخصم. وهذا بالضبط، عكس الجبن الذي يُتهمون به، وبالضبط عكس ما فعله الأميركيون في حرب الخليج (ويستأنفونه حالياً في أفغانستان): هدف غير مرئي، وتصفية عملانية.

من كل هذه الحيثيات نستبقي أولاً، وبالدرجة الأولى، رؤية الصور. ويجب أن نحافظ على رسوخ هذه الصور في أذهاننا، وعلى فتنتها، لأنها، شئنا أم أبينا، مشهدنا البدائي. وربما تكون أحداث نيويورك، وفي الوقت الذي جعلت فيه الوضع العالمي جذرياً، قد رسخت صلة الصورة بالواقع. ففيما كنا حيال دفق متصل من الصور العادية ودفق متصل من الأحداث المزيفة، جاء العمل الارهابي على نيويورك ليبعث الصورة والحدث في وقت معاً.

من بين أسلحة السستام التي قلبوها عليه، استغل الارهابيون الزمن الواقعي للصور، ويثها العالمي الفوري. وقد تملكوها كما تملكوا المضاربة في البورصة، والإعلام الاليكتروني والنقل الجوي. ودور الصورة على درجة كبيرة من اللبس. لأنها في الوقت الذي تُعظم فيه الحدث، تتخذه رهينة. إنها تلعب دور التكثير إلى ما لا نهاية، وفي الوقت نفسه دور الإلهاء والتحييد (وهذا ما حصل فعلاً لحوادث 1968). وهذا ما نغفل عنه دائماً في معرض حديثنا عن "خطر" وسائل الاعلام.

الصورة تستهلك الحدث، بمعنى أنها تمتصه وتبذله للاستهلاك. ومما لا شك فيه أنها تكسبه تأثيراً غير مسبوق إلى الأن، ولكن بوصفه حدثاً - صورة.

ماذا إذاً عن الحدث الواقعي إذا كان الواقع يُحقن باستمرار بالصورة والسرد المتخيل والافتراضي؟ في الحالة التي نحن بصددها، ساد اعتقاد أن ما نراه (وبشئ من الارتياح ربما) إنما هو عودة للواقع وللعنف الواقعي في عالم افتراضي مزعوم. "انتهى عهد قصصكم الافتراضية - هذا أمر واقعي !" كما رأى فيه البعض انبعاثاً للتاريخ فيما وراء نهايته المعلنة. ولكن هل يفوق الخيال الواقع حقاً؟ وإذا بدا أنه كذلك، فلأنه امتصّ طاقة الخيال وصار هو نفسه خيالاً. حتى يمكننا القول إن الواقع يغار من الصورة ... وما يجري هو مبارزة بينهما، وسباق على من يكون، من بينهما، الأكثر تجاوزاً للخيال.

إن انهيار برجي المركز العالمي للتجارة أمر يفوق الخيال، غير أن هذا لا يكفي لكي نجعل منه حدثاً واقعياً. إن قدراً زائداً من العنف لا يكفي للإطلالة على الواقع. ذلك أن الواقع هو مبدأ، وهذا المبدأ أولاً فتنة الصورة (أما العواقب المبهجة أو الكارثية فهي متخيلة إلى حد بعيد، انطلاقاً من الصورة).

في هذه الحالة إذاً ينضاف الواقع إلى الصورة بوصفه جائزة رعب، بوصفه رعشة إضافية. ليس مرعباً وحسب، بل هو واقعي أيضاً. وعوض أن يكون عنف الواقع ماثلاً أولاً، ثم تنضاف إليه رعشة الصورة، تكون الصورة ماثلة أولاً، ثم تنضاف إليها رعشة الواقع.

أمر من قبيل خيال إضافي، خيال يفوق الخيال. كان بالار (بعد بورخيس) على هذا النحو يتحدث عن إعادة خلق الواقع بوصفه الخيال الأخير، الأكثر رعباً.

هذا العنف الإرهابي ليس هو، إذاً، إنبعاث شعلة الواقع، ولا انبعاث شعلة التاريخ. هذا العنف الإرهابي ليس واقعياً، إنه، في معنى من المعاني، أسوأ من ذلك: إنه رمزي، فالعنف في حد ذاته قد يكون عادياً وغير مؤذ. وحده العنف الرمزي مولد للفرادة. وفي هذا الحدث الفريد، في فيلم منهاتن الكارثي يتضافر في ذروتيهما عاملا الفتنة الجماهيرية في القرن العشرين: سحر السينما الأبيض، وسحر الإرهاب الأسود، ضياء الصورة البيضاء، ضياء الارهاب الأسود.

نسعى، بعد فوات الأوان، أن نحمّل الارهاب أي معنى، وأن نعثر له على أي تأويل. لكنه خلو من المعنى، ووحدها جذرية المشهد، وحدها قساوة المشهد هي المبتكرة، والمتعذر تبسيطها. إن مشهد الإرهاب يفرض إرهاب المشهد، وحيال هذا الافتتان اللاأخلاقي ( وإن كان يثير رد فعل أخلاقياً شمولياً) لا يملك النظام السياسي أن يفعل شيئاً. إنه مسرح القسوة خاصتنا، الوحيد المتبقي لنا - الخارق لكونه أقصى ما في المشهدي وأقصى ما في التحدي. وهو في الوقت نفسه النموذج الميكروسكوبي المعروض لنواة عنف واقعي مع احتمال تردد أصدائها إلى أقصى حد - أي أكثر أشكال المشهدية خلوصاً - ونموذج شعائري يجبه النظام التاريخي والسياسي بالشكل الرمزي النقى للتحدي.

أي مقتلة كانوا ليحظوا بغفرانها لو حبيت بمعنى، لو أمكن تأويلها كعنف تاريخي - فتلك هي المسلّمة الأخلاقية للعنف المقبول. وأي عنف كانوا ليحظوا بغفرانه، لو أنه جرى بعيداً من وسائل الإعلام ("الإرهاب ليس شيئاً يُذكر من دون وسائل الإعلام"). غير أن هذا باطل كله. ليس هناك استعمال "صالح" لوسائل الإعلام، فوسائل الإعلام هي جزء لا يتجزأ من الحدث، ومن الرعب، وقد تؤدي دورها في هذا الاتجاه أو ذاك.

إن الفعل القمعي يسلك المسار غير المرتقب نفسه الذي يسلكه الفعل الإرهابي، ولا أحد يعلم عند أي حد سيتوقف، والانقلابات التي ستليه. ما من تمييز ممكن، على مستوى الصور والإعلام، بين المشهدي والرمزي، ما من تمييز ممكن بين "الجريمة" والقمع. وانطلاقة هذا الارتكاس الخارجة عن أي سيطرة هي الانتصار الفعلي للإرهاب. وهو انتصار ظاهر في تشعبات الحدث وتسرباته الخفية - ليس فقط في الركود المباشر، في الاقتصاد والسياسة والبورصة والمال للسستام بمجمله، وفي الركود الأخلاقي والسيكولوجي الذي ينجم عنه، بل أيضاً في ركود سستام القيم، وأيديولوجيا الحرية بأكملها، والتداول الحر ... إلخ، التي طالما كانت مفخرة العالم الغربي، والتي تسلح بها هذا العالم لممارسة هيمنته على الأرجاء المتبقية من العالم.

إلى حد بدأت معه فكرة الحرية، وهي فكرة حديثة العهد وجديدة، بالاختفاء من العادات والضمائر، وبدأت العولمة الليبرالية بالتحقق في شكل معاكس بالحرف: في شكل عولمة بوليسية ومراقبة كلية، وترهيب أمني. إن الانفلات ينتهي إلى حد أقصى من ضوابط القسر، والتقييد يساوي ضوابط المجتمع الأصولي.

تراجع في الإنتاج، في الاستهلاك، في المضاربات، في النمو (ولكن ليس في الفساد طبعاً): فكل شئ يشير إلى أن السستام العالمي يتبنى انكفاءً استراتيجياً، ويجري مراجعة أليمة لقيمه، كرد فعل دفاعي، على ما يبدو حيال صدمة الإرهاب، ولكنها تستجيب في العمق لإيعازاته المضمرة - تنظيم قسري ناجم عن الفوضى المطلقة، لكنه يفرضه على نفسه، مستبطناً، على نحو ما، هزيمته الخاصة.

وجه آخر لانتصار الإرهابيين يكمن في أن كل الأشكال الأخرى للعنف وزعزعة استقرار النظام تتضافر لصالحه: إرهاب معلوماتي، إرهاب بيولوجي، إرهاب الانتراكس والشائعة، هذه كلها تنسب إلى بن لادن، حتى إنه صار بإمكانه أن يعلن مسؤوليته عن الكوارث الطبيعية. كل أشكال اللاتنظيم والتداول الشاذ مفيدة له. وحتى بنية التبادل العالمي المعمم تخدم التبادل المستحيل. كأنها الكتابة الآلية للإرهاب يرفدها باستمرار الإرهاب (غير المتعمد) للإعلام، وبكل ما يتوجب عليها من تبعات الهلع: فإذا كانت الاصابة، في قضية الانتراكس هذه كلها، تتم من تلقائها عبر التبلور الآني، على غرار محلول كيميائي، إذ يمس، مساً، إحدى الخلايا، فهذا يعني أن السستام بأسره قد بلغ كتلة حرجة تجعله عرضة لأي اعتداء.

ما من حل لهذا الوضع الحدي، خصوصاً بالحرب التي لا تقدم سوى موقف مسبوق تم اختباره سابقاً، بتدفق القوى العسكرية، والإعلام الشعبي، والإلحاح الإعلامي الذي لا طائل تحته، والخطب المواربة والمؤثرة، وبسط القدرات التكنولوجية ختى الإدمان. أي، باختصار، على غرار حرب الخليج، التي كانت هي اللاحدث، أو الحدث الذي لم يحدث.

ولعل هذا علة وجود الحرب: أن تستبدل حدثاً حقيقياً رائعاً، وفريداً وغير مرتقب بحدث مزعوم مكرر ومسبوق. لقد جاء العمل الإرهابي مطابقاً لمحورية الحدث بالنسبة لأنماط التأويل، في حين أن هذه الحرب الحمقاء عسكرياً وتكنولوجياً، مطابقة، على الضد من ذلك، لمحورية النمط بالنسبة للحدث، أي مطابقة لرهان مزيف لا مبرر لوجوده. إنها الحرب كاستكمال لغياب السياسة بوسائل أخرى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق