الأحد، 29 يونيو 2014

تحدي العلمانية


لم تبق دولة في العالم من أمريكا الشمالية إلى الجنوبية إلى أوربا وأفريقيا والصين والهند وروسيا واليابان وكوريا وبقية آسيا إلا وهي محكومة سياسة واقتصادًا وقانونًا بمرجعية علمانية، حتى لو لم تنص على ذلك[1]. وكثير من الذين يتصدون للمشروع العلماني يظنون أنهم يتعاملون مع ظاهرة فكرية عارضة تحمّس لها بعض المفكرين والمثقفين والفلاسفة، غير مدركين أنها منظومة شاملة متكاملة تهيمن على كل قطر، بل على النظام العالمي وتعطيه المرجعية في كل شيء.

العلمانية في وضعها الحالي ليست فكرة تبنّاها شخص أو خدمتها جماعة أو دولة، بل هي تراكم ضخم لجهود بشرية فكرية وعملية، تشكّلت على مدى مئات السنين وانتهت بالشكل الدارج حاليًا والذي فرض نفسه كمرجعية عالمية. هذا الناتج التراكمي الضخم يجعلها أكبر تحدٍ يواجه المشروع الإسلامي منذ انطلاقة الإسلام الأولى، بما يتفوق بكثير على الحملات الصليبية والغزو المغولي[2].


كيف ولماذا هيمنت العلمانية؟


لا يمكن التعامل مع هذا التحدي الضخم والمتمكّن والمسيطر بالتسطيح ولا بالاختزال، بل لا بدّ من رؤية عميقة ونظر فاحص لأسباب الهيمنة والتمكين. وإذا تجردنا في البحث فربما ننتهي إلى الأسباب التالية:


أولًا: المشروع العلماني يوفّر وعاءً واسعًا وطرحًا مشبِعًا وعمليًّا لمتطلبات الأركان الثلاثة في قيام الدول، وهي السياسة والاقتصاد والقانون، قابلًا للتبني كـ”نمط” أساسي للشعوب في مرجعيتها. وهذه النمطية هي التي جعلت العلمانية أساسًا ومرجعية لمعظم دول العالم، حتى تلك التي نصت في دساتيرها بأن “دين الدولة الرسمي هو الإسلام”. ربما تكون هذه النمطية مفروضة على دول شعوبها مسلمة ملتزمة، لكن الغالبية العظمى من الدول تتبنى العلمانية بشكل تلقائي حتى لو كان كلُّ سكّانها من ديانة واحدة بوذية أو هندوسية أو نصرانية.


ثانيًا: تمكّنت العلمانية بعد تراكم التجربة البشرية “العلمية” من إيجاد تفسير لكلّ ما كان يعتقد أن لا يفسره إلا الدين. الظواهر الكونية مثلًا تُفسّر بالقوانين الطبيعية التي وصفها علماء الطبيعية وفي مقدمتهم نيوتن، وما دام يمكن تفسير حركة الأجرام واحتراق الشمس وسطوع الضوء وسواد الظلام تفسيرًا ماديًّا، فلا حاجة للإله لتسيير الكون. أما أصل الحياة، ففُسر بنظرية داروين التي تحولت إلى أساس منهج علم الحيوان، ومنه إلى تدخلها في العلوم الاجتماعية عبر ما يسمّى الداروينية الاجتماعية، لا كما يعتقد البعض أنّها مجرد نظرية تنتظر الإثبات. وظاهرة المشاعر التي كان يعتقد أنها روحية بحتة تم ربطها بالدماغ والغرائز في علم النفس الحديث، فصار تفسيرها ماديًّا لا يحتاج لتفسير روحي أو ديني. وبقدر ما يستهجن المسلمون هذه التفسيرات العلمانية بسبب تماسك البديل الإسلامي، فإن تراث الديانات الأخرى لا يصمد أمام الطرح العلماني، بل يبدو متخلفًا مضحكًا.


ثالثًا: سهولة المشروع العلماني المتناهية في حل المشاكل العملية للبشر في تشكيلتهم الجماعية؛ فهو قائم على مفهوم غاية في البساطة والجاذبية، وهو انعدام الثوابت وغياب المحرمات. وكثير من المروجين للعلمانية لا يدركون أنه لا يوجد في العلمانية إلا ثابت واحد هو اللذة على مستوى الفرد والذي إذا تُرجم على مستوى الجماعة يتحول إلى منفعة الجماعة. غياب المحرمات فائق الجاذبية للبشر؛ لأنهم يحبون المتعة المطلقة ولا يريدون لمحرمات الأديان أن تتحول إلى قوانين ملزمة. أما انعدام الثوابت، فيعطي أقصى مساحات المرونة للمشروع العلماني ويجعله متفوقًا في الواقعية والقابلية للتطبيق.


رابعًا: مواءمة المشروع العلماني للدولة القُطرية الحديثة لأنّه الأنسب للمظلّة الوطنية التي تهيمن على الأديان والأعراق ويفترض أن تتعامل معها بالتساوي بسبب إلغاء أي مرجعية غير اللذة والمصلحة. وحتى ما يقع من تغليب دين معين أو عرق معين في بعض الدول، فهو إما استثناء أو هو نتيجة طبيعية لغياب الثوابت في المشروع العلماني حين تتسلّط قوة على أخرى. هذه الموائمة بقدر ما خدمت نظام الدولة القُطرية وجعلتها مشروعًا ناجحًا وعمليًّا، فقد كانت خدمة متبادلة؛ لأن استقرار مجموعة الدول القطرية أعطى العلمانية المزيدَ من المرجعية والتنميط العالمي وجعلها طرحًا لا بديل له.


خامسًا: ارتبطت العلمانية في نموذجها الأخير بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، فأعطاها جاذبية إضافية كونها حققت درجة عالية من الحرية والعدالة واحترام كرامة الإنسان واحترام خصوصيته وأملاكه. هذا الارتباط هو ما استقر عليه الطرح العلماني الأخير بعد أن مرّ بمراحل الإمبريالية والعنصرية والفاشية. ويظنّ الكثير من البشر أن العلمانية مرتبطة بهذه القيم الجذابة ارتباطًا بُنيويًّا، مما أعطى مزيدًا من الدعم لنمطية العلمانية وجعلها فكرة إنسانية ملؤها العدل والحرية. والذاكرة البشرية لديها الاستعداد لتناسي عنصرية النازية وقمع الفاشية ودكتاتورية الشيوعية رغم أنها نماذج أخرى للعلمانية. وقد وقع مفكرون كبار في هذا الفخ مثل فرانسيس فوكوياما وأسّس نظريته -”نهاية التاريخ”- عليها باعتبارها الشكل النهائي للإبداع البشري الذي لا رجعة فيه للوراء[3].

سادسًا: تزامن صعود العلمانية مع انتعاش التقنية والإبداع العلمي، ممّا أعطى انطباعًا بأنّ العلمانية هي الحاضنة المناسبة لهذا الإبداع، وأنّ هيمنة الأديان سابقًا هي التي منعت ذلك. والوجدان العالمي مشحونٌ بالحقد على الكنيسة وحربها على الإبداع، ولا يكاد الدين يذكر إلا ويذكر معه معاناة كوبرنيكوس وغاليلو. ولا يستغرب أن ينسب تطور العلوم في الفلك والفيزياء والطب والهندسة، ثم انبعاث الثورة الصناعية ثم تقنية الحاسب الآلي والاتصالات، لا يستغرب أن ينسب إلى التحوّل من هيمنة الدين إلى العلمنة.


سابعًا: تزامن صعود العلمانية مع الإبداع الإداري والتنظيمي، بعد التخلص من العلاقة البنيوية بين الكنيسة والملك، والتي كانت قد جعلت كلّ الشعب والدولة رهينة هيكل إداريّ جامد هو نتاج هذه العلاقة الساذجة… وانعدام الثوابت وتغليب المصالح فتحَ المجال لأكبر عملية إبداع إداري في التاريخ، أنتجت لنا مؤسسات معقّدة غاية في الكفاءة والإنتاج، ما كانت لتتأسس لو بقيت الشعوب تحت مظلة الكنيسة أو المعبد.

ثامنًا: أدّت الهيمنة العالمية للعلمانية، وارتباطها بسلسلة الدول القُطرية، إلى أن تتعدّى مرجعيتها القطر الواحد إلى مرجعية عالمية، لها مبادئُها ومؤسساتها العالمية من الأمم المتحدة إلى مجلس الأمن إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية… إلخ. هذه المبادئ والمؤسسات الدولية رفعت الهيمنة إلى أعلى مستوى في تاريخ البشرية، وأعطتها سلطة وشرعية عالمية لم يعرفها البشر من قبل.

لمَنْ الملك اليوم؟


هذه الأسباب وغيرها جعلت العلمانية تبدو كما لو كانت قوة مطلقة غير قابلة للمنافسة من قبل الأديان في الكرة الأرضية. والحقيقة لا يوجد دين -غير الإسلام- يستطيع أن يكافئ العلمانية لا قُطريًّا ولا عالميًّا، بل كل أصحاب الأديان راضون أن يعيشوا تحت كنف العلمانية، وربما استفادوا من العلمانية في قمع الأديان الأخرى، دون أن يجعلوا ديانتهم مرجعًا سياسيًّا. وما يغيب عن البعض، أنّ دولة مثل إسرائيل دولة علمانية، حتى لو كان الدين مبررًا وظيفيًّا في تأسيسها. ولذلك، فمن المفارقات أن كلّ أعضاء المجلس التأسيسي للمؤتمر الصهيوني علمانيون، والصهاينة في إسرائيل من أقل الإسرائيليين تديُّنًا، وقلنسوة الكيبا التي يعتبرونها رمزًا وظيفيًّا وليست من باب التدين [4].

الإسلام يتحدى


الإسلام قصته مختلفة؛ لأنه يواجه العلمانية بنفس أسباب تفوقها، وهي شمول الهيمنة وشمول المرجعية والمرونة والواقعية، وليس غريبًا -والحال هذه- أن تكون المواجهة بين الإسلام والعلمانية حتمية، بل ليس غريبًا أن تتعدد أشكال المواجهة.

الإسلام واجه العلمانية ثقافيًّا في جدل ضخم متعدّد الصور والمستويات والوسائط، في حوار فكري مقروء ومسموع ومشاهد، وصراع اجتماعي بالتنافس على التشكيلات الاجتماعية والمؤسسات المدنية، وواجهها سياسيًّا على المستوى القُطري في صراعات سلمية ومسلحة أخذت أشكالًا كثيرة، وواجهها كونيًّا في صراع عالميّ كان الربيع العربي والحرب المزعومة على الإرهاب من ميادينه. ويمكن أن يستشرف أيّ راصد للأحداث أن الإسلام سيدخل في صدام سياسي وعسكري شامل مع النظام العالمي كله.


من يتفوق؟

الإسلام حين يكافئ العلمانية بالهيمنة والشمول والواقعية، ويخلو من مشاكل الأديان الأخرى؛ فإنه بالتأكيد يتفوق على العلمانية بكثير مما ليس فيها: يتفوق الإسلام بوضوح الثوابت ودقة المرجعية (النص) ممّا يعطي هذه الثوابت حصانة من التبديل أو التغيير أو التلاعب. أما العلمانية، فبسبب غياب ثوابتها، لن يكون غريبًا أن تعود إلى عهد العنصرية والفاشية والإمبريالية، إذا دعا أيّ داع لذلك مثلما حصل في صعود النازية. أما الإسلام، فثوابته محددة بالكتاب والسنة ولا يستطيع أحد أن يغيرها، وكل محاولات التزوير في تفسيرها تنهار أمام تماسك هذه النصوص.

يتفوق الإسلام بالأخلاق والفضيلة المعتمدة على تلك الثوابت. فالعلمانية يمكن أن تصدر قوانين فيها ممنوعات وواجبات، لكنها لا يمكن أن تصنع فضيلة أو تروج لأخلاق وقيم إنسانية. والقيم التي ظهرت مع “النسخة” الأخيرة من العلمانية مثل الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، هي أولًا تطوّر عارض سيزول مع المرحلة القادمة من العلمانية؛ وثانيًا ليست مرتبطة بضمير ووجدان بشري، بل هي معانٍ مصلحية لمنع الضرر بين البشر قد قيست قياسًا ماديًّا بحتًا.


يتفوق الإسلام في “الانتماء”؛ لأن العلمانية ليس فيها هُويّة مطلقًا، والانتماء تحت مظلة العلمانية متروك للوطن أو للقومية، بينما الهُوية في الإسلام انتماء له ذاته. ومثلما يتفوق الإسلام في أصل الانتماء، فإنه يتفوق في قوة الانتماء، مقابل انتماءات الوطنية والقومية التي يستحيل أن تكافئ انتماء المسلم المثقل بالاستعلاء والثقة بالصواب المطلق، والمرتبط بالتبعية لكل طريق الأنبياء من آدم إلى محمد -عليهم الصلاة والسلام-.

ويتفوق الإسلام بقوة الجانب الروحي المنسجم مع النفس البشرية، والمنزّه من رهبنة الأديان الأخرى وخرافاتها. العلمانية سعت لتعويض الجانب الروحي بالموسيقى والفنون، وذهبت إلى أبعد من ذلك بترك أصحاب الأديان يمارسون عباداتهم الفردية؛ لكن غياب البعد الروحي جعل العلمانية جافّة عديمة الطعم واللون والرائحة، ولذلك انتشرت رياضة اليوجا في المجتمعات العلمانية، في نسختها الحلولية التي تنسجم تمامًا مع المفهوم العلماني المؤلِّه للإنسان.


ويتفوق الإسلام في قضية خطيرة جدًّا، وهي أنّ الدفاع عنه ونشره وتمكينه واجب دينيّ، سواء بالحوار والدعوة أو بالقتال والسلاح. ونصوص الدين تَعتبر السعي لهيمنة الإسلام على كل الأديان والأفكار واجبًا لا يجوز التقصير عنه. صحيح أن العلمانية تحظى بدفاع تلقائيّ عن مؤسساتها، ونشر طبيعيّ لأفكارها؛ لكن لا يوجد إلزام يكافئ الإلزام في الإسلام بهذا الدفاع والنشر.


من هو الخصم؟

لا يستطيع أحد إلغاء العداوة التي أثبتها القرآن للديانات الأخرى، ولا إنكار كيد أهلها للمسلمين، لكن في هذه المرحلة من التاريخ لا يكافئ التحدي العلماني أي تحدٍّ، وكل الأديان قد ابتلعتها العلمانية رغم أنفها ووضعتها تحت كنفها. صحيح أن بعض الدول العلمانية فيها تأثير كبير على صاحب القرار من أغلبية ذلك الدين، أو اللوبيات النصرانية أو اليهودية أو البوذية أو الهندوسية؛ لكنّ الصراع الحضاري الكليّ صراع مع العلمانية وليس مع هذه الأديان. هذا فضلًا عن أن أغلب الدول العلمانية قد تخلّى معظم سكّانها عن التدين، ولم يبق إلا اسمه، بل تخلّى الكثير منهم حتى عن اسم الدين. ومن الطرائف، أن عدد المسلمين الذين يصلّون في المساجد في أوربا أكثر من الذين يذهبون للكنائس.


والمبالغة في تضخيم دور المسيحية في هذا الصراع يخلخل فهم طبيعة المواجهة ويربك الصورة ويخلط الأوراق. وفي هذا السياق، لم يفهم كثير من الإسلاميين نظرة الدكتور المسيري -رحمه الله- في إن إنشاء إسرائيل؛ يعني هزيمة الخط الديني لليهود أمام خط الصهاينة الوظيفي العلماني[5]. وفي سياق مشابه، يعترض البعض بأن هنتنجتون أكّد على المواجهة الإسلامية المسيحية في طرحه لصدام الحضارات، وهذا صحيح، لكنه اعتبر المسيحية إرثًا تحت قبّة العلمانية وليس مواجهة من ذات المسيحية[6].

هذا لا يعني تجاهل دور الأديان ولا دور التراكمات التاريخية في الحقد على المسلمين والنظرة العنصرية لهم، لكن تبقى هذه الأمور إما كخلفية يُنظر لها في الاعتبار، أو كتفصيل يُضاف للقضية الأساسية؛ وهي التحدّي العلمانيّ.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


[1] خارطة تبين الدول العلمانية في العالم هنا
[2] راجع كتاب (الإسلام والغرب الأمريكي بين إمكانية الحواروحتمية المواجهة) لمحمد إبراهيم مبروك..
[3] راجع كتيب: (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) لفرانسيس فوكوياما.
[4] و [5] را: كتاب (العلمانية الشاملة والجزئية)، وكتاب (الصهيونية والنازية) للدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله-.
[6] صموئيل هنتنجتون في كتاب (صدام الحضارات).

مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير على هذا الرابط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق