الأحد، 6 يوليو 2014

الجدل الضائع في مصطلحات (التغلب) و(الخروج)




ضخامة حجم الخلط والمغالطة في المفاهيم السياسية الإسلامية ليست تراكمية فقط، بل متداخلة بطريقة غيرت كامل التركيبة الذهنية في النظرية السياسية الإسلامية، وزاد حجم هذه الجريمة الثقافية والإشكالية الحضارية، ما قام به المغالطون من ترحيل مفاهيم لائقة بزمان ومكان وظرف معين، إلى أزمنة وأمكنة وظروف مختلفة، لا تتشابه إلا في رأس المغالط المدفوع برغبة عارمة لنيل الحظوة عند المستبد، الذي تروقه مثل هذه المغالطات.

وما زاد الأمور سوءاً، أن من تصدى لكشف المغالطة، لم ينتبه للتداخل المنهجي، ولم يستحضر ترحيل المفاهيم، بل كان التعامل مع كل مغالطة أو إشكالية، بنزعها من سياقها الزماني والمكاني والظرفي، وتخليصها من التحليل المنهجي للتركيبة الكلية التي تنتمي إليها. وردة الفعل هذه ساهمت بشكل ملحوظ، في بعثرة المسألة وشرذمتها، وصعّب العودة للتركيبة الذهنية الأصلية في النظرية السياسية الإسلامية، وأصبح الجدل والنقاش، بين فريقين، كل منهما يتكلم في وادٍ بعيدٍ عن الوادي الذي يتكلم فيه خصمه، كأنما نحن في جوقة طرشان، كلهم يتكلمون ولا أحد يسمع.

والمتابع لما يطرح في الساحة بأقلام مشايخنا وأساتذتنا، من مشاريع ضخمة في جهدها، لتنقية النظرية السياسية الإسلامية من هذه المغالطات والتزويرات، سيلحظ بما لا يدع مجالاً للشك تشوش الخريطة بالكامل، وارتباك المشهد العام بالكلية.

والمقالة لا تسمح بأكثر من استعراض بعض العينات، لما يمكن أن يسمى مغالطةً في المفهوم السياسي الإسلامي، والتي لا تقل في مستواها عن الجريمة الثقافية والحضارية، لم يكن وقودها أجيالاً متعاقبة من عوام المسلمين فقط، بل طوابير طويلة من المحسوبين على أهل العلم والفكر والمهتمين بالسياسة الإسلامية. ولعلنا نتذكر أن المقالة في صحيفة ليست مجالاً كافياً للتناول المنهجي الشامل لهذه القضية الشائكة.

العينة الأولى: ترحيل مفهوم “المتغلب” الوارد عند السلف على مفهوم المتغلب الحالي، بتجاهل كامل أن المتغلب الأول رغم استبداده وظلمه، يحكم وفق نظامٍ تتوفر فيه عناصر الشرعية الأساسية(رفع راية الدين والمشهد الشعائري الإسلامي ووحدة الأمة وحمايتها من أعدائها).

والمتغلب الحالي لا يشبه المتغلب الأول إلا باستبداده وظلمه فقط، ولا يتصف نظامه الذي يحكم به بأية صفة من الصفات الشرعية الأساسية المذكورة سابقاً، فبأي حقٍ ينظر له كصاحب شرعيةٍ إسلامية، بل بأي عقلٍ أو نقلٍ نستشهد بأقوال أحمد بن حنبل وابن تيمية في شرعية مثل هذا النظام المعطل للعناصر الأساسية للشرعية.

والمضحك المبكي، أن من تصدى لهذه المغالطة، وقع في الترحيل العكسي لمفهوم المتغلب، بأن أسقط ممارسات المتغلب الحالي على المتغلب الأول، فلم يسعه إلا إنكار وجود هذه المدرسة بالكلية. وهذا الجهد بهذه الطريقة حكم على نفسه بالفشل المحتوم، لنفيه وجود رأي شرعيٍ معتبرٍ له أدلته، وقال به علماء لهم الباع الأطول في معرفة النص بأحكامه. وعليه فإن تنزيه الشريعة وأحكامها من الإضفاء على المتغلب الحالي، غير منطقي ولا منهجي بأن ينبني عليه تعامل مماثل مع المتغلب الأول.

العينة الثانية: من المغالطات، تضخيم المفهوم المرحّل “شرعية المتغلب”، من مفهوم بحدود الطاعة لله، إلى مفهوم جديد مبني على تزكية جرائم المتغلب الحالي، وربط التدين بحبه وحب عمله، وتجريم كل من ينكر عليه أو يصفه بالظلم، بل بلغ الأمر مبلغاً أن بعضهم قال إن التجريم بالتفكير، يوجب أحكاماً مماثلةً لأحكام الحرورية الأولى.

وإلصاق هذا التضخيم، بالمدرسة القديمة القائلة بشرعية حكم المتغلب، كذب وتزوير صراح، ليس له أي تفسير غير ذلك. فتلك المدرسة لم تتنازل عن إعفاء المتغلب من أوصاف الظلم، بل جعلت الإنكار عليه واجباً شرعياً. ويكفي التنويه أن رموز هذه المدرسة في مقدمة من يصف الحكام بالظلمة، وينكر عليهم ويعتبر التقرب منهم وسخ (هكذا). والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر، فالإمام أحمد كان يقول عن المأمون عدو الله وعدو الإسلام، في حين كان يترحم على أحمد بن نصر الخزاعي ويذكر عمله بالخير.

وفي المقابل وقع رافضو التزكية، في ترحيلٍ عكسي للمفهوم، حين أرادوا أن يقتدوا بالعلماء الأولين، فرحلوا مفهوم المتغلب القديم على المتغلب الحالي، واعتبروه حاكماً شرعياً، لكن يجوز وصفه بالظلم والاستبداد وانتقاده والإنكار عليه، والترحيل بهذه الطريقة لاشعوري في الغالب الأعم، وقد يكون السبب في ذلك العجز عن التفكير المنهجي، وقد يكون الكلام هنا صادماً لهم.

العينة الثالثة: في ترحيل المفاهيم، هو حصر الشرعية في شخص المتغلب، مسلم هو أم كافر، في إفادةٍ من اختزال الأدلة الشرعية، المأخوذة من نصوص لعلمائنا الأوائل، مع التجاهل التام لبقية الموروث النصي في النظرية السياسة الإسلامية. ويتضاعف التزوير والمغالطة إلى مستوى ضرورة تكفير الحاكم عينياً، حتى يمكن الخروج عليه، بمعنى أنه حتى لو اقترف الكفر البواح، لكن لم تتحقق الشروط وتنتفي الموانع في تكفير الحاكم المتغلب شخصياً، فطاعته واجبه ونظامه شرعي.

المدرسة الأولى التي تقبل حكم المتغلب، والتي تفترض وجود وتحقق عناصر الشرعية المذكورة سابقاً، ولم تتطرق لها، لأنها من المعلوم عندهم ضرورةً، كمن يحدثك عن طلاء بيته، فهو يفترض ضرورةً أنك تعلم أن بيته على قطعة أرض، ولم يخطر على باله أنك تعتقد أن بيته يطير على بساط الريح.

ومن تصدى لهذا الرأي وقع في نفس الفخ الاختزالي وغياب المنهجية، فسطّح القضية، واعتبر نفسه أمام رأي معتبر حقيقي، لا يمكن تجاوزه إلا بتكفير الحاكم عينياً. ثم لم يكتفِ بذلك فقط، بل ساقه تسطيحه إلى تكفير أركان دولة هذا الحاكم من وزراء وأعوان لا يقوم الحكم إلا بهم، حتى بلغ التكفير مبلغاً عجيباً، من تكفير أئمة المساجد ورجال الحسبة، بل قد رأيت من كفر أمه وأباه، والشجر والحجر، ولم يترك آحاد الناس فضلاً عن رؤسائهم إلا وحكفره.

العينة الرابعة:هي الأكبر جرماً، والتي استثمرت تشابه الألفاظ في المصطلحات، فقامت بإزاحة إحدى المدلولات لمعنى كامل، لمدلول آخر لمجرد التشابه اللفظي. من ذلك الخروج العقدي والخروج على الحكام، فهما مفهومان مختلفان تماماً، كان الصحابة يفرقون بينهما بطبيعية، بل يسري هذا التفريق في التابعين وأجيال متعاقبة من العلماء. فللأول عندهم دلالة مرتبطة بالبدعة، التي جاء النص واضحاً في التحذير منها، وتقبيح فاعلها، والحث على التخلص منها. أما الثاني فلم يكن له تصنيف يخرج عن طرفي الاجتهاد، للمصيب أجران، وللمخطئ أجر واحد.

كما أن المفهوم الأول قامت به جماعات منفصلة عن الأمة، ذات نظرة اجتماعية وثقافية مختلفة. أما المفهوم الثاني فقد قام به صحابة مشهود لهم بالجنة، وكبار التابعين وأقره الجمع الغفير من علماء الإسلام.

وقد يعذر آحاد الناس ممن ليس له دراية شرعية، في الخلط بين المفهومين، لكن ما يعتبر جريمة ثقافية تربوية منهجية بامتياز، هو وقوع هذا الخلط على مستوى العلماء. لأنه لايمكن أن يحمل على محمل سليم، قيام من عنده أدنى علم بالمصطلحات الشرعية بالخلط والترحيل فيما بينها، أو حتى عدم القدرة على التفريق. والتبرير الوحيد الذي يخرج به المتابع، هو رغبة هذا العالم بعدم تكدير صفو فساد الظلمة، من خلال إرهاب العامة بخطورة الخروج العقدي المزاح اعتسافاً.

والأغرب من هذا الخلط، هو الاختراع التأصيلي الذي قام به من تصدى لهذا التزوير، فأنبت مشروعاً للتغيير يحرّم استخدام العنف، جاعلاً من المهاتما غاندي سنة تتبع بحذافيرها. ولا خلاف في أن يختار المصلحون خياراتهم في التغيير، لكن الخلاف أن ينسب هذا القول بأنه هو الموقف الإسلامي الأوحد، ولا وجود لغيره، في نسفٍ لمنظومة كبيرة من النصوص الثابتة، وشطب لأحداث تاريخية موثقة.

المقال كما جاء في ثنايا الكلام أعلاه، ليس بزاوية كافية لكشف هذا العبث والتعسف، الذي تعرضت له منظومة الفكر السياسي الإسلامي. ولكنه من قبيل لفت الانتباه بأمثلةٍ تؤكد حجم التشويش في الذهنية السياسية الإسلامية. ولك أن تقارن مصطلحاتٍ من قبيل الشرعية والأمة والدين والدولة بما ذُكر أعلاه، فهي لا تقل تشويهاً عن فكرة المتغلب في الموروث السياسي الإسلامي.

سبق نشره في صحيفة التقرير على هذا الرابط

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق