هذه المقولة ( بيع الفلسطينين لأرضهم ) من أكبر الكذبات التاريخية، والتزويرات المتداولة. ومما ساعد على انتشارها مع الأسف الشديد ترويجها في الأوساط الصحفية العربية والثقافية، التي ليست بمنأى عن الدور السياسي القذر الراغب في التملص من قضية فلسطين، عبر السماح لهذه الفرية أن تتداول كحقيقة ثابتة ومسلمة ومقبولة بلا اعتراض. كإحدى الحجج التي ترددها الأنظمة البائسة لتبرير عمالتها وعدم مساعدتها في تحرير فلسطين.
حكى لي أحد الأقارب أنه سمعها من والده في الستينات الميلادية، بمعنى أنها قديمة أيضاً وليست وليدة العقدين الأخيرين.
ولكي نتدرج في إيضاح الموضوع وتتبعه ينبغى أن يأتي السؤال بصورة مقلوبة، ولتكن صيغته كالتالي :
كيف احتل اليهود أرض فلسطين إذاً؟ وكيف أوجدوا موطئ قدم لهم فيها؟
تبدأ الحكاية في العهد العثماني حيث أعطي اليهود جزءً كأي أقلية تعيش في فلسطين منذ القدم. والمعروف أن أكثر اليهود في تلك الفترة قدموا من الأندلس بعد سقوطها في يد النصارى، حيث لم يرغبوا في العيش مع غير المسلمين، ولذلك تجد لهم تواجداً في الشمال الأفريقي وفي مصر وفي الشام وغيرها.
السلطنة العثمانية أعطت اليهود ٦٥٠ ألف دونم، بناءً على أنهم أقلية كغيرهم. ولا تتحمل السلطنة العثمانية أي دونم إضافي، والجميع يعرف قصة السلطان عبدالحميد عندما رفض جميع إغراءات اليهود، في بيع فلسطين.
ثم هناك ٦٦٥ ألف دونم أعطتها حكومة الانتداب البريطاني على النحو التالي:
أ) ٣٠٠ ألف دونم كمنحة للوكالة اليهودية من المندوب السامي البريطاني.
ب) ٢٠٠ ألف دونم باعها نفس المندوب على الوكالة بمبالغ رمزية.
ج) أهدت المندوبية البريطانية ١٦٥ ألف دونم من أرض السلطان عبدالحميد في منطقتي الحولة وبيسان للوكالة نفسها.
الأراضي التي بيعت حقاً، لم تكن ملكيتها لفلسطينين أصلاً، بل لإقطاعيين لبنانيين وسوريين، وتفصيلها على النحو التالي :
أ) عائلة سرسق البيروتية (ميشيل سرسق وإخوانه ) باعوا ٤٠٠ ألف دونم لليهود، وهي الواقعة في سهل مرج ابن عامر، وكانت تسكنها ٢٥٤٦ عائلة فلسطينية، هُجرت كلها من بيوتها.
ب) عائلة سلام البيروتية باعت ١٦٥ ألف دونم حول بحيرة الحولة لليهود، وقد حصلت عليها العائلة من السلطنة العثمانية كامتياز لاستصلاح الأراضي ثم تمليكها للفلاحين الفلسطينين.
ج) عائلتي بيهم وسرسق ( محمد بيهم وميشيل سرسق أيضاً ) باعا امتيازاً آخر في منطقة الحولة.
د) أنطوان وميشيل تيان باعا أرضاً لليهود في وادي الحوارث مساحته ٥٣٥٠ دونم، واستولى اليهود على جميع أراضي وادي الحوارث البالغة ٣٢ ألف دونم بمساعدة الإنجليز.
هـ) آل قباني البيروتيين باعوا أرضاً مساحتها ٤ آلاف دونم بوادي القباني لليهود أيضاً.
و) آل صباغ وآل تويني البيروتيين باعوا لليهود قرى (الهريج والدار البيضاء والانشراح ـ نهاريا ـ)
ز) عوائل القوتلي والجزائري والمرديني السورية باعت هي أيضاً أراضي كبيرة في منطقة صفد لليهود.
ح) باع آل يوسف السوريون قطعة كبيرة لشركة (The Palestinian Land Development Company).
ط) باع كل من خير الدين الأحدب، وصفي قدورة، وجوزيف خديج، وميشال سرجي، ومراد دانا وإلياس الحاج اللبنانيين لليهود مساحة كبيرة من الأراضي الفلسطينية المجاورة للبنان.
هناك ٣٠٠ ألف دونم باعها فلسطينيون على اليهود، إلا أن هذه التصرفات جرمت بموجب فتوى مؤتمر علماء فلسطين الأول في 25 يناير 1935، التي تعتبر البائع والسمسار والوسيط كلهم مارقين من الدين خارجين من زمرة المسلمين، يحرم دفنهم في مقابر المسلمين، ونتج عن هذه الفتوى تصفية الكثير من السماسرة، ومن باع أرضه ومن توسط في البيع.
مجموع ما حصل عليه اليهود بالبيع يساوي تقريباً مليونين دونم، أي ما يعادل ٧،٤١٪ من مساحة فلسطين الحالية (الضفة الغربية قطاع غزة والأراضي التي تسمى إسرائيل).
ولنسلم جدلاً أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود فهل يحق لهم ذلك؟
نقل ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة بعض الأحكام المتعلقة بتملك أهل الذمة في دار الإسلام فذكر: "أن أبا عبد الله سئل عن الرجل يبيع داره وقد جاءه نصراني فأرغبه وزاده في ثمن الدار، ترى أن يبيع منه وهو نصراني أو يهودي أو مجوسي ؟ قال: لا أرى له ذلك، يبيع داره من كافر يكفر فيها ؟ يبيعها من مسلم أحب إلي (قال ابن القيم: فهذا نص على المنع)"، وقال: "قال عبد الله بن أحمد سألت أبي عن الذمي اليهودي والنصراني لهم شفعة ؟ قال لا قلت المجوسي ؟ قال ذاك أشد. قال ابن القيم في تعليقه على الروايات السابقة: "وحقيقة الأمر أن الكفار ممنوعون من الاستيلاء على ما ثبت للمسلمين فيه حق من عقار أو رقيق أو زوجة مسلمة أو إحياء موات أو تملك بشفعة من مسلم، لأن مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا وإنما أُقِروا بالجزية للضرورة العارضة والحكم المقيد بالضرورة مقدر بقدرها"، والذين أقروا بجواز تملك أهل الذمة في بلد المسلمين، لم يعارضوا العلة التي أوردها ابن القيم وهو أن: "مقصود الدعوة أن تكون كلمة الله هي العليا".
يقول الشيخ محمد بن شاكر الشريف ما نصه :
"مما تقدم يتبين لنا أنه لا يجوز لأهل فلسطين أن يتنازلوا عن أرض فلسطين أو عن جزء منها لليهود ويقروا بسيطرتهم عليها وتملكهم لها، بأية حجة أو ذريعة حتى لو كان ذلك بدعوى الصلح، فالصلح الذي يحرم حلالا أو يحل حراما لا يجوز، فالتنازل عما اصطلح على تسميته "حق العودة" لا يجوز فعله أو الإقدام عليه، لأن في ذلك الإقرار الدائم بضياع فلسطين أو جزء منها وانتقال ملكيتها إلى الأبد إلى اليهود وهو ما يطلبه اليهود من الفلسطينيين والعرب تحت مسمى"يهودية الدولة".
إذاً من أين جاءت هذه الكذبة؟
يقول الشـيخ "محمد أمين الحسـيني" مفتي فلسـطين: "إن المخابرات البريطانيـة وبالتعاون مع اليهود أنشـؤوا عدة مراكز دعايـة ضد الفلسـطينيين، ملؤوها بالموظفين والعملاء والجواسـيـس، وكان من مهامها بث الدعايـة المعروفـة بدعايـة الهمـس واللمز والتدليـس".
شهادات وأقوال:
يقول المؤرخ الإنكليزي (أرنولد توينبي):
"سلب أراضي فلسطين جرى في أكبر عملية نهب جماعية عرفها التاريخ... ومن أشد المعالم غرابة في النزاع حول فلسطين: هو أن تنشأ الضرورة، للتدليل على حجة العرب ودعواهم".
الكاتب اليهودي المنصف (عميرة هاس) يقول:
"وفي الوقت الحالي لا يوجد شخص يستطيع أو يرغب في ذكر حجم الأراضي التي بيعت بالغش والخداع، وما هي نسبتها للأراضي الشاغرة، وما هو عدد المتضررين ـ يقصد الفلسطينيين ـ".
أما البروفيسور اليهودي (إسرائيل شاحاك) فيقول:
"لم يبقَ من أصل 457 قرية فلسطينية وقعت ضمن الحدود الإسرائيلية التي أعلنتها في عام 1949م إلا تسعون قرية فقط، أما القرى الباقية وعددها 358 فقد دُمرت، بما فيها منازلها، وأسوار الحدائق، وحتى المدافن وشواهد القبور؛ بحيث لم يبقَ بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة ـ حجر واحد قائماً. ويُقال للزوار الذين يمرون بتلك القرى إن المنطقـة كلها كانت صحراء".
أما شـهادة (موشـيـه ديان) فهي تُبرئ الفلسـطينيين من تهمـة بيع أراضيهم؛ حيث يعترف قائلاً :
"لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان العرب قد توطنوا فيـه، ونحن نبني دولـة يهوديـة... لقد أُقيمت القرى اليهوديـة مكان القرى العربيـة. أنتم لا تعرفون حتى أسـماء هذه القرى العربيـة وأنا لا أتكلم؛ لأن كتب الجغرافيا لم تعد موجودة. وليسـت كتب الجغرافيا هي وحدها التي لم تعد موجودة، بل القرى العربيـة نفسـها أيضاً. وما من موضع بُني في هذا البلد إلا وكان أصلاً لسـكان عرب".
كما يؤكد تلك الحقيقـة أيضاً الباحث اليهودي (بني موريـس) بقولـه:
"نشـرنا الكثير من الأكاذيب، وأنصاف الحقائق التي أقنعنا أنفسـنا وأقنعنا العالم بها... لقد حان وقت معرفـة الحقيقـة، كل الحقيقـة... والتاريخ هو الحكم في النهايـة".
المحامية اليهودية (إليغرا باشيكو) تقول :
"الوثائق المزورة وعمليات الغش أمر عادي في صفقات بيع الأراضي إلى المستوطنين اليهود".
من تقرير كتبه حاخامين بعثهما ماركس نوردو أحد كبار قادة الحركة الصهيونية المقربين من هرتزل، اللذان أرسلهما للنظر في إمكانية الهجرة العملية إلى فلسطين، جاء فيه :
"إن فلسطين عروس جميلة وهي مستوفية لجميع الشروط، ولكنها متزوجة فعلاً".
وما زالت متزوجة وهاهي تتجهز لقدوم عريسها.
المصادر :
١ـ د. خالد الخالدي - رئيس قسم التاريخ والآثار بالجامعة الإسلامية بغزة، رداً على سؤال ( كيف ترد على شخص يقول أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لإسرائيل )، نشرته نيوز فلسطين.
٢ـ مقال "الفلسطينيون لم يبيعوا أرضهم كما روَّجت العصابات الصهيونية" بقلم: صلاح رشيد.
٣ـ مقال "هل باع الفلسطينيون أرضهم؟ وتخلوا عنها لليهود"، د/محسن محمد صالح.
٤ـ موقع صيد الفوائد فتوى الشيخ محمد بن شاكر الشريف من مقال "تمليك دار الإسلام لغير المسلمين".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق