الثلاثاء، 3 يونيو 2014

على رسلكم.. فالعولمة من جنود الله





درج الكثير من القلقين على الأمة، سواء من منطلقات إسلامية أو قومية، على الحذر والتحذير مما يسمى بالعولمة، خوفا من فرض نمط الحياة والتفكير الغربي والأمريكي تحديدا. وهذا القلق له ما يبرره، فإن الغرب في هذه المرحلة من التاريخ متفوق سياسيا واقتصاديا وعسكريا و”فنيا”، بل إنه هو الذي صنع أدوات العولمة. والإنتاج المادي والإعلامي الغربي الذي يؤثر في السلوك والفكر -بل حتى في الهوية والانتماء- قوي ومخترق.


لكن هؤلاء الذي عبروا عن القلق غفلوا عن حقيقة مهمة مرتبطة بواقع العولمة، وغفلوا عن الحتميات المرتبطة بمصيرها، والتي لا ينفع معها الحذر والتحذير، كما غفلوا عن مصالح كبيرة جلبتها.


الحقيقة المرتبطة بالعولمة هي أنها قبل أن تكون اختراقا اجتماعيا و فكريا وسلوكيا، كانت -ولا تزال- مجموع أدوات تقنية فقط، تُمكّن الإنسان من نقل الكلمة والصورة والمعلومة والفكرة أو حفظها أو تسهيل الوصول إليها، أو مخاطبة الآخرين والتفاعل معهم من خلالها. هذا الجانب التقني -وإن كان ابتكاره في الأصل غربي- فإنه متوفر لجميع البشر، يستخدمونه بما لديهم من محتوى فكري وفني وعاطفي أو بأي محتوى آخر. والتطورات الأخيرة في التقنية قضت تقريبا على احتكارها، فأصبحت فرصة استخدامها متساوية من قبل من لديه الحد الأدنى من القدرات المدنية.


أما الحتمية، فهي أن التخوف والقلق والتحذير لا يغير من الأمر شيئا، لأن من طبيعة البشر أن يستخدموا كل تقنية فيها تسهيل للحياة مهما بلغ القلق منها. وكل من يحاول تحاشي التقنية سواء كان فردأ أو جماعة أو دولة، سيجد نفسه معزولا مهزوما محاصرا متأخرا عن ركب المسيرة الإنسانية. ومن المحتوم أن يقدّم البشر ما لديهم لملء هذا الوعاء “غير المتحيز”، فيتحيز بقدر ما يوضع فيه من محتوى.


ولعل هذه الحتمية هي التي ألزمت كثيرا من المشايخ الذين كانوا يفتون بتحريم الفضائيات أن يستخدموها لبرامجهم، وألزمت من دعوا لمنع الانترنت أن يشؤوا مواقع نفع الله بها كثيرا. وبقدر ما يظن الكثير أن هذه الحتمية ذاتها مقلقة، فإن غياب التحيز في الطبيعة التقنية للأدوات وفّر الفرصة لمبارزة الثقافات المعتدية على طريقة “هذا الميدان يا حميدان”.


كون العولمة معتمدة على تقنية “غير متحيزة”، وكون استخدامها حتميا، أثبت مع الزمن إمكانية تحقيق مصالح كبيرة من خلالها، ربما تزيل في نهاية المطاف هذا القلق منها وتجعل من حاول فرضها علينا أكثر قلقا من استخدامنا لها.


ومن يرى العولمة شيطانا متغولا جديدا، يهدف لنزع هوية الأمة من قلوبها وإلباسها هويةً مصطنعة استهلاكية لا تمت لدينها أو جغرافيتها بصلة، عليه أن يعلم أن كونها في الأصل تقنية مجردة أفاد الإسلام، بل الإسلام السني تحديداً، ووصلت الإفادة حداً قل وجوده في تاريخ الأمم عامةً والإسلام خاصةً. وهذه الفوائد مصالح حقيقية، يمكن رصدها في العولمة على مسار العمل الإسلامي وبالأخص السني.


المصلحة الأولى سهولة الوصول للنص، وهذه لو لم يكن للعولمة غيرها لكفاها، فقديماً كان تخريج الحديث مثلاً يستوجب قدرة رجل كالألباني، وحتى مع وجود الكتب قد لا تستطيع أن تتعامل معها. أما الآن فإن طفلاً في العاشرة من عمره يستطيع باستخدام تقنية العولمة أن يخرج الحديث كما كان يفعله الألباني رحمه الله. هذا ليس تقليلاً من جهد الشيخ رحمه الله، لكنه تبيان لحقيقة أن العولمة أوجدت لنا نسخاً من محققي الحديث يمتلكون مهارات كبار المحدثين. وقس على ذلك باقي فروع العلم الشرعي، فكتب الفقه مثلاً تجدها كلها بلا استثناء، وأصبح ذات الطفل القادر على تخريج الأحاديث، “فقيها” في مرتبة كبار العلماء في الفقه المقارن، يستطيع أن يخرج لك المسألة في الفقه من رأي المذاهب الفقهية كاملةً، كما فعل ابن حزم في المحلى أو ابن قدامة في المغني.


والأمر لا يقتصر على الحديث والفقه، فمن خلال العولمة توفر كل ما تريد من كتب بين يديك. فمكتبة مثل الشاملة يضعها المرء في جهازه، تضم في طياتها ألوف الكتب، لم يكن يستطيع أن يحصل عليها المأمون في زمانه، فضلاً عن العلماء والمشائخ. هذه الكتب لا تدفع مقابلها مالا وتستطيع أن تجري مسحا شاملا على أي مسألة فيها دون أن تقلب صفحاتها.


المصلحة الثانية هي أن العولمة مجال للحوار بدون فرض الرأي بالقوة، سواءً ما بين أصحاب الرأي في المذهب الواحد، أو أصحاب المذاهب المختلفة داخل الدين الإسلامي، أو حتى بين أصحاب الديانات كافة. ما قبل العولمة لم نكن نسمع بمناظر غير الشيخ أحمد ديدات رحمه الله، أما الآن ففي كل فكرة عقدية أو شرعية مناظر منافح وسلاحه حجته وقوة منطقه وأدلته النقلية والعقلية. ومن نتائج تحقيق هذه المصلحة أن الناس أصبحت تستهجن من يرتكز إلى القوة في تمرير قوله وفكره، فترى التهكم بأنصار الأنظمة القمعية وأنهم لا يرتكزون على حقيقة اقناعية نظراً لتهافت فكرتهم بالأساس.


المصلحة الثالثة أن العولمة وفرت الفرصة للشخص الذي كان ممنوعا من منصات الخطاب الجماهيري أن يوصل صوته للناس بكل الثقل الذي تحمله وجهة نظره وحقيقة قوله، ومكنته من صناعة منصة إعلامية خاصة به. وبعد أن كان مالكو وسائل الإعلام “حكومات أو مؤسسات” يحتكرون منصات مخاطبة الجماهير، أصبحت الفرصة متاحة لأي شخص باعتلاء منصات العولمة. بل وتعددت الفرص داخل العولمة بين صفحات المواقع أو اليوتيوب أو الفيس بوك والتويتر. وأثبت تساوي الفرص هذا، تفوق الناس بقدراتهم الحقيقية وليس بما يمكّن لهم مالك المؤسسة الإعلامية. حتى أن متابعي بعض طلبة العلم بلغ مئات الآلاف في تويتر. فشيخ محارب في الإعلام مثلا يبلغ تدوير تغريداته آلاف المرات، بل وصلت حتى للتطبيقات خارج تويتر، كالواتس آب وغيره. ولو كنا ما قبل العولمة وظهر فينا مثل ها الشيخ لربما لم يعرفه غير أهل حيه أو مدينته على التقدير البعيد.


المصالح المذكورة أعلاه ليست حكراً علينا، بل هي موجودة عند الجميع، ولكن لعمق قناعتنا وإيماننا بأن المشروع السني سيسود في الأخير، لقوته وقربه من الفطرة حتى شابهها، ولاعتماده على نصوص الوحي التي لا ينافسها أي نص بشري. وكما سبق أن أوضحت هذه المسألة في مقالة “هل صدق بلير” في نفس الصحيفة، فالمجالدة والمبارزة مع الثقافات العالمية على منصات العولمة هي في حقل إيجابيات المشروع السني، ولربما يثبت الزمن أنه المستفيد الأقدر على تكييف وتطويع هذه العولمة بما يتوافق مع عالمية رسالته.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق