الاثنين، 6 أكتوبر 2014

مؤامرة


الماسونية تتحكم بالعالم، واليهود يسيطرون على كل شيء (١)، وأحداث سبتمبر من صنع المخابرات الأمريكية (٢) ، والربيع العربي هو نتاج مشروع الفوضى الخلاقة لكونداليزا رايس، والقاعدة صنيعة أمريكا، وداعش صنيعة إيرانية، والقائمة لا تنتهي. 

هكذا يفهم الأحداث كثير من الناس، ومبدأهم سهل وبسيط، أن التفسير المباشر للأحداث غير وارد، وأنها ليست إلا نتيجة سلسلة من المؤامرات الخفية التي تتبين تفاصيلها فيما بعد.

ظاهرة وثقافة وليست استثناء 

هذه الإحالة لجهات تخطط سرا، وتنفذ خططها بكفاءة، ودائما تنجح ولا تنفضح ولا تتورط ولا تنقلب عليها خططها، هو ما يطلق عليه الفكر المؤامراتي، أو التفسير المؤامراتي للأحداث. الحديث هنا ليس عن التصديق بالكائنات الفضائية، والزئبق الأحمر، والأرض المجوفة، ذلك الذي يعتبر ظاهرة عند أقليات مهووسة في كل المجتمعات(٣). إنما الحديث عن ظاهرة شاملة في المجتمعات العربية والإسلامية، تكاد تكون هي السائدة، أو على الأقل يكون الإيمان فيها رأيا حاضرا وقويا. 

هذه النزعة في النظرة للمؤامرة في مجتمعاتنا، تختلف عنها في المجتمعات الأخرى بفوارق، ربما تساهم في لفت النظر لدور التخلف الفكري والحضاري في انتشارها. وبتأمل دقيق يمكن رصد هذه الفوارق بطريقة تساعد على فهم الظاهرة:

الفارق الأول : أنها محصورة في تفسير الأحداث السياسية، فمجتمعاتنا لا تهتم كثيرا بالكائنات الفضائية، ولا مثلث برمودا، ولا الزئبق الأحمر، ولا الأرض المجوفة. هذا التفسير المؤامراتي للأحداث السياسية لا يمتد في التاريخ بعيدا، فهو يقتصر على بدايات ضعف المسلمين منذ أكثر من قرنين (٤) وهذا التوقيت تحديدا له علاقة بالتشخيص الدقيق، لأسباب الإصابة بمرض المؤامراتية. 

الفارق الثاني : أن هذه التفسير المؤامراتي فرض نفسه اجتماعيا وإعلاميا حتى صار ثقافة مقبولة، وطرحا متداولا منتشرا كوجهة نظر قوية حتى عند من لا يقبلها. ولهذا السبب لا يعتبر طرح التفسير المؤامراتي كلاما غريبا أو نشازا، ولا يستحي منها قائلها أمام شاشات التلفاز، أو أن يكتبها في مقالة أو كتاب(٥). 

الفارق الثالث : أن اللجوء للتفسير المؤامراتي في مجتمعاتنا ليس مقتصرا على العوام، أو شخصيات مغمورة، أو مرضى مهووسين بكيد الحكومات، بل هو منهج لمثقفين معروفين بسعة إطلاعهم وعمق معرفتهم(٦). كما أن النهج المؤامراتي لا يقتصر على تيار ثقافي معين، بل موجود لدى الإسلاميين السلفيين، والتنويريين، والعلمانيين وغيرهم. 

السؤال الطبيعي هنا، لماذا أُصيبت مجتمعاتنا بهذه القابلية للتفكير المؤامراتي؟ ولماذا هذه الفوارق الثلاث بالذات؟ 

"قدرية العجز" هي التفسير

ربما يكون في الفارق الأول لمحة أو ملاحظة تدلنا على الإجابة، فكون التفكير المؤامراتي محصور في الأحداث السياسية، وفي فترة ضعف المسلمين، يعني أنها مرتبطة بواقعنا السياسي خلال القرون الأخيرة. كلمة السر في هذا الواقع، هو تتابع العجز عن صناعة الأحداث، والقابلية لأن تكون بلداننا ميدانا لغيرنا، يتصرف فيها كما يريد.

ظهر الجيل الحالي من العرب والمسلمين في دول لا تشارك بأي دور في صناعة الأحداث الإقليمية أو التأثير فيها، ورأى كيف أن بلدان المسلمين تضع سياستها الخارجية وبرامجها العسكرية تبعا لإرادة القوى العظمى. وفوق ذلك سمع هذا الجيل من آبائه وأجداده قصص الهزيمة الكاملة أمام القوى العظمى، وتفاصيل الاستعمار، والتحكم الغربي والشرقي ببلاد المسلمين منذ قرون، وكيف أن الاستعمار لم يغادر حقيقة حتى لو غادرت عساكره، وأن الأنظمة التي تركها الاستعمار، أكثر خدمة له من نفسه. 

هذا التوالي التاريخي في ضعف شعوبنا، وتراكم التبعية للقوى العظمى، أدى بالشعوب أن تشعر بعجز كلي، وشلل جماعي عن صناعة الأحداث أو التأثير فيها، ما دامت القوى العظمى حاضرة. ورسخ هذا الشعور غياب الاستراتيجيات والخطط، وانعدام الرؤية المستقلة، والدوران في فلك القوى العالمية سياسيا وأمنيا وعسكريا، فاستقر في الوجدان أن هذا العجز والفشل قدرنا، وملتصق بنا إلى أجل غير مسمى. (٧)

وهذا التفسير ينسحب على الفارق الثاني والثالث، ذلك لأن تعرض المجتمع كله في عدة أجيال لحالة العجز، يجعلها ثقافة عامة، ومن ثم فالمثقف والكاتب والإعلامي هو نتاج هذا المجتمع المثشبع بهذه الثقافة. يؤكد ذلك أن المجتمعات في الدول القوية لا يفكر فيها بطريقة مؤامراتية إلا أقليات أو أفراد، وتفكيرهم هذا ليس تجاه أحداث سياسية، بل تجاه أساطير تليق ببعض أصحاب الإعاقة الذهنية، أولئك الذين يصدقون بالكائنات الفضائية، وأن الأرض حقا مجوفة.(٨)


حالات نفسية عند المؤامراتيين


الاعتقاد الراسخ بأن العجز هو قدرنا، يعني استحالة نسبة أي عمل ذي بال (سواء كان حقا أو باطلا) للعرب والمسلمين، حتى لو كان المنطق البسيط يستدعي الإيمان بذلك. وبناء عليه فلا بد من أن تكون قوى أخرى أكثر قدرة من العرب والمسلمين، (عادة أمريكا) خلف هذا العمل. ولا يقف أصحاب التفكير هنا، بل يشتركون في مجموعة من الظواهر النفسية، دائما ترافق هذا التفكير المؤامراتي.


الظاهرة الأولى : الاعتقاد بأن الحدث دائما لمصلحة القوى التي تقف خلفه، ذلك لأنها دقيقة في التخطيط إلى درجة أنها لا تخطئ، وقد راعت حساب كل التفاصيل، بل وضعت احتياطات لتدارك المشاكل في أي مرحلة من مراحل الخطة "المؤامرة". ولذلك، دائما تتكلل هذه الأحداث بنتائج لمصلحة هذه القوى، بل إن بعض أصحاب الفكر المؤامراتي يخترع من ذاته نتائج مفيدة لمن نسب له المؤامرة، ثم يقول "ابحث عن المستفيد تعرف الفاعل"(٩). 


الظاهرة الثانية : تفادي الحديث عن الآلية التفصيلية التي نفذت فيها هذه القوى حدثا ما، حتى لا يتورط بتناقضات تجعل المؤامرة مستحيلة. ولذلك يتحاشى أصحاب الفكر المؤامراتي التفكير بالآليات، حتى في داخل وجدانهم، ويعيشون حالة نفسية فيها هروب ذهني ذاتي من هذا التساؤل.(١٠) وهذه الظاهرة تبين مشكلة نفسية أخرى عند المؤامراتيين فحين هرب للتفسير المؤامراتي، إنما بحث عن التبسيط والاختزال، وحين يتعرض للاستجواب عن الآليات، يبدو الأمر أكثر تعقيدا من لو قبل بالتفسير غير المؤامراتي، ولذلك تجتاحه حالة غضب، لأنه أُجبر على الدخول فيما تحاشاه.


الظاهرة الثالثة : اختراع تفسيرات خرافية للرد على أي تساؤل عن تداعيات ومخاطر الأحداث الناتجة عن المؤامرة المزعومة، والتي ليست في صالح القوى المتآمرة. بل يسعى كثير من أصحاب الفكر المؤامراتي إلى أن يكون هو المبادر، فيقوم بسرد هذه التداعيات التي حصلت، ويتبعها بالتفسير الخرافي، ثم يتمم بالتداعيات التي لم تحصل لكنها متوقعة، ويستمر في إكمال سلسلة المتواليات التي يفترض هو أن المتآمر يتحكم فيها من البداية للنهاية. (١١)


الظاهرة الرابعة : أن صاحب الفكر المؤامراتي لا يبالي أبدا إن تبين يقينا أن تفسيره المؤامراتي خاطئ، ويستمر في نشاطاته الفكرية وكأن شيئا لم يكن، ويفترض أنه لا يزال يحظى بنفس مستوى الاحترام الذي كان عليه(١٢). هذه اللامبالاة أمام ما يفترض أنها فضيحة فكرية، وإحراج منطقي، لها تفسير نفسي ظريف مرتبط بنفس متلازمة قدرية العجز. السبب -والله أعلم- هو ما يستبطنه ذلك المثقف من شعور بعجز الأمة كلها، فلماذا يكلف نفسه أن يراعي هذه الأمة العاجزة؟ والحقيقة هذا الشعور له ما يبرره، فكثير من مريدي ذلك المثقف هم بدورهم مبتلون بالنظرة المؤامراتية، فلا يحسون بالورطة الفكرية التي تعرض لها شيخهم أو أستاذهم، بسبب تشربهم ذلك العجز.


تفسيرات أخرى لفئات خاصة من المثقفين


هناك من المثقفين من سلموا من الإصابة بقدرية العجز، ولديهم توازن نفسي وفكري لا بأس به، لكنهم لم يسلموا من مشاكل أخرى في تجردهم، دفعتهم للتفكير المؤامراتي.

من هذه النماذج، مثقف يتبنى تحليلا سياسيا لقضية ما، ويستشرف تطورات وتداعيات معينة، بناء على معطيات سياسية واجتماعية وعسكرية إلخ. يمر الوقت وتأتي التداعيات عكس ما توقعه تماما، فيصاب بحرج، ويدعي أن ما حصل لا يمكن تفسيره إلا بمؤامرة . (١٣)

نموذج آخر، مثقف يقف من تيار، أو جماعة، أو شخص، موقف الخصومة، فيصبح لهذا الخصم شأن، فلا يريد هذا المثقف أن يعترف للخصم بجدارته، وأن ما أنجزه من عمل يده، فلا يجد غير التفكير المؤامراتي وسيلة في التقليل من شأنه. 


هل التفكر المؤامراتي مشكلة؟

الفكر المؤامراتي ليس مشكلة فحسب، بل كارثة، لأنه يؤدي لليأس، واستحالة التغيير ما دام الخصوم مسيطرين على العالم بكل هذه القدرة والتمكن. وكنموذج لذلك الكتاب المسمى (بروتوكولات حكماء صهيون) فالكتاب ليس من صنع الصهاينة ولا اليهود ومزور عليهم، لكنهم فرحوا به، واستفادوا من انتشاره، وطربوا الأساطير التي نسجت عنه، وعن قتل المترجم، وحرق المطبعة، وشراء جميع النسخ، إلخ. 

وقد تتبع أكثر من باحث هذه القصص فتبين أنها خرافة، فلم يُقتل مترجم، ولم تُحرق مطبعة ولا دار نشر، ولم تُشترى النسخ، بل خدم الصهاينة نشر الكتاب، لماذا؟ لأنه يضاعف الشعور باليأس عند المسلمين، فقارئ الكتاب يخرج بنتيجة واحدة، هي: ما دام اليهود لديهم كل هذه القدرة في التحكم بالعالم شرقه وغربه، فماذا عسى أن نفعل نحن الضعفاء؟ (١٤)


كيف نعالج الفكر المؤامراتي 


الفكر المؤامراتي حالة نفسية جماعية يصعب علاجها بالإقناع، سواء كان إقناعا فرديا بحوار فردي، أو جماعيا في الإعلام والمقالات. هل يعني هذا أن لا حل لهذه الحالة، إلا باستعادة المسلمين لقوتهم وشأنهم؟ 

التخلص من الظاهرة بالكامل كثقافة سائدة، لا يمكن إلا بهذا الحل، لكن هذا التخلص لن يكون فجأة، ودفعة واحدة، بل سيكون من ذات الصراع الذي يبذله المسلمون لاستعادة شأنهم. وكل خطوة يؤديها المسلمون في إنجاز حقيقي ضد الهيمنة العالمية للقوى الكبرى، هي كسر لحاجز نفسي آخر أمام المؤامراتية.(١٥)

----------------------------


(١) كتب مثل "الدنيا لعبة إسرائيل" و"بروتوكولات حكماء صهيون" و"المؤامرات الخفية للماسونية"، وكتاب لعبة الأمم، كلها نماذج من هذه الكتب التي تؤسس للفكر المؤامراتي. 

(٢) المؤامرة لا تقف عن سبتمبر، فأمريكا هي التي تركت ابن لادن حيا، حتى تبرر قتل المسلمين، وهي التي صنعت الخميني، حتى يحارب صدام والخيالات لا تنتهي. 

(٣) هذه الأفكار يتبناها مهووسون موجودون في كل المجتمعات رغم خرافتها، فالأرض المجوفة مثلا يدّعي أصحابها أن هتلر هرب للقطب الجنوبي مع آلاف من جنوده، ودخلوا في جوف الأرض من ثقب هناك، وأن أمريكا عثرت على الثقب، وتكتمت عليه بسبب تهديد من كائنات فضائية. 

(٤) يعود التفكير المؤامراتي للوراء في التاريخ، ليُتهم الشيخ "محمد بن عبد الوهاب"، أنه مجند من قبل الجاسوس البريطاني "همفر" الذي التقى الشيخ في أحد رحلاته زعما، والعجيب أنه تم تجنيده في لقاء عابر، والحقيقة أنه لا يوجد جاسوس بريطاني اسمه همفر، فضلا عن أن يحصل لقاء بينه وبين الشيخ.

(٥) لاحظ الحماس والثقة بالنفس، عند كثير ممن يتحدث عن أحداث سبتمبر بصفتها مؤامرة، وطرحه للأدلة وكأنه أصاب كنز النطف. 

(٦) أستاذ وأكاديمي مشهور معروف بمرجعيته في علم السياسة، أحال -بخجل- اندلاع الربيع العربي إلى خطة كوندليزا رايس (الفوضى الخلاقة).

(٧) ولنفس السبب، تزداد ظاهرة اللجوء للتفسير المؤامراتي كلما ازداد القمع، وذلك لأن المقموع يشعر بمزيد من العجز في عيشه تحت ظل نظام قد كتم أنفاسه. 

(٨) الاهتمام بالمؤامرة في الغرب له سبب إضافي، هو "الفانتازيا السياسية" لأجل المتاجرة بالخيال، وكثير ممن كتبوا عن هذه الخيالات، كسبوا مبالغ طائلة من ورائها. 

(٩) "ابحث عن المستفيد تجد الفاعل" ليست قاعدة مطردة أبدا، ويدحضها المنطق البسيط، فكثيرا ما تخطط جهة أو شخص لشيء ما، وتأتي النتائج صارة له ونافعة لخصومه. 

(١٠) تم تجريب ذلك مع الذين يتبنون مؤامرة خلف أحداث سبتمبر، وطلب منهم أن يشرحوا كيف نفذت أمريكا العملية. العجيب أنهم يشعرون بالاستفزاز إذا عرض عليهم هذا السؤال، بل ويعترفون أنهم لا يريدون أن يفكروا فيه، ولا حاجة للتفكير فيه من الأساس.

(١١) الذين يدّعون أن داعش صنيعة إيرانية مثلا، كانوا يقولون أن الزرقاوي صنعوه لطرد أمريكا من العراق، ثم حين صارت داعش تحاربهم، قالوا هم ضخموها حتى يقنعوا أمريكا بضربها. 

(١٢) انظر مثلا ما يقوله بعض من يحيلون الربيع العربي لمؤامرة أمريكية، في تفسير انقلاب السيسي الذي أربك تفسيراتهم، فلم يجدوا عناء في إعادة البرمجة، وتركيب الانقلاب على المؤامرة. 

(١٣) الذين كانوا يدّعون بأن أمريكا تعمدت ترك ابن لادن حيا وهي تعرف مكانه، لم يجدوا عناء في التعامل مع إعلان الأمريكان قتله، فاختلقوا مؤامرة أخرى أنه لا يزال حيا ، وأسير عند الأمريكان يستخدمونه عند اللزوم.

(١٤) شرح الدكتور المسيري رحمه الله قصة الكتاب كاملة في كتابه (البروتوكولات واليهودية والصهيونية) ، وبيّن أن أصله كتاب آخر من أعداد الروس بعنوان "حوار في الجحيم" ، وهو نقاش متخيل بين مونسيكو وميكافيلي، وتمت إعادة صياغة الكتاب من قبل المخابرات الروسية، لتقبيح صورة اليَهُود.

لقراءة الكتاب أو تحميله هنا.

(١٥) لا يمكن نفي المؤامرة بالكامل، فالتآمر والكيد موجود ومتوقع، ولكن في حدود قانون التدافع البشري.

المقال سبق نشره في صحيفة التقرير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق