الأربعاء، 21 يناير 2015

أحداث باريس 360 درجة

كثر الحديث عن أحداث باريس من زوايا متعددة شملت تفاصيل الحدث وجذوره والتأصيل الشرعي له، وانتقاد نفاق الغرب في زعمه حماية حرية التعبير الى غير ذلك من ملابسات الحدث وتداعياته. وكثير من هذه النقاشات أجاد في تفصيل الجانب الذي تناوله، لكن غاب عنها الطرح الشمولي والصورة الكاملة. نقاشات أخرى غلب عليها التحيز الذي ساهم في حصر السياق فيمن يؤيد فكرة المقال مسبقا، ومن ثم يضيّق دائرة المستفيدين منه.
هذه محاولة لاستعراض الحدث بنظرة متجردة ترصد الأسباب والظروف بواقعية ودون إسقاطات أو هواجس، وتتعامل مع المعطيات كما هي دون تحيز سابق. كما إنه مراجعة بانورامية للحدث من خلال معرفة البيئة المكانية والزمانية والظرفية التي حصل فيها، ورسم خريطة فكرية نفسية للأطراف الفاعلة في هذا الحدث وتداعياته.
التأصيل موجود والخلاف في الموازنات
النقاش الشرعي للمسألة مبسوط في مباحث كثيرة، بل أفرده بن تيمية بكتاب كامل ولسنا بحاجة لتكراره(1). هذا التأصيل لا يقتصر على قواعد عامة في حفظ مقام النبوة، بل يؤكد تحديدا مشروعية استهداف من يسب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو كان مقيما بين المشركين،(2) وتبقى الموازنة في تحديد الطريقة والأسلوب بما يؤدي إلى أكبر منفعة وأدنى درجة من الضرر.
لكن كثيرا ممن بسط النقاش في أحداث باريس، لم يفرق بين التأصيل الشرعي المجرد، والموازنة بين المصالح المرتبطة بالتطبيق العملي في مكان محدد وزمان محدد وظرف محدد. والاختلاف في الموازنة تقدير بشري، يجب أن لا يثرب فيه طرف على آخر، بما يشكك في أصل المشروعية أو يدعي أن الأمر لا يسعه الاجتهاد.
الاستفزاز الأوربي حتمي
إقدام بعض الأوربيين على استفزاز المسلمين سواء في شخص النبي عليه الصلاة والسلام أو بطرق أخرى أمر حتمي للاسباب التالية:
أولا: لأن المجتمعات الأوربية تعيش حالة حقد مركب ضد الإسلام، يستحيل أن ينزع من الوجدان الأوربي. وسبب كون الحقد مركبا هو أنه منبثق من عنصرين، الأول: الإرث المسيحي الضخم لأوروبا والعلاقة الحربية الدائمة مع المسلمين،(3) والثاني:  أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتحدى العلمانية الحالية باقتدار. (4)
ثانيا: لأن هناك جيوبا في المجتمعات الأوربية ليس عندها تحفظ في إظهار حقدها بلا مبالاة لآثار ذلك على التوازنات المحلية والعالمية. ومن الأضرار الجانبية للديموقراطية الحديثة، أن تجعل العقلاء الذين يحسنون تقدير العواقب عاجزين عن الأخذ على يد السفهاء الذين لا يحسنون تقديرها. (5)
ثالثا: لأن الغرب لا يمنع ولا يريد أن يمنع ولا يستطيع أن يمنع هذا الاستفزاز، بل إن الغرب عموما وأوروبا خصوصا فيها تيارات تستمتع بمثل هذا الاستفزاز حتى لو رغبت الحكومات تفاديه. (6)
الانتقام الإسلامي حتمي
لو لم يحدث هذا الحدث بهذه الطريقة ومن قبل الأخوين الكواشي، لربما حدث مثله بطريقة أخرى ومن قبل آخرين. والمقالات التي تتحدث عن مفاسد ما فعله الأخوين والحملات الإعلامية التي تقبّح هذا الفعل، ليس لها قيمة(7) لأن هذا الانتقام يستحيل تفاديه للأسباب التالية:
أولا: لأن غضب المسلمين أمر طبيعي تجاه تصرف بهذه الدرجة من الاستفزاز بحق المقام النبوي، فمثل هذا الاستفزاز يخلق جوا مناسبا لدفع من يفكر بالانتقام بالمضي قدما فيه لأنه يدرك حجم التشجيع والثناء.
ثانيا: بسبب شعور بعض المسلمين أن المسألة ليست غضبا فحسب، بل هي إلزام بتنفيذ أمر شرعي بالانتقام ممن ينال من النبي صلى الله عليه وسلم تأديبا لغيره.
ثالثا: المسلمون ليس لهم سلطان موحد يحكم تصرفاتهم ويتحمل مسؤولية ما يصدر عنهم، ولذا فمن المحتوم أن يتصدى أفراد أو جماعات لمثل هذه المهمة، لأنهم لا يشعرون بأي التزام تجاه السلطات المبعثرة في بلدان المسلمين، والتي لا يعتبرها هؤلاء الذين يقدمون على الانتقام سلطات شرعية لها طاعة.
والذين لديهم تحفظ مصلحي على العمل مخطئون حين يفترضون أن الإقناع المنطقي بموازنة المصالح والمفاسد يكفي لمنعه، دون وجود سلطة موحدة للمسلمين. وعدم إدراك الحتمية يدخل الكثير منهم في حالة من التفكير الخيالي، يعيشون فيه ذاتهم ولا يتصورون أن الواقع تجاوزهم كثيرا، وأن تداعيات الحدث تضاعفت خارج إطار تفكيرهم.
ردة الفعل الفرنسية والغربية حتمية
يخطيء جدا من يعتبر أن ردة الفعل الفرنسية على المستوى الحكومي والشعبي غريبة أو مفتعلة، وذلك لتجاهله كثيرا من المعطيات التي تجعل مثل ردة الفعل التي حصلت ليست واردة فحسب بل هي المتوقعة. ومع أن السبب الحقيقي ليس الانتصار لحرية التعبير، وما المزايدة على ذلك إلا نفاق صفيق، لكن مع ذلك فإن ردة الفعل الفرنسية حتمية لا مجال لتفاديها مهما حاول عقلاء الفرنسيين ذلك.
والقناعة بأنها حتمية، ليس له دخل بتآمر سلطوي أو انتهازية مخابراتية أو استغلال المتطرفين من أعداء الإسلام للحدث، بل هي مرتبطة بالمعطيات التالية:
أولا: تعيش أوروبا حالة من الهيمنة والأستاذية على البشرية عموما وعلى المسلمين خصوصا، ويأتي هذا الحدث ليتحدى هذه الأستاذية، ويملي عليها كيف تعيش وكيف تتصرف. والاستعمارالأوربي الذي انحسر عسكريا بقي على شكل هيمنة فكرية وسياسية ونفسية، لا يقبل بكبريائه أن يتحداه منهج آخر ويلوي ذراعه بالقوة لأجل أن يغير سياسته الداخلية من أجله.
ثانيا: التصاعد في الاستقطاب بين الإسلام والغرب بعد تنامي الظاهرة الجهادية، جعل الغرب في حالة تربص من الخطر المحدق لم يشعر بها منذ صعود العلمانية بعد الثورة الفرنسية. ورغم الاستعدادات الأمنية والمخابراتية الضخمة، فإن الشعور بالخطر في حقيقته ليس أمنيا ولا عسكريا، بل هو هاجس يستولي على النفسية الغربية، بأن الإسلام يستكمل إعادة تشكيلته الحضارية التي لا مفر من مصادمتها الشاملة للمشروع الغربي، وبكفاءة قد تؤدي لهزيمة الغرب. (8)
ثالثا: هذا التوتر ليس لدى الحكومات والمؤسسات السياسية فحسب، بل هوشعور عام في العقل الجمعي الغربي يؤثر ويتأثر بالمؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام. مع عدم إغفال أن المؤسسات الإعلامية والسياسية ربما تُخطف من بعض اللوبيات، لكن الشعور بالمواجهة مع الإسلام في أوروبا هو حالة عامة تجتاح كل المجتمعات الأوروبية بقوة. بل إن بعض الاستبيانات تثبت أن الحكومات أعقل من الجمهور في بعض الجوانب، كما تبين ذلك في ألمانيا. (9)

المسيرة (المظاهرة) والاعتراف بالتحدي الإسلامي
بسبب المعطيات السابقة، كان من المتوقع أن تعتبر السلطات الفرنسية الهجوم على الصحيفة حدثا كبيرا، وتتعامل معه على هذا الأساس سواء في التصريحات أو في الاجراءات الاستخباراتية. ومن المتوقع كذلك أن يعبر الكثير من الشعب الفرنسي عن دعمهم للصحيفة بأشكال مختلفة من التعبير. ومن المتوقع كذلك أن تصدر أعمال انتقامية ضد المسلمين في أوروبا من قبل أفراد أو عصابات.
لكن لم يكن من المتوقع أن تدعو الحكومة الفرنسية رسميا لمسيرة، فليس من طبع الحكومات في الديموقراطية الغربية أن تدعو لمسيرات، فضلا عن أن تطلب مشاركة زعماء العالم. والذين يعرفون العقلية الأوربية يدركون أن دعوة الحكومات لمسيرة، أمر مثير للسخرية والاستهجان ولم يسبق أن حصل. ثم إن الدعوة لم تكن نتيجة حماس شخصي من رئيس فرنسا، بل هي فكرة متفق عليها بين كل أطراف الحكومة الفرنسية وأحزاب المعارضة، ومدعومة غربيا بدليل مشاركة عشرات من زعماء العالم فما هو التفسير؟
التفسير هو أن الحادث جاء بعد حشد هائل للصدام بين الإسلام الجهادي والغرب، وفي بيئة مستقطبة ومتوترة جدا -كما ذكر أعلاه- فتسبب في صدمة أربكت الغرب نفسيا وثقافيا، وأشعرته بقوة التحدي الحضاري، فأحس بالشك في مدى تمسكه بمبادئه المزعومة. هذا الشك دفع الغرب لأن يسعى " لتجديد البيعة" للمبادئ العلمانية، وإثبات قوة الارتباط بها في مواجهة التحدي الإسلامي.
لقد واجه الغرب حربيين عالميتين طاحنتين، وحربا باردة خطيرة، ولم يفكر فيها يوما من الأيام بمسيرات رسمية، لأن التحدي وقتها لم يكن حضاريا أو نفسيا، بل كان تحديا عسكريا مجردا، وجميع الأطراف منطلقاتهم علمانية. ولهذا فإن الدعوة الرسمية لهذه المسيرة والاستجابة لها بهذا الشكل السريع والكبير، هو بمثابة اعتراف بقوة التحدي الإسلامي والقلق من انحسار المبادئ العلمانية. أو بعبارة أخرى هو ترجمة للجانب الضعيف في الكيان العلماني العالمي، واضطراره لعمل ما لم يقم به أمام أي تحدٍ آخر. (10)
التداعيات
لا يمكن استشراف التداعيات من النظر للحادث منفصلا عن المشهد العام، ودون اعتبار للاستقطاب العالمي وتنامي الظاهرة الجهادية والعودة الهائلة للشعوب المسلمة لهويتها. وليس من الطرح العلمي ولا المنطقي حصر تداعيات الحدث في أثره على الأقليات المسلمة في أوروبا، والقلق من تسببه في التضييق عليها من قبل الحكومات الأوروبية، أو محاصرتها من قبل المجتمعات الأوروبية الحاقدة.
التطورات المتسارعة حاليا في العراق والشام واليمن والتحديات في مصر وليبيا وربما في الخليج قريبا، سوف تكون أخطر بكثير على الغرب من حادثة باريس. ولأول مرة في تاريخه سيكون الغرب دائما في خانة رد الفعل، بعد أن كان يصنع الحدث ويتحكم بردود الأفعال.
وتمادي بعض الأوروبيين بإعادة الرسوم، أو بنماذج أخرى من الاستفزاز في الاعتداء على مقام النبوة، لن تكون إلا مضاعفة لهذا الاستقطاب وخدمة للمشروع الجهادي. وما نرى من مقولات حكيمة لببعض عقلاء الغرب لن يكون لها أثر يذكر أمام زخم الاستقطاب الهائل.
هؤلاء أهملوا قصدا
الشخصيات العربية والإسلامية التي شجبت الحدث أو شاركت في المسيرة، لم يتم الإشارة إليها، لأنهم ليسوا صانعين للفعل ولا رد الفعل، وليسوا أصحاب قرار ولا رأي، ومساهمتهم محصورة في تنفيذ ما يؤمرون به من قبل قوى الغرب. وبذلك فليس لهم دور في الحدث ولا تداعياته، ولا يستحقون التعليق أكثر من التنبيه إلى عدم الالتفات لأهميتهم.
مؤامرة
تردد من قبل البعض أن الحدث مؤامرة مدبرة، ومن ثم يسوقون الأدلة المزعومة على كونها مؤامرة، وكأن المعطيات المذكورة ليس لها قيمة. وأفضل ما يمكن تشبيه حكاية المؤامرة، بمن يزعم أن شيخا كبيرا مصاب بعدد من الأمراض القاتلة، وعرضة للموت في أي لحظة، مات مسموما بعمل مدبر.
والذين يفسرون الأمور تفسيرا مؤامراتيا هكذا بالمزاعم، متجاهلين المعطيات الطبيعية التي تجعل الأمر حتميا، تجدهم دائما عاجزين أن يعطوا تصورا بديلا للآلية التي دبرت فيها المؤامرة، ويكتفون بسرد الأدلة المزعومة. (11)
-------------------
1)هنا كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) لابن تيمية إضغط هنا.
2)قصة اغتيال كعب بن الأشرف كما رواها البخاري إضغط هنا.
3) واجه المسلمون أوروبا في الأندلس (أسبانيا) وبقوا هناك ثمانمائة سنة، وامتدت الحروب الصليبية أكثر من مئتي سنة، كما امتدت حروب أوروبا مع الدولة العثمانية مئات السنين. أما الاستعمار الحديث فقد بدأ منذ القرن الثامن عشر، ووصل ذروته في العقد الثاني من القرن العشرين وبقي إلى العقد السادس.
4) راجع مقالنا تحدي العلمانية إضغط هنا.
5)اثبتت بحوث كثيرة أن الديموقراطية الحديثة فيها هذه الفجوة، وهي تغليب المؤثرات غير المنطقية على المؤثرات المنطقية
وهذا عرض عام للفكرة إضغط هنا.
وهذه دراسة خاصة لمدى قوة العواطف في انتخاب بوش إضغط هنا.
6)مقالة جيدة عن تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا إضغط هنا.
7) الكثير من هذه المقالات موجهة حكوميا لمغازلة الغرب، لكن بعضها كتب دون توجيه، أو مصلحة من حكومة، وباعتقاد ساذج من كاتبه أنه يستطيع أن يغير القناعات.
8)ما يحصل الآن استشرفه هنتجتون في أطروحته صراع الحضارات، وقد علقنا عليه في مقالنا إضغط هنا.
9)اثبتت استبيانات في ألمانيا تأييد الأغلبية لحركة بيغيدا المناهضة للمسلمين في ألمانيا رغم الانتقاد الرسمي على لسان المستشارة الألمانية ميركل إضغط هنا.
10)الحديث عن الاسلاموفوبيا وكأنها ظاهرة استثنائية غير صحيح، بل هي الأساس في الوجدان الغربي حاليا سواء على مستوى الحكومات أو الشعوب.
11)راجع مقالنا "مؤامرة" ففيه استعراض شامل لهذه الظاهرة وتفسير سبب النزعة إليها من قبل الكثير من المسلمين إضغط هنا.

الخميس، 15 يناير 2015

حقائق هامة عن الأخلاق الإسلامية


لا حاجة في هذا المقال للتعريف بتفاصيل الأخلاق الإسلامية، فهذا المبحث مخدوم جدا ومبسوط في كثير من الكتب، وغالبا ما يردده الخطباء والوعاظ. لكن هناك حاجة ماسة للتذكير ببعض الحقائق التي تفوت على الكثير حول طبيعة الأخلاق الإسلامية. وإبراز هذه الحقائق ضروري لبيان عظمة الفلسفة الأخلاقية في الإسلام وسعتها وعمقها ومكانتها.

كيف نعرف الحسن من القبيح؟
التمييز بين الأخلاق الحميدة والأخلاق السيئة حتى لو كان ممكنا بالعقل، فإن القول الفصل والمرجع النهائي فيه للشرع وليس للعقل. وليس المقام إعادة البحث في الجدل الفلسفي للتحسين والتقبيح، لكنه تأكيد قاعدة شرعية هامة في التعرف على كل المنظومة الأخلاقية من خلال المرجعية الدينية. (١)

ولأن تحسين وتقبيح الأخلاق مرتبط بالشرع فهو ثابت لا يتغير، ويبقى الحسن حسنا والقبيح قبيحا بثبات الشرع، إلا ما كان الشرع نفسه قد ربطه بظرف معين فيتغير مع الظرف. ولذلك فإن الشذوذ والزنا وغيرها من الموبقات تبقى قبيحة ومرفوضة شرعا، مهما صارت مقبولة في القوانين الوضعية، وفي المقابل يبقى تعدد الزواج مقبولا، مهما صار مرفوضا في القوانين الوضعية. (٢)

الأخلاق ليست الإتيكيت
المقصود بالأخلاق أوسع بكثير من المفهوم الدارج والذي يقصد به عادة اللباقة والأدب، أو ما يسمى بالإتكيت، فيقال في مدح شخص ما "فلان أخلاق" أي أنه مؤدب وخلوق في التعامل. والحقيقة أن الأخلاق في الإسلام منظومة ضخمة مرتبطة بالتعامل مع جميع البشر، من الوالدين والزوجة والأبناء والأسرة، وبقية الرحم والجيران، إلى كل من يتعامل معه الإنسان في بيع أو شراء أو أي نوع آخر من التعامل.

وبهذا المعنى فإن الأخلاق لا تقتصر على العلاقة الفردية، بل تشمل العلاقة الجماعية بين عائلة وأخرى، أو قبيلة وأخرى أو بين الدولة الإسلامية وغيرها من الدول. والمتصرف أو المتكلم باسم العائلة أو القبيلة أو الدولة، حين يتصرف أو يتكلم في مواجهة الجهة الأخرى فهو محكوم بضوابط أخلاقية مثلما تحكم هذه الضوابط من يتصرف بصفته الفردية. (٣)

لماذا شأن الأخلاق عظيم في الإسلام
ثبت في الحديث أن حسن الخلق يتفوق على النوافل حتى لو كانت من أفضل العبادات مثل قيام الليل وصيام التطوع، فقد قال صلى الله عليه وسلم "إن الرجل ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم".(٤) ولأن الإنسان يتفوق هكذا بحسن الخلق صارت المنزلة في الآخرة مرتبطة بهذا الأمر كما قال عليه الصلاة والسلام "إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا … الحديث".(٥)

وتعظيم شأن الأخلاق في الإسلام له سبب منطقي بسيط وهو أن علاقات الإنسان نوعين إما مع الله سبحانه أو مع المخلوقات والأخلاق تقيم شأن النوع الثاني كله وهو العلاقة مع المخلوقات. صحيح أن العلاقة مع المخلوقات مبنية على العلاقة مع الله لكن هذا هو مفهوم الأخلاق الإسلامي أن تجعل علاقتك بالمخلوقات منضبطة بعلاقتك مع الله. ويؤكد هذا المعنى وصف الأخلاق في الحديث بموازاة تقوى ا لله فقد "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة  ؟ قال: تقوى الله وحسن الخلق" (٦)وكأنّ تقوى الله إصلاح ما بين الإنسان وربه وحسن الخلق إصلاح ما بينه وبين المخلوقات (٧).

أخلاق عظيمة وبأجر عظيم دون أي جهد
الأخلاق قد تكون عظيمة دون أي فعل جسدي أو جهد بشري، فالمحبة وحسن الظن أعمال قلبية لا تحتاج بذل أي جهد جسدي ومع ذلك أجرها عظيم. بل يمكن أن تكون عظيمة جدا حتى دون عمل القلب وذلك بترك الأخلاق السيئة مثل تحاشي الغيبة والنميمة والحسد والكيد وسوء الظن.

وفي نفس السياق يمكن تصنيف النهي عن المنكر بالقلب كخلق عظيم، فهذا إجراء سلبي يتمثل في عدم الرضا قلبيا عن المنكر ورفض المشاركة فيه أو تأييده وتحاشي أي عمل يساعد على بقائه. بل إن الإنكار القلبي الصحيح من ارقى الأخلاق الإنسانية لأنها لو شارك فيها عدد كبير من الناس لحوصر من يمارس المنكر حتى لو كان ذو سلطة. (٨)

ثنائيات الأخلاق الإسلامية
الأخلاق الإسلامية منظومة متوازنة فيها ثنائيات متقابلة في طيف كامل بميزان دقيق وحساس كان من اختبار الله للعباد أن يرى مدى قدرتهم على حفظ هذا التوازن. هذا التوازن طبيعة كل التربية الإسلامية حتى في العبادة والعقيدة وكثير من الأحكام الفقهية، وضبط هذا التوازن هو دائما من اختبار الله سبحانه للعباد.(٩)

الإسلام يأمر بالكرم شرط أن لا يؤدي للتبذير، ويأمر بالاقتصاد شرط أن لا يؤدي للبخل، ويأمر بالتواضع شرط أن لا يؤدي للذل، ويأمر بالعزة شرط أن لا تؤدي للكبر. والإسلام يأمر بالشجاعة شرط أن لا تؤدي للتهور، ويأمر بالحذر شرط أن لا يؤدي للجبن، وبالصبر والحلم شرط أن لا يؤدي للسكوت على باطل.

الشدة والقسوة والغلظة قد تكون أخلاقا محمودة
الأخلاق الإسلامية ليست دائما في اتجاه الرقة واللطف، بل هناك استئناءات تكون فيها الشدة والقسوة هي السنة والعمل بها تنفيذ لأمر الله واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم. فالقرآن يقول "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلطة" (١٠) والنبي صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين آذوه في مكة بصوت مرتفع(١١)، وفي مقام آخر حصبهم بقبضة من تراب وقال "شاهت الوجوه"(١٢)، وخاطب بن صياد بقوله "إخسأ فلن تعدو قدرك"(١٣)، وحين رفض بسر الأشجعي الأكل بيمنيه قال له "لا استطعت" فشلت يمينه(١٤)، وحين شتم أبو بكر عروة بن مسعود بقوله "امصص بظر اللات" تبسم النبي صلى الله عليه وسلم إقرارا لما قام به أبو بكر. (١٥)

أما على المستوى الفعل فقد بالغ النبي صلى الله عليه وسلم في الشدة تجاه من يستحقها كما فعل مع العرنيين بعد أن قابلوا الإحسان بالإساءة (١٦) وجاء عنه صلى الله عليه وسلم أنه رفض استرحام أبي عزة الجمحي ورد عليه بقوله "والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمدا مرتين" وأمر به فضربت عنقه(١٧). ومع أن هذه المواقف هي الاستثناء وليس الأصل لكنها تبقى شرعا ثابتا والقسوة عند حصول الداعي لها تعتبر اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الأخلاق والنفاق
الصدق والوفاء بالوعد وحفظ العهد وأداء الأمانة مجموعة من الأخلاق مرتبطة بالأمانة والمسؤولية وهي أعظم خطرا من الأخلاق الأخرى غير المرتبطة بالأمانة. وإذا كانت المخالفة في الأخلاق الأخرى عصيان وفسق فإن المخالفة في هذه الأخلاق نفاق كما ثبت في الحديث "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر" (١٨)

ومن لفتات الحديث أن اكتمال هذه الصفات ينقل من يمارسها من النفاق الجزئي إلى النفاق الكلي الذي نادرا ما يحصل دون نفاق اعتقادي. أما جعل الفجور عند الخصومة في سياق خيانة الأمانة فسببه -والله أعلم- أن الذي يفجر في الخصومة يتخلى عن الأمانة التي بينه وبين من تخاصم معه ويفشي سره ويلغي التزاماته معه فتكون بمثابة خيانة. ولنفس السبب قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الغشاش "من غشنا فليس منا" (١٩) فكأن الغش المناقض للأمانة أخرج صاحبه من دائرة المسلمين.

الأخلاق والسياسة والتاريخ
يؤثر النظام السياسي في انضباط المجتمع بالاخلاق تأثيرا كبيرا والعكس صحيح. فإذا كان النظام السياسي يوفر العدل والكرامة والحرية تسود الاخلاق الراقية والأمانة والصدق والوفاء وحماية الضعيف وإغاثة الملهوف الخ. وفي المقابل إذا كان النظام ظالما مستبدا يسود النفاق والكذب والغش والخيانة والتخلي عن المسؤولية وتسلط القوي على الضعيف وأكل حقوقه حتى لو لم يكن آكل الحقوق متقويا بالسلطة. (٢٠)

بل إن الأخلاق تؤثر قطعا في صعود وهبوط وقوة وضعف الأمم باتفاق المؤرخين وعلماء الاجتماع وقبل ذلك بالكتاب والسنة. والأمة التي يغلب عليها رقي الأخلاق وخاصة ما له علاقة بالأمانة تنتصر وتسود والأمة التي يغلب عليها العكس تنهزم وتزول هيبتها. (٢١) وقد صدق شوقي في قوله:
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

---------------------------------

١) الجدل الفلسفي في هذه القضية معقد لكن بن تيمية رحمه الله لخصه في إجابة على سؤال عن التحسين والتقبيح إضغط هنا.

٢) كان الشذوذ والزنا جريمة في الغرب ثم أصبح مقبولا ثم صار محميا حتى من الانتقاد.

٣) التعامل مع الدول الأخرى وطريقة تنفيذ الحرب والسلم منضبط بكل تفاصيله بمنظومة أخلاقية لا يجوز التساهل فيها.

٤) رواه أحمد والطبراني وابوداود وبن حبان في صحيحه مع اختلاف في بعض الالفاظ.

٥) رواه الترمذي وصححه الألباني.

٦) رواه أحمد والترمذي وبن ماجه والبخاري في الأدب المفرد.

٧) حسن الخلق يشمل التعامل مع الحيوانات وهذا بالمناسبة باب كامل في الشرع فيه تفصيل كثير.

٨) راجع مقالنا "خواطر فكرية" ونقاش أثر الإنكار بالقلب إضغط هنا.

٩) ناقش علي عزت بيجوفيتش رحمه الله هذه النقطة باستفاضة وإشباع في كتابه (الإسلام بين الشرق والغرب).

١٠) التوبة (١٢٣).


١١) عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال : (اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ) . رواه البخاري ومسلم



١٢) هذا نص رواية أحمد كما جاء في مسنده عن بن عباس رضي الله عنه (إن الملأ من قريش اجتمعوا في الحجر فتعاقدوا باللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ونائلة وإساف لو قد رأينا محمدا لقد قمنا إليه قيام رجل واحد فلم نفارقه حتى نقتله فأقبلت ابنته فاطمة رضي الله تعالى عنها تبكي حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت هؤلاء الملأ من قريش قد تعاقدوا عليك لو قد رأوك لقد قاموا إليك فقتلوك فليس منهم رجل إلا قد عرف نصيبه من دمك فقال يا بنية أريني وضوءا فتوضأ ثم دخل عليهم المسجد فلما رأوه قالوا ها هو ذا وخفضوا أبصارهم وسقطت أذقانهم في صدورهم وعقروا في مجالسهم فلم يرفعوا إليه بصرا ولم يقم إليه منهم رجل فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قام على رءوسهم فأخذ قبضة من التراب فقال شاهت الوجوه ثم حصبهم بها فما أصاب رجلا منهم من ذلك الحصى حصاة إلا قتل يوم بدر كافرا ).


١٣) روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر  ((أن عمر انطلق مع النبي صلى الله عليه وسلم في رهط قبل ابن صياد، حتى وجدوه يلعب مع الصبيان، عند أطم بني مغالة، وقد قارب ابن الصياد الحلم، فلم يشعر حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده، ثم قال لابن الصياد: تشهد أني رسول الله. فنظر إليه ابن صياد فقال: أشهد أنك رسول الأميين. فقال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فرفضه وقال: آمنت بالله وبرسله. فقال له: ما ترى. قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خلط عليك الأمر. ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: إني خبأت لك خبيئاً. فقال ابن صياد: هو الدخ. فقال: اخسأ، فلن تعدو قدرك. فقال عمر رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكنه فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله)).

١٤) روى مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلا أكل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بشماله فقال: كل بيمينك قال: لا أستطيع قال: لا استطعت ما منعه إلا الكبر فما رفعها إلى فيه.

١٥) رواه البخاري وأحمد عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: ... فأتاه أي عروة بن مسعود ـ فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي نحوا من قوله لبديل، فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخرى فإني والله لأرى وجوها وإني لأرى أوشاباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات، أنحن نفر عنه وندعه... الحديث.
قال الحافظ في الفتح: وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه به من نسبة المسلمين إلى الفرار وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك.

١٦) القصة أوردها البخاري ومسلم ولفظ البخاري "أنس رضي الله عنه أن ناسا اجتووا في المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا براعيه يعني الإبل فيشربوا من ألبانها وأبوالها فلحقوا براعيه فشربوا من ألبانها وأبوالها حتى صلحت أبدانهم فقتلوا الراعي وساقوا الإبل فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فبعث في طلبهم فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم،  قال قتادة فحدثني محمد بن سيرين أن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود".

١٧) القصة أوردها بن إسحاق والبيهقي بلفظ "أن أبا عزة عمرو بن عبد الله الجمحي كان قد من عليه النبي صلى الله عليه وسلم في الذين من عليهم من أسارى بدر فلما رجع كان ممن ظاهر العدو في وقعة أحد فظفر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوقعة فقال يا محمد أقلني فقال والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول خدعت محمدا مرتين ثم أمر بضرب عنقه قال سعيد بن المسيب وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" والجزء الأخير (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ) مروي في الصحيحين.

١٨) هذا اللفظ رواية ا لبخاري عن عبد الله بن عمرو وأما لفظ رواية مسلم عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال  "أربعٌ من كن فيه كان منافقًا خالصًا . ومن كانت فيه خلةٌ منهن كانت فيه خلةٌ من نفاقٍ . حتى يدعَها : إذا حدث كذب . وإذا عاهد غدر . وإذا وعد أخلف . وإذا خاصم فجر . غيرَ أن في حديثِ سفيان : وإن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاقِ".

١٩) الحديث رواه مسلم في صحيحه.

٢٠) راجع مقالنا "الدولة العميقة كم هي عميقة" حول تأثير  الاستبداد والظلم في تخريب الأخلاق إضغط هنا.

٢١) تأمل أي كتاب في التحليل التاريخي أو علم الاجتماع مثل مقدمة بن خلدون أو دراسة للتاريخ لارنولد توينبي تجد الإشارة بقوة لهذه المعاني.
ومن نماذج ما جاء في السنة عن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم " ما نقض قوم العهد قط إلا كان القتل بينهم، وما ظهرت فاحشة في قوم قط إلا سلط الله عز وجل عليهم الموت، ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر ".رواه الحاكم والبيهقي وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "، ووافقه الذهبي.

الاثنين، 12 يناير 2015

متى تسبب الأحداث الصغيرة آثارا كبيرة؟

متوالية بدأت بقتل شخص واحد، وانتهت بحرب عالمية كان ميدانها العالم كله تقريبًا، قتل فيها ملايين البشر، وتغيرت الخريطة السياسية العالمية، وسقطت إمبراطوريات ونشأت عشرات الدول. تتسلسل المتوالية كالتالي:
اغتيل ولي عهد النمسا على يد شخص صربي. (1)
طلبت النمسا من صربيا تسليمها القاتل، فرفضت صربيا.
أعلنت النمسا الحرب على صربيا.
استنجدت صربيا بروسيا، فأعلنت روسيا الحرب على النمسا.
استنجدت النمسا بألمانيا، فأعلنت ألمانيا الحرب على صربيا وروسيا.
أعلنت فرنسا أنها ملتزمة بحلفها مع روسيا، فقررت ألمانيا غزوها.
لم يمكن للجيش الألماني غزو فرنسا إلا من خلال بلجيكا، فاجتاح الجيش الألماني بلجيكا.
كانت بريطانيا حليفة لبلجيكا، فأعلنت الحرب على ألمانيا دفاعًا عن بلجيكا.
وعد الحلفاء (روسيا بريطانيا فرنسا) إيطاليا بأجزاء من النمسا بعد كسب الحرب، فدخلت الحرب معهم.
كانت الدولة العثمانية حليفة لألمانيا، فدخلت في صفها.
غزا الحلفاء الأراضي العثمانية واستولوا على أجزاء كبيرة منها.
وعد الحلفاء رومانيا بأجزاء من المجر لو كسبوا الحرب، فدخلت لصالح الحلفاء.
أغرقت الغواصات الألمانية سفنًا أمريكية قادمة لبريطانيا، واكتشفت أمريكا أن ألمانيا تخطط مع المكسيك لمحاربتها، فأعلنت أمريكا الحرب على ألمانيا. (2)
في النهاية، شاركت أكثر من عشرين دولة في الحرب بشكل أو بآخر. (3)
هل كان سبب كل هذه المتوالية المعقدة، التي استمرت في دمار شمل ثلاث قارات، وامتد على مدى أربع سنوات، وقتل فيه الملايين، واختفت إمبراطوريات، هل كان سببه اغتيال شخص واحد؟ لقد اغتيل الكثير من الزعماء، فلم تحصل حرب صغيرة، فضلًا عن حرب عالمية، فهل كانت هذه المتوالية الضخمة صدفة؟(4)
هل كان سبب الثورة الأمريكية، التي أعقبها إنشاء أقوى دولة في التاريخ، رمي صناديق الشاي الإنجليزي في ميناء بوستن في البحر؟ (5) كم من تمرد وفوضى وشغب حصل في الموانئ، فلم يسمع عنه إلا من له علاقة به، فضلًا عن أن يتسبب في ثورة أو إنشاء دولة عظمى، فلماذا كان رمي عدد من الصناديق سببًا في إنشاء أمريكا؟
هل كان سبب ثورة غاندي التي انتهت بتحرير الهند وتخليصها من 400 سنة من الاحتلال الإنجليزي، قتل عدد من المعتصمين في إضراب الملح الشهير؟ (6) كم من متظاهر ومعتصم قتل بدم بارد في الهند وغيرها، ولم يتسبب بأي تغيير سياسي، فضلًا عن تحرير دولة سكانها مئات الملايين من المستعمر، فلماذا كانت مذبحة الملح سببًا في تحرير دولة كبرى مثل الهند؟
هل كان سبب توسع حكم جنكيزخان من قبيلة صغيرة في قطعة من صحراء منغوليا، إلى أوسع فتح في التاريخ، بسبب انتقامه بعد غزوة سبيت فيها زوجته؟ (7) كم من قائد تعرضت عائلته للسبي، ولم يترتب عليها أي توسع في حكمه، فضلًا عن إمبراطورية ضعف حجم الإمبراطورية الرومانية، فلماذا يكون سبي زوجة جنكيزخان سببًا في هذا الاكتساح الهائل؟
هل كان سبب الثورة الفرنسية، التي غيرت الأنظمة السياسية في كل أوربا، قيام لويس السادس عشر بحل الجمعية الوطنية والإفصاح عن الدين العام؟ (8) كم من ملك في فرنسا وغيرها، لم يقبل بجمعية وطنية، وقمع كل أنواع التمرد بكل نجاح، فضلًا عن أن يحل جمعية موجودة، فلماذا لم يحصل له مثلما حصل في الثورة الفرنسية؟
هل كان تدمير البرجين في أحداث سبتمبر سببًا للاستقطاب العالمي الهائل، والتحول الضخم في التوازن السياسي الدولي، والتغيير التاريخي العظيم الذي حصل بعدها؟ كم من عمارة دمرت في أمريكا وغيرها، بعمل مقصود ولم ينتج عنها أي حملة إعلامية ولا عسكرية، فضلًا عن أن تتسبب في استقطاب عالمي، فلماذا كانت أحداث سبتمبر سببًا في تغيير التاريخ كله؟(9)،(10)
هل كان سبب الربيع العربي، واندلاع الثورة في خمس دول ما قام به بوعزيزي؟ كم من شخص أحرق نفسه في العالم العربي، وغير العالم العربي، فلماذا لم تندلع ثورة ولم يتحرك أحد؟
التاريخ لا تصنعه المصادفات، وسنن الله لا تحصل بالحظ ولا بحوادث فردية، بل هي قوانين ثابتة حتى لو بدت بعض الأحداث مصادفات أو حظوظ. لكن، ما هو سر بعض الأحداث الفردية التي تغير وجه التاريخ؟
السر هو أن هذا الحدث ليس بذاته صانع التغيير، بل هو تحريك اللبنة القابلة للسقوط في بيئة متهيئة لأحداث كبيرة، ولو لم تستجب هذه البيئة له لاستجابت لغيره، ولو حصل نفس الحدث في بيئة غير مهيئة لكان حادثًا عابرًا مثل غيره. وبالمثال يتضح المقال، إن شرارة النار إذا قدحت في صهريج بنزين سوف تندلع فيه نار عظيمة، بينما لن يشتعل الشجر الرطب حتى لو أوقدت فيه نار حقيقية.
الوضع السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي والأمني، قبل الحرب العالمية الأولى كان مهيئًا لاندلاع الحرب، ويتفق المؤرخون أن الذي حدث لم يكن منه مناص. العلاقات بين الدول الأوروبية، ووضع الدولة العثمانية، وعلاقة أوروبا بأمريكا، كلها كانت في وضع يهيئها للحرب الشاملة، ولم يكن حادث الاغتيال إلا مجرد قادح لها. (11)
والكلام نفسه ينطبق على الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، وتوسع إمبراطورية جنكيزخان، وتحرير الهند على يد غاندي، وأحداث سبتمبر والربيع العربي، فهي مجرد أحداث، أربكت توازنًا هشًا وضربته في بؤرته الحساسة. وعادة ما يكون هذا التوازن الهش، خادعًا لا ينتبه لهشاشته الغالبية العظمى من الناس.
لم تدرك طائفة الموارنة، ولا غيرها من مكونات المجتمع اللبناني، هشاشة التوازن الطائفي في لبنان، وأنها ستنقلب عليهم، حين ردوا على محاولة اغتيال بيار الجميل بعملية الباص الشهيرة؛ ذلك لأن محاولة الاغتيال لم تكن بذاتها السبب في الحرب، ولا الرد عليها بعملية الباص سببًا كذلك، بل كان السبب هو التوتر الطائفي الجاهز للانفجار.
لم يدرك الصوماليون هشاشة التوازن القبلي والاجتماعي، حين انقلبوا على زياد بري، فامتدت الحرب الصومالية أكثر من عشرين سنة؛ ولهذا فإن الانقلاب بذاته لم يكن السبب في انطلاق الفوضى في الصومال، ولو كان هو السبب لأمكن ضبط الوضع القبلي والاجتماعي بأي قيادة أخرى، لكن غياب هذا التوازن منع أي قوة من ضبطه بعد ذلك.
هذا عن الماضي فماذا عن المستقبل؟ وهل هناك أدلة على تكرار هذا النموذج في المستقبل القريب في العالم العربي؟
الوضع الراهن في العالم العربي في حالة توتر سياسي واجتماعي وأمني وثقافي، ويشتمل على توازنات هشة جدًا، ويخبئ تحت رماده وميض صراع ضخم على الهوية والانتماء، ونُذر حرب طاحنة على المرجعية والمسؤولية. هذا التوازن الهش، شبيه بمقدمات التغييرات التاريخية الكبيرة، التي وردت في كثير من الأمثلة السابقة، والتي يقدح زناد التغيير فيها حدث صغير.
ومن عجائب التاريخ أن خطورة القادم، وإدراك هشاشة التوازن، لا ينتبه لها إلا أقلية صغيرة جدًا من العقلاء، وتفوت على الغالبية العظمى، ليس فقط من العامة، بل من النخبة المثقفة والعلماء. وغالبًا ما تشعر هذه الأقلية المدركة بالغضب اليائس؛ لأنها عاجزة عن إيصال رسالة التحذير لهذه الغالبية الغافلة. (12)
ولو وضعت هذه الملاحظة في إطار علمي، وأجريت عملية مسح شاملة، لمدى إدراك النخب المثقفة وجود خطر كبير خلف واجهة هذا التوازن الخادع، لكان الرقم صادمًا جدًا؛ ولهذا يشعر العقلاء المدركون بالغضب اليائس، لأن المخدوعين ليسوا أغلبية فحسب، بل لأنهم هم المتنفذون في مواقع التأثير الثقافي والاجتماعي والسياسي. (13)
وكمثال بسيط على هذه الغفلة، اعتقاد الغالبية العظمى من هذه النخب أن المؤسسات السياسية، والكيانات الحاكمة في العالم العربي، متماسكة وراسخة ولا يمكن أن يخلخل كيانها شيء. وهي قناعة لم تبن على حب هذه الكيانات، ولا اقتناعًا بشرعيتها، لكنها اعتقاد جازم، بأنها قدر هذه الشعوب، بعد أن طال عهد هذه الأنظمة فاستقر في وجدان النخب أن وجودها أبدي.
التغيير الاجتماعي والديموغرافي والثقافي الهائل، الذي حصل في الخليج وتأثيره وتأثّره بما يجري في مصر واليمن والعراق والشام، يحتوي على “المقادير” المثالية لتحول عظيم لربما نرى آثاره ليس في العالم العربي فحسب، بل في كل العالم. لكن، هذه المقادير لا يمكن أن يراها من يخدعه هذا الاستقرار الظاهري المرسوم بريشة السياسة والإعلام والمؤسسات الثقافية والدينية.
الواقع الحالي في دول الخليج ومصر والعراق وشمال إفريقيا، ليس معتمدًا على تخطيط استراتيجي واستقرار اجتماعي وحضاري، بل معتمدًا بالكامل على ترتيبات إدارية ومالية وسياسية لحظية، مرتبطة بظروف وقتية، ولو تخلخل واحد من هذه الترتيبات أو الظروف لتخلخل التوازن كله؛ ومن هنا، فإن أي لبنة تسقط في هذه الترتيبات تعني “كركبة” التركيبة كلها.
ما هو الحدث الصغير أو الكبير الذي سيؤدي إلى إزالة هذه الواجهة الكاذبة، ويخلط المقادير مع بعضها حتى تنفجر قنبلة نووية يصل أثرها للعالم كله؟ كل شيء وارد، لكن ربما تكون الأحداث السياسية أكثر قدرة على قدح هذه الشرارة خاصة فيما له علاقة بالقيادات السياسية في الدول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1) كان وريث العرش النمساوي الأرشيدوق فرانس فرديناند في زيارة للبوسنة والهرسك حين تم اغتياله على يد مجموعة من الصرب.
3) أكثر من عشرين دولة إذا حسبنا الدول التابعة لبريطانيا مثل الهند وأستراليا ونيوزيلندا.
4) اغتيل إبراهام لنكولن، وجون كندي، من رؤساء أمريكا ولم يحصل شيء يذكر بعد اغتيالهما.
5) كانت هذه الحركة من قبل العمال في ميناء بوستن في 16 ديسمبر 1773، احتجاجًا على إعفاء الشركات الإنجليزية من الضرائب وكانت باعثة للثورة الأمريكية ولم تكن سببًا لها.
6) انطلقت مسيرة الملح في مارس 1930 من “سبارماتى أشرام” إلى “داندي” لمسافة امتدت مئات الأميال، وانضم إلى المسيرة العديد من الهنود حين مرت في مناطقهم.
7) كان جنكيزخان قد سيطر على قبيلته وبعض القبائل المحيطة به، لكنه لم يفكر بالتوسع الحقيقي إلى أن غضب على قبيلة الميركيت الذين أسروا زوجته، فحاربها وانتصر عليها، فدانت له كل منغوليا فاتحةً شهيته لتوسع لم يمكن إيقافه حتى قال “أريد أن أغزو العالم كله، لكن عمري لا يكفي”.
8) إعادة وزير المالية المفصول، وحل الجمعية الوطنية، وإعلان الدين العام، هي التي أججت الشارع الفرنسي، وأدت لاقتحام سجن الباستيل، ومن ثم المسيرة إلى قصر فرساي وانطلاق الثورة الفرنسية التاريخية.
9) حادثة تفجير أوكلاهوما مثلًا كانت تدميرًا لمبنى فيدرالي كبير، لكن لم يترتب عليها أي تبعات محلية فضلًا عن تبعات عالمية وتم التعامل معها كجريمة عادية.
(10 “بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، اتفق عمومًا على أن العالم قد تغير تغيرًا لا رجعة فيه” نعومي تشومسكي من كتاب الدولة الفاشلة ص 140.
12) قال ابن سعد في “الطبقات”: أخبرنا عفان بن مسلم قال: حدثنا زُرَيْكُ بن أبي زريك قال: سمعت الحسن يقول: إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل.
13) لا أبالغ إن قلت إن عدد المدركين لهشاشة الوضع في المنطقة، لا يتجاوز واحدًا في المئة بين المثقفين.

الاثنين، 5 يناير 2015

أوروبا العظيمة


المسلم صاحب رسالة ومهمته عالمية، ولا بد أن يتعامل مع كل البشر، بالسلم أو بالحرب، أولا لأنه مأمور بذلك، وثانيا لأن هذا هو قدر المشاريع العالمية. هذا التعامل إما أن يتم مع دول أو مع تكتلات مختلفة، يحددها العرق البشري والموقع الجغرافي والطبيعة، ومن ثم تتفاوت قدرات وصفات وطبائع هذه التكتلات والأجناس. 

ويعتبر التكتل البشري الممتد من بريطانيا إلى اليونان، ومن إسكندنافيا إلى جنوب إيطاليا وأسبانيا في المنطقة المسماة أوروبا، من أهم التكتلات البشرية التي أثرت في التاريخ ونافست "الشرق الأوسط" في العطاء الحضاري(١). ومع أن الأعراق الأوروبية تتفاوت في التفاصيل، لكنها متقاربة في القدرات والكفاءات والصفات العامة التي جعلتها أهلا لأن تتبادل التفوق العسكري والعلمي والفني على مدار التاريخ.(٢) 

تفوقَ اليونان ثم المقدونيون ثم الرومان ثم الفايكنج ثم "الأمبراطورية الرومانية المقدسة"(٣) ثم البرتغال والأسبان والهولنديون ثم الفرنسيون والانجليز بعد ذلك. وهكذا لم يمر زمان في التاريخ إلا ولأوروبا شي من الحضور والتفوق إما عسكريا أو تجاريا أو ثقافيا وعلميا. ولعل هذا مصداق كلامه عليه الصلاة والسلام "والروم ذات قرون كل ما سقط قرن ظهر غيره" (٤) وقرن هنا بمعنى جيل أو عهد. 

إضافة لذلك فقد استوطن الأوروبيون ما يسمى بالعالم الجديد الأمريكيتين وأستراليا ونيوزيلندا، فصاروا سكانا لأربع قارات بعد أن كانوا يسكنون في قارة واحدة. ولو استبعدنا العنصر الصيني والهندي فهم أكبر كتلة بشرية الآن في العالم ولا يزالون في تكاثر وانتشار. ولعل هذا مصداق كلامه عليه الصلاة والسلام "تقوم الساعة والروم أكثر الناس". (٥)

والأوروبيون هم الوحيدون الذي صمدوا أمام الفتح الإسلامي، واستعادوا المناطق التي فتحها المسلمون مثل الأندلس واليونان والبلقان وبلغاريا ورومانيا والمجر (هنغاريا). ولم يكتفوا باستعادة ما فتحه المسلمون بل كرروا غزوهم لبلاد المسلمين في تسع حملات صليبية(٦)، تلتها عدة حملات احتلال وهيمنة لاتزال قائمة حتى الآن.

هذا التفوق ليس له علاقة باعتناق أوروبا للمسيحية، فقد كان أعظم مجد لليونان والرومان قبل دخول المسيحية لأوروبا، ثم إن أوروبا الحديثة أقوى من أي وقت مضى ومع ذلك فهي علمانية وليست مسيحية. بل إن أسوأ فترات أوروبا هي فيما يسميه الأوروبيون القرون المظلمة (٧) حينما كانت أوروبا متشددة في التمسك بالمسيحية.  وما دام التفوق العسكري والحضاري  ليس مرتبطا بالمسيحية، فهل من تفسير آخر لقدرة أوروبا على أن يظهر لها قرن كلما ذهب قرن؟

اجتاح الإنسان أوروبا قبل أربعين ألف عام (٨)، فوجدها أرضا خصبة ثرية لكن لا يمكن البقاء فيها إلا بمواجهة صعوبات كثيرة، يجب على الإنسان أن يتعامل معها لأجل أن يبقى على قيد الحياة. هذه الصعوبات جعلت من يستطيع أن يتعامل معها هو الذي يتمكن من البقاء، فيكون نسله مشابها له على طريقة ما يسمى بالانتخاب الطبيعي. 

ومن خلال هذا الانتخاب الطبيعي تشكلت مجموعة من الصفات الخلقية التي تكاد تكون مثالية في العنصر الأوروبي. هذه الصفات هي التي مكنت أوروبا -والله أعلم- أن تكون "ذات القرون" وأن يكون أهلها أكثر الناس يوم القيامة. قد تشترك بعض الأجناس البشرية الأخرى مع الجنس الأوروبي في بعض الصفات، لكن لم تجتمع في جنس مثلما اجتمعت في الجنس الأوروبي والله أعلم.

ضخامة الأجسام والتحمل الجسدي

من الملاحظ أن معدل طول وحجم ووزن الشخص الأوروبي، أكبر من معظم الأجناس البشرية الأخرى ولا ينافسهم إلا بعض الأفارقة. لكن هذه الصفة ليست كافية لولا أن صحبها القدرة على التحمل الجسدي لكثير من الظروف الطبيعية، والتي تشمل الأمراض والبرد والتعامل مع التضاريس الصعبة، وتشمل كذلك اللياقة والقدرة على العمل لساعات طويلة. وقد تبين أثر هذا الجلد والتحمل في بنائهم لأمريكا الشمالية مثلا، حيث تحولت خلال مدة قصيرة لوضع ينافس القارات الأخرى في زراعتها وصناعتها وبنيتها التحتية. (٩)

الصبر وطول النفس 

إضافة للتحمل الجسدي، فإن لدى الأوروبيين القدرة على التحمل النفسي والصبر والإصرار وطول النفس سواء على مستوى الفرد أو الجماعة. هذه الصفة نفعتهم في القدرة على تحمل الكوارث الطبيعية والبشرية والاستعداد للنهوض بعدها بكل عزيمة وقناعة، والانطلاق من جديد. وهذا يفسر قدرتهم على النهوض بعد حروب نابليون والحربين الأولى والثانية، والبقاء في مقدمة العالم رغم أن هذه الحروب قتلت منهم عشرات الملايين ودمرت مدنهم ومصانعهم وبناهم التحتية. ولعل هذا ما قصده عمرو بن العاص بقوله "وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة"(١٠) وتأمل كيف نهضت ألمانيا بعد دمار الحرب الأولى، وحاربت العالم كله مرة أخرى، وتأمل كيف نهضت بعد الحرب الثانية بسنوات قليلة، وصارت من أقوى الاقتصاديات في العالم.

التحكم بالعواطف 

الأوروبيون لديهم قدرة هائلة -كأفراد وكجماعات ودول- على التحكم بالعواطف والتعامل مع التحديات النفسية بهدوء وتروي وواقعية. هذا لا يعني انعدام العواطف، لكن الأوروبيين في الجملة أقدر على كبح عواطفهم وترشيدها والتعامل مع أي مشكلة بمعطياتها الواقعية لا النفسية. على المستوى الفردي تجد الأوروبي مثلا حين يصاب بمصيبة في نفسه أو أهله أو بيته أو ماله، عادة أقل ارتباكا أو انهيارا نفسيا من غيره وأكثر جدية في التعامل مع الحدث.(١١) على المستوى الجماعي، تجد قرارات الأوروبيين السياسية والعسكرية أقرب للمصلحة والواقعية من الغضب وردة الفعل النفسية. (١٢)

القدرة على العمل الجماعي والإبداع الإداري 

تميزت الشعوب الأوروبية حتى أيام الممالك والقبائل بالقدرة على العمل المنظم واستثمار القوة في المجموعة، سواء في الحرب أو في العمل والزراعة أو لاحقا في السياسة والتنمية. ولذلك ظهرت فيهم الديموقراطيات منذ أيام اليونان وبداية عهد الرومان.(١٣) وحتى بعد انحسار الديموقراطيات في العهد الثاني من روما القيصرية، بقي العمل الجماعي في كل شؤون الحياة تقريبا. وكانت الامبراطورية الرومانية نموذجا عجيبا للنظام الإداري المتطور في تنظيم الدولة، وتوزيع شؤون الجيش والقضاء والقانون والخدمات والشؤون الاجتماعية. (١٤)

الإبداع الذهني والفكري 

بغض النظر عن سلامة الأطروحات الفلسفية لسقراط وأفلاطون وأرسطو وغيرهم من فلاسفة اليونان والرومان، فقد كان طرحهم دليلا على نشاط ذهني متوقد عند الأوروبيين. بعد سقوط روما انحسر العطاء الذهني الأوروبي لكن ما لبث أن قفز بعد عصر النهضة قفزة جعلته يفرض نفسه عالميا. وفلاسفة أوروبا بعد النهضة هم الذين زودوا العالم بمنظومة فكرية ضخمة عن السياسة والقانون والاقتصاد والاجتماع وقضايا أخرى متصلة بحياة الإنسان. وذلك لا ينفي أن الصين والهند وبلاد فارس القديمة لهم مساهمات فلسفية، لكن لا تقارن في حجمها وتأثيرها العالمي بالفلسفة الأوروبية.(١٥)

الإبداع الفني والهندسي 

قدمت أوروبا للبشرية إبداعات فنية وعلمية وهندسة رائعة منذ أن انطلقت فيها الحضارات. رغم أن الشعوب الأخرى لها مساهماتها وخاصة حضارات الرافدين، لكن ميزة أوروبا هي التواصل في الإبداع، حيث لم تنقطع مساهمات الأوروبيين إلا أيام ما يسمى بالعصور المظلمة، التي سادها الجهل والفوضى والقتال القبلي والمناطقي، أما قبل ذلك وبعده فلم يتوقف العطاء الأوروبي. ونظرة قصيرة على شبكات الطرق أيام الرومان ونظام السير وتنظيم المدن وشبكات المياه والصرف الصحي، تنبئك عن التقدم التقني والتنموي في أوروبا منذ ذلك الحين. (١٦)

الاعتداد بالذات وتميز الانتماء القومي

من طبيعة الأوروبيين الاعتداد بذاتهم وانتمائهم لقوميتهم الصغيرة، التي غالبا ما يكون تشكيلها أقرب للسلالة أو الجنس البشري. والتاريخ الأوروبي حافل بالحروب بين القوميات المختلفة والتمرد المستمر من قبل كل قومية على محاولات الدول التمدد في امبراطوريات. وما يسمى بحرب الثلاثين عاما بين الممالك الألمانية والبوهيمية "التشيكية"، وحرب المئة عام بين إسبانيا وهولندة دليل على هذه الحقيقة (١٧). ولذلك ترى الدول الأوروبية لا تستطيع أن تستعمر بعضها لكنها تستطيع أن تستعمر دولا بعيدة تفوقها في الحجم عشرات المرات(١٨). ولنفس السبب يستمر التمرد في بعض الدول الحالية على السلطة المركزية، مثل أيرلندا على بريطانيا، والباسك على إسبانيا، وصراع الأجناس الثلاثة في بلجيكا. 

نزعة الاستعمار 

كثر السكان في أوروبا فأصبحت الموارد لا تكفي، وهذا سبب توجه الأوروبيين لظاهرة الاستعمار منذ اليونان وحتى الآن. توجه اليونانيون والمقدونيون شرقا حتى وصلوا الهند، وتوجه الرومان جنوبا حتى استعمروا كامل شمال أفريقيا إضافة لبلاد الشام. و في فترة ما يسمونه العصور الوسطى توجهوا بالحملات الصليبية للعالم الإسلامي، ثم جاء عهد الاسكتشاف وغزو الأمريكتين وأفريقيا واستراليا وشرق أسيا. ثم جاء عهد الاستعمار الحديث وغزا الأوروبيون أجزاء كبيرة من العالم في مقدمتها الهند والعالم العربي. هذه النزعة الاستعمارية لا يمكن أن تزول من الوجدان الأوروبي بعد زوالها شكليا، ولذلك تتصرف أوروبا كمسؤولة عن العالم، وضمان مصالحها في العالم حتى بدون وجود احتلال حقيقي.(١٩) 

الواقع الحالي

ادرك الأوروبيون أن الصراعات ليست من مصلحتهم، وفي نفس الوقت أدركوا أنهم لا يمكن أن يتحدوا في دولة واحدة، فكان الحل في مستوى دون الذوبان في دولة واحدة فتأسست الوحدة الأوروبية. ومن خلال هذا الكيان تجسدت كثير من الحقائق المذكورة، وتم تفعيلها لتقوية هذا الكيان وجعله أقوى الكيانات العالمية. ولهذا فربما تنحسر قوة أمريكا أو تنحسر قوة روسيا، لكن أوروبا ستبقى قوة لها دور عالمي مهما واجهت من ظروف. والظريف أن أوروبا الحديثة أقرب لكلام عمرو بن العاص حيث أنها تحقق فيها بقية الصفات وهي (وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك)(٢٠)

وبناء عليه؟

فإن علينا نحن المسلمين أن نستحضر كل هذه الحقائق عن طبيعة الشعوب الأوروبية عند التعامل معهم، ولا نختزل بوصفهم  كصليبيين وكفار واستعماريين. وليس من الحكمة أن نحدد ذلك في مقال واحد، لكن الحكمة كل الحكمة أن ندرس طبيعة أي شعب أو أمة أو جنس من البشر قبل أن نتعامل معه. 

---------------

١) الشرق الأوسط تسمية نضطر لها مع أنها استعمارية مبنية على اساس أن غرب أوروبا هو مركز العالم، ويوصف الشرق والغرب بناء على موقعها، وأول من أعطى هذه التسمية هو ألفريد ماهان صاحب نظرية المجد للقوة البحرية.

٢) لا شك أن هناك فوارق تفصيلية بين غرب وشمال وجنوب وشرق أوروبا، لكن الجوامع المشتركة بين الشعوب الأوروبية هي ما ذكر في هذا المقال.

٣) الامبراطورية الرومانية المقدسة، لم تكن في روما بل كانت في وسط أوروبا، ومؤسسها ملك الفرنجة شارلمان العظيم، وسميت بالرومانية محاولة من شارلمان الزعم أنها امتداد للامبراطورية الرومانية الأولى، وقد سماها هتلر الرايخ الثاني على اعتبار أن الامبراطورية الرومانية الأولى هي الرايخ الأول، والمانيا النازية هي الرايخ الثالث، وللإضافة فقد كان شارلمان العظيم معاصراً لهارون الرشيد وهو الذي أهداه الساعة فظن الأوروبيون أن بها سحراً.

٤)رواه بن أبي شيبة وأبي نعيم والحارث بألفاظ متعددة منها " فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها، والروم ذات قرون كل ما سقط قرن ظهر غيره " ورجاله ثقات لكنه مقطوع على بن محيريز تابعي ثقة.

٥)  لفظ الحديث "قال المستورد القرشي عند عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تقوم الساعة والروم أكثر الناس فقال له عمرو أبصر ما تقول قال أقول ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالا أربعا إنهم لأحلم الناس عند فتنة وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة وأوشكهم كرة بعد فرة وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف وخامسة حسنة جميلة وأمنعهم من ظلم الملوك" رواه مسلم في صحيحه والبخاري تعليقا ورواه أحمد، وبعض ما ورد في وصف عمرو بن العاص رضي الله عنه هو مما جاء في هذا المقال. 

٦) امتدت الحملات الصليبية من ١٠٩٦ الى ١٢٩١ ميلادي، وطول مدتها وتكرارها أحد الأدلة على الإصرار وطول النفس عند الأوروبيين. 

٧) القرون المظلمة تمتد من ٥٠٠ إلى ١٠٠٠ ميلادي، وهي جزء مما يسمى بالقرون الوسطى الممتدة من ٥٠٠ الى ١٥٠٠ ميلادي، وكلا التسميتين منطلقتان من مركزية أوروبا في العالم، ففترة أوروبا المظلمة كانت أوج ازدهار العالم الإسلامي، وأما الوسطى فيقصد بها أنها وقعت في الوسط بين الامبراطورية الرومانية والنهضة الحديثة، فلا اعتبار لأي حضارات أخرى غير الأوروبية. ومن الطريف أن رحلة بن فضلان المشهورة في التاريخ ( ٣١٠ هـ، ٩٢٢م ) حصلت في عهد الفترة المظلمة، وفيها وصف جميل لتخلف أوروبا في ذلك الزمان.

٨) المعروف علمياً أن الإنسان دخل أوروبا قبل ٤٠ الف عام، لكن لم يصل لغرب أوروبا وانجلترا على وجه الخصوص إلا قبل ١٠ آلاف سنة فقط.

٩) ولهذا يسمي الأمريكان المهاجرين الأوائل إلى أمريكا "الرواد" أو "الآباء"، تقديرا على تفانيهم في العمل وتقديم التضحيات الضخمة لأجل تهيئة أمريكا لمن جاء بعدهم.

١٠) سبق تخريج قول عمرو بن العاص في الهامش الخامس. 

١١) يروي الأطباء الذين عملوا في أوروبا -وخاصة بريطانيا وألمانيا- قدرة المرضى على تلقي خبر الإصابة بالسرطان أو الإيدز وقدرة العائلة على التعامل مع الخبر بواقعية.

١٢) رغم أن العنصر الأوروبي هو الغالب على الشعب الأمريكي، لكن الأمريكان لا يتمتعون بهذه الصفة، ويغلب عليهم الاستعجال والتعامل العاطفي وسرعة رد الفعل، وسبق أن كتبنا موضوعاً بعنوان أمريكا على الحقيقة على هذا الرابط هنا.


١٣) هي لم تكن ديموقراطية بالمعنى الدارج، بل كانت مجالس تمثل النبلاء، والذين يحق لهم أن يشاركوا في القرار السياسي أو في اختيار الحاكم. 

١٤) تنظيم الامبراطورية الرومانية المقدسة، وصل لدرجة أنها كانت تمنح الجنسية للمتميزين من رعاياها، وهذه نسخة من جنسية وهبت لأحد الفرسان الأسبان إضغط هنا

١٥) لم يُذكر الإسلام هنا لأنه ليس في مقام المقارنة مع الأطروحات البشرية. 

١٦) من الإبداع الهندسي أن الماء كان يجلب لروما بقنوات تمتد من الجبال، ينساب فيها الماء بدرجة ميلان سنتمتر واحد لكل كيلومتر، وكانت قنوات الصرف الصحي تحت شوارع ومنازل روما وتغطي كل أحيائها تقريبا. ومن الابداع التقني الفردي، الآلة التي اكتشفت في قاع البحر من مخلفات اليونان "الأنتيكيثيرا" وهي ساعة كونية عظيمة إضغط هنا.

١٧) هذه الحروب هي السبب في صلح وستفاليا الذي أدى لنشوء الدولة القطرية الحديثة، وتغليب الانتماء القومي على المذهبي والديني.

١٨) وصل نفوذ الامبراطورية الرومانية إلى فارس والجزيرة العربية والسودان، لكنها لم تستطع تطويع القبائل الجرمانية مطلقا بل إن هذه القبائل في النهاية هي التي أسقطت روما.

١٩) خريطة أفريقيا في أوج أيام الاستعمار ولاحظ كيف تقاسمتها القوى الأوروبية بينما هي متجاورة في أوروبا إضغط هنا.

٢٠) سبق تخريجه. 

مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير.