إذا اعتبرنا إيران رمزا للكيان الشيعي العالمي، فيجب الاعتراف بأنها خدمت تمكين هذا الكيان بكفاءة. تحركت إيران سياسيا ففرضت نفوذها في العراق وسوريا واليمن، وتحركت استخباراتيا فأسست حزب الله والحوثيين والحشد الشعبي وربما ميليشيات أخرى ستعلن لاحقا، وتحركت عسكريا فأعادت بناء جيشها ليصبح من أكبر جيوش المنطقة. في المقابل ما الذي حققه العرب السنة من المغرب إلى الخليج سياسيا وعسكريا واستخباراتيا؟
الحكومات والشعوب
إذا كان الحساب بمقاييس أداء الحكومات العربية، فربما تكون الإجابة أسوأ من كونها فشلت في خدمة المشروع السني، إلى أنها خدمت المشروع الإيراني من حيث تعلم أو لا تعلم. السلطات الحاكمة في العراق وسوريا ولبنان واليمن هي التي مكنت إيران من تلك البلاد، ولا يمكن إعفاء السلطات الحاكمة في الدول الأخرى من المسؤولية.
أما إذا كانت الإجابة مبنية على نظرة شاملة للوضع العربي شعبيا وحركيا منذ انطلاقة الربيع العربي، فالجواب متفائل وواعد جدا. القوة التي تتصدى بكفاءة لإيران وحلفائها في العراق والشام هي نتاج عمل شعبي بعيد عن سلطات الحكومات بل ربما يكون خصما لكثير من الحكومات.
ليس إيران فحسب
الانتصار المطلوب ليس على إيران وحدها بل على كل عدو متربص بالإسلام عموما ثم بالسنة خصوصا. ثم إن هذا الانتصار الذي نتطلع إليه ليس انتصارا عسكريا وأمنيا فحسب، بل تفوق حقيقي على المستوى الحضاري والثقافي.
صار من مصلحة بعض الحكومات أن توقظ الوعي بالخطر الإيراني فأصبح هو القضية الحاضرة في الأذهان. ورغم أن المطلوب وعي شامل بكل الأعداء لكن لا يمنع أن يكون هذا الوعي المحدد بإيران سببا لبعث شعور عام بأهمية الغلبة والتمكين لأمتنا وكياننا الحضاري في العالم كله.
كل الأمة وليس الخليج وحده
مثلما ندرك أن المطلوب هو تفوق عالمي وليس انتصارا على إيران وحدها، فعلينا أن ندرك أن المهمة منوطة بكل الأمة وليس شعوب الخليج بصفتها تواجه إيران حاليا. قد يقال أن عرب المشرق معنيون أكثر بهذا التغيير، لكن الطموح يتسامى إلى تحرك كل المسلمين في بقاع الأرض من الشيشان إلى السودان ومن المغرب إلى أندونيسيا.
وليس من الواقعية أن نطالب المسلمين في حالتهم المتفرقة الحالية، بتشكيل جيش واحد أو بالتحرك المنسق إعلاميا وسياسيا وعسكريا مع تفاوت الأنظمة في توجهاتها. لكن الواقعية هي في مطالبة من يستطيع أن يفكر بشكل مستقل من الشعوب والنخب بتوحيد الهمم ومقاربة الأولويات والحرص على التفكير بنسق واحد.
نصر أمة وليس نصر جيش
النصر الذي نتمناه ويجب أن نسعى له هو تفوق أممي وليس انتصار جيش على جيش أو تغلب دولة على أخرى. وحين نتحدث عن تغلبنا على المشروع الإيراني أو غيره، فإنما نتحدث عن تفوق حضاري يكون التفوق العسكري المادي جزءا منه. وكل الأمم التي سادت حضاريا لم تحقق سيادتها عسكريا دون رقيها الثقافي والاجتماعي والأخلاقي والقيمي.
شيء للامة وشيء للنخبة
حتى يحصل هذا التفوق لا بد من تحقيق سلسلة من الشروط بعضها على مستوى الأمة كلها، وبعضها على مستوى النخب الفكرية والاجتماعية. وبقدر توفر هذه الشروط في الأمة والنخب بقدر ما يحصل التفوق والهيمنة والغلبة الكونية، وبقدر غيابها يحصل الضعف وما أسماه مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار.
هذه الشروط يمكن أن تستقرأ من تجارب الشعوب في التاريخ كما قرأها علماء الاجتماع والمؤرخون، أو يمكن أن يستدل عليها بتوجيهات القرآن والسنة. والحديث عنها ليس إبداعا ولا تميزا فكريا، بل سبق أن بسطت بشكل مستفيض سواء في كتب مستقلة أو ثنايا كلام العلماء والمفكرين.
الشروط على مستوى الأمة
من القوانين الأساسية في سنن التغيير التي تصنع التمكين والنصر، أنه لا يمكن أن يحصل دون تغيير حقيقي في آحاد الأمة بحمل مجموعة من الصفات التي تصنع التغيير. هذه الصفات المسرودة أدناه لا تحصل في كل الأمة ولا حتى في غالبيتها بل تحصل في طليعة منها هي التي تصنع التغيير كما أثبت التاريخ ذلك.
والطليعة لا تتميز بالقدرة الفكرية والقيادية مثل النخبة، بل هم من عامة الناس تميزوا بالوعي والمسؤولية والشعور بالكرامة والتوق للحرية، وما ينتج عن ذلك من جاهزية للتحرك والاستعداد لدفع الثمن والقدرة على التحدي وطول النفس.
الوعي والمسؤولية
أولى علامات النهوض، هو الانتباه عند هذه الطليعة للضعف الذي أصاب الأمة والشعور بالانكشاف، وإدراك الخطر والتفكير بقلق حقيقي تجاهه. ولا يمكن أن يصبح هذا الشعور مفيدا إلا إذا ترتب عليه تشرب المسؤولية لمعالجة هذا الضعف ولو بطريقة بدائية سطحية ساذجة.
الجدية
تنامى الشعور بالمسؤولية، يصنع الجدية والمثابرة ويترجم المسؤولية القلبية والذهنية إلى مسؤولية عملية واقعية، وكلما كان العمل ناتجا عن شعور بمسؤولية كلما كان صانعا للحدث مغيرا للتاريخ. أما إذا بقيت المشاعر دون ترجمتها لجدية ومثابرة فربما تتطبع الشعوب على قدر الهزيمة لمدة طويلة.
الهوية والانتماء
يستحيل أن تنهض أمة دون مظلة تجمعها وتوحد مرادها وهدفها وشخصيتها، ولم تنهض أمة في التاريخ دون هذه الوحدة في الهوية والانتماء. وقوة النهضة لا يحددها قوة الالتصاق بهذا الانتماء، بل لا بد أن تكون الهوية ذاتها قوية، فربما تنتصر أمة لقوة انتمائها لهويتها لكن انتصارها لا يصنع تفوقا حضاريا، لأن الهوية نفسها عنصرية أرضية ليس فيها بعد قيمي.
الكرامة
حين يشعر أحد عناصر أمة ما، بالمسؤولية تجاه أمة ينتمي إليها بهوية محددة، فهو في الحقيقة يحس بقيمته الذاتية كإنسان له عضوية ودور في هذا الكيان. هذا الشعور بالدور الآدمي للفرد في أمة ما، يصنع الكرامة الإنسانية وكلما ازدادت قناعته بمساهمته في التغيير كلما ارتفع معيار الكرامة عنده.
الحرية
إدراك الفرد في أمة ما، أن له كرامة إنسانية هو دافع طبيعي لأن يدرك أن له حقوقا طبيعية لا يحق لفرد آخر أن يصادرها. وبهذا التسلسل النفسي يشعر هذا الفرد بالنزعة القوية للحرية لنفسه ولغيره، ويتملكه هذا الشعور لدرجة الاستعداد لأن يناضل من أجله.
العدل
من الطبيعي لكل من تشرب قيمة الكرامة والحرية لنفسه أن يراها عند الآخرين من أمته، ولا يمكن أن تتحقق الكرامة والحرية للآخرين في وقت واحد إلا بتساوي فرص الجميع بالكرامة والحرية، وهو ما لا يمكن أن يتحقق إلا بالعدل. ولذلك فإن مستوى العدل في أمة يساوي ما لدى أفرادها من شعور بالكرامة والحرية.
التحدي
أي أمة تريد النهوض سوف تتعرض للقمع والحصار من الأمم المنافسة، ولا بد من شعور بالعناد والتحدي والرغبة العميقة بتحمل التبعات حتى يتم التمكين. والشعور بالتحدي يأتي تلقائيا إذا استكملت الأمة الشروط السابقة وفشا في افرادها الشعور بالمسؤولية والكرامة والحرية وقوة الهوية والانتماء.
الصبر
الصبر ليس من طبيعة الشعوب، لأن الجماهير تيأس بسرعة وتمل بعد أن تتعرض للقمع، ويسهل أن تخدع بحلول وهمية أو إجراءات تضليلية. لكن الطليعة إذا اتصفت بالصفات المذكورة عادة تكون صبورة وطويلة نفس ومستعدة لإعادة المحاولة مرة إثر مرة إلى أن تنجح.
الشروط على مستوى النخب
النخب الفكرية والحركية والاجتماعية قد يغلب عليها ممالأة القوي سواء كان مستعمرا أو طاغية، لكن تتميز نخبة صغيرة تحمل هم تحويل الضعف إلى قوة والهزيمة إلى نصر والتبعية إلى تمكين. هذه النخبة يجب أن تتصف بكل مواصفات الطليعة الشعبية بما ذكرناه أعلاه، إضافة لصفات أخرى تخص النخب تحديدا :
الايمان بالقضية
إذا لم يكن من يتصدى للتغيير من النخب قد تشرب القناعة التامة بضرورته فلا يمكن أن يكون مهما في صناعة التغيير. وما لم يشعر بأن القضية قضيته هو شخصيا فلن يزيد على أن يكون رقما عاديا، وكأنه نسخة أخرى من عوام الناس الذين يؤمنون بالمسؤولية بشكل عام. ولم يوثق التاريخ مساهمة ذا بال إلا من قبل القيادات الحركية والفكرية التي تشربت القضية من مفرق رأسها إلى أخمص قدميها.
التجرد للقضية
الإيمان بالفكرة حتى لو كان قويا يصعب أن يحقق نتيجة دون الإخلاص لها والتجرد من كل المؤثرات الأخرى المشوشة عليها. وحين تميل القيادة الفكرية أو الحركية لنوازع الخوف والانتفاع والعلاقات الشخصية والطمع والحسد والغيرة وحب الشهرة، فلن تنجح في تحقيق تغيير تاريخي حتى لو صنعت تغييرا سياسيا أو سلطويا.
وضوح المرجعية
دون المرجعية لا يمكن أن يعرف القائد الفكري والحركي ماذا يريد وكيف يضع خطته ويرسم خريطة الطريق وكيف يتعامل مع التحديات والمشاكل والتفاصيل. والمرجعية هي الفارق بين من يريد التغيير لذات التغيير ومن يريده لاجل تمكين الأمة ونصرها وتفوقها.
ثبات المنهجية
ولإنجاح التعامل مع المرجعية لا بد من منهجية ثابتة في تناول تفاصيلها ومعرفة الأولويات وتضارب المصالح والفرق بين الكليات والتفاصيل، ومتى يكون الإنسان مبدئيا ومتى يكون مصلحيا ذرائعيا. والمنهجية لا قيمة لها إن لم تكن قواعدها ثابتة ويكون الالتزام بخطوطها العريضة راسخا مهما قويت التحديات.
هل توفرت هذه الصفات؟
في نظرة شاملة للعالم العربي خلال العشر سنوات الماضية، يتبين أن هذه الصفات تتشكل وتزداد وضوحا مع الزمن. ولا ينكر أحد مستوى الوعي والمسؤولية الذي يجتاح العالم العربي وكيف تحملتها طليعة بشكل جاد تحت مظلة هوية إسلامية وانتماء ديني واضح بتوق شديد للحرية والكرامة والعدل واستعداد لتحمل التبعات وتحدي المصاعب.
ومن المفارقات التاريخية في العالم العربي أن النخب تخلفت كثيرا عن الطلائع الشعبية المناضلة سواء في اتصافها بالصفات اللازمة للتغيير أو في وجود العدد الكافي منها لإحداث التغيير. والأسوأ من ذلك أن كثيرا من الشخصيات التي كان يعتقد أنها ستكون نخبا مثالية في فترة النهضة إما انقلبت بعد لحظات الامتحان، أو تنحت جانبا وتخلت عن المسؤولية تماما.
وبناء عليه: هل ننتصر على إيران؟
نعم سننتصر على إيران ونتفوق أمميا وحضاريا لكن لا بد لعامل الزمن أن يأخذ وقته. سوف نتفوق أمميا ليس بمواجهة عسكرية وقتال ميداني بل بحملة تاريخية متواصلة مليئة بكل أنواع الصراع الفكري والاجتماعي والأمني والعسكري.
سوف ننتصر باستكمال هذه الصفات التي بدأت تتشكل لتنتظم في وعاء منيع يحمل مستقبل هذه الأمة بكفاءة ويقدم ما تحتاجه من تضحيات ويدفع ما تستحق من ثمن. سوف ننتصر بعد أن نخوض معارك كثيرة مع ذاتنا ومع كيانات سلطوية واجتماعية وفكرية كثيرة داخل أمتنا.
هذا الصراع الذي نخوضه داخلنا لا يحبه أحد ولا يتمناه، وفيه ما فيه من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، لكنه ليس شرا وعسى أن تكرهو شيئا وهو خير لكم. ولم تصعد أمة في التاريخ إلا بنضال داخل ذاتها قبل أن تتفوق على الآخرين.