الاثنين، 24 نوفمبر 2014

هل يكون التطرف أصدق من الاعتدال؟



من طبيعة البشر التدين بديانات ومذاهب، أو تبني اعتقادات وأفكار، (١) بمن في ذلك الملحدون أو اللادينيون "الدهريون"، الذين يعتبرون متمذهبين وعقائديين  حتى لو زعموا غير ذلك(٢). ومن طبيعة البشر كذلك أن يتفاوتوا في فهمهم لديانتهم ومذهبهم أو عقيدتهم، ويتفاوتوا في تبنيها وتطبيقها فرديا وجماعيا، ويتفاوتوا في مدى تأثيرها على حياتهم. وتعاملهم مع الآخرين. 

وفي سياق هذا التفاوت، انتشر مصطلح التطرف والاعتدال (٣) وكثر تداوله في الإعلام والأكاديميا، بافتراض أن له دلالة واضحة ومعنى محدد. وتبع ذلك افتراض آخر، هو أن "المعتدل" أصدق من المتطرف في تبنيه لمذهبه، واعتقاده، وفكره، ودينه، وأكثر قدرة على ترجمة حقائق هذا الدين أو المذهب، وتطبيقه في الواقع. وانتشر كذلك افتراض ثالث هو أن التطرف في المذاهب والأديان والعقائد، مرتبط دائما بالعنف والدم، وترتب على ذلك الافتراض الخوف من التطرف وتقبيحه. 

جولة بسيطة في ثلاث نماذج من الاعتقادات، تعرض هذا الكلام على الاختبار، وتقدم أطروحة مختلفة عن الانطباع الشائع. وما دام الموقف من الشيعة، والتيارات الجهادية، والغرب العلماني قضايا ساخنة، فربما يكون رصد هذه الأفكار والمذاهب، وسيلة للتعرف على صدقية التطرف والاعتدال فيها.

التطرف الشيعي وتحريف القرآن وتكفير الصحابة

تتفاوت مواقف الشيعة بميزان التطرف والاعتدال، تجاه قضايا حساسة كثيرة في مقدمتها قضيتان هما : تحريف القرآن، والموقف من الصحابة. من يوصفون منهم بالمتطرفين يعتقدون بتحريف القرآن(٤) ويكفرون الصحابة، ويتقربون لله بشتمهم، واعتبارهم أعداء لآل البيت، ومتآمرين على خيانة الأمانة(٥). بقية الشيعة يقولون بسلامة القرآن من التحريف، وإن كانوا لا يكفّرون من يقول به(٦)  ويتفادون تكفير وسب الصحابة، وإن كانوا ينفون عنهم العدالة، ولا يجرّمون من سبهم، أو كفرهم، أو خوّنهم(٧). 

السؤال الذي يفرض نفسه هنا، أي الفريقين أقرب لتمثيل الفكر الشيعي الإثناعشري، والأكثر انسجاما مع تعاليمه؟ والإجابة على هذا السؤال تتوقف على معرفة الركن الأساسي الذي يقوم عليه المذهب، أو بعبارة أخرى، التعريف الذي بمقتضاه يصبح المرء شيعيا إثناعشريا، وبدونه ليس شيعيا.

يقوم المذهب الإثناعشري كلّه على الإمامة، ولا يمكن أن يعتبر أي شخص نفسه شيعيا اثناعشريا مهما زعم التشيع، إلا إذا كان يؤمن بالإمامة بتفصيلها المحدد. والشيعة الإثنا عشرية على كثرة مدارسهم ومراجعهم، متفقون على إمامة إثني عشر إماما بأسمائهم المحددة، وأن الأخير منهم اختفى في الغيبة الصغرى ثم الكبرى(٨). ومتفقون كذلك على أن الإمامة أهم أمر من أمور الدين بعد الشهادتين، بل هي قرين الشهادتين. وبذلك فهم متفقون أن الإمامة مقدمة على بقية أركان الإيمان، بما في ذلك الإيمان بالملائكة، والكتب، والقدر، واليوم الآخر، ومقدمة على بقية أركان الإسلام، بما في ذلك الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج. (٩)

يقول الموصوفون بالتطرف، إن الإمامة ذُكرت صراحة في القرآن بالنص على ولاية "علي" بالاسم، (١٠)وأن القرآن تم تحريفه من قبل الصحابة، وإخفاء هذه الحقيقة حتى لا يؤول الأمر إلى "علي". الفريق الآخر يقول: إن النص على ولاية علي (الإمامة)، موجود بالمعنى غير الصريح في آيات كثيرة في هذا القرآن الذي بين أيدينا. وهذا النص لا يحتاج لأن يذكر اسم "علي"(١١) ولا أن يصرح بالولاية بالطريقة التي زعم "المتطرفون" أنها حذفت. 

وحجة الفريق الذي يقول بالتحريف كالتالي: إذا كان القرآن الذي بين أيدينا غير محرف، فلماذا تذكر الصلاة، ويذكر الصيام، والزكاة، والحج باللفظ الصريح، وفي آيات كثيرة، ولا تذكر الإمامة مع أنها أهم؟ ولماذا يتناول القرآن أحكام الزواج، والطلاق، والوضوء، والطهارة، والجهاد، والقتال، والبيع والشراء، بشكل صريح جدا، ولا تذكر الإمامة بشكل صريح؟ ولماذا يسمي القرآن مريم، ويحدد امرأة فرعون ولوط ونوح ويسمي الصحابي زيدا بالأسم الصريح ولا يسمّي عليا بالولاية؟

إذا كان الحال كذلك، فمن الطبيعي والمنطقي أن يكون الفريق القائل بالتحريف هو الأصدق والأكثر انسجاما مع أصل وأساس ومحور المذهب الشيعي. ومن المفارقات أن الفريق الذي لا يرى تحريف القرآن مشهور بالتفوق في علم المنطق، بينما تقف كل مقاييس المنطق الشيعي مع الفريق الذي يرى التحريف. ولهذا السبب لا يجرؤ الفريق الذين لا يرون التحريف على تكفير القائلين بالتحريف بل ولا يجرؤون على التقليل من احترامهم وتوقيرهم وتعظيم مكانتهم كمجتهدين عظماء في التراث الشيعي. (١٢)

أما بالنسبة للصحابة فإن كلا الفريقين متفقان على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- صرح بولاية علي للصحابة في قصص كثيرة. وكلا الفريقين متفقان على ثبوت قصة الغدير بالتواتر، وأنه شهدها عشرات الألوف من الصحابة في مقدمتهم أبو بكر وعمر وعثمان وبقية وجوه المهاجرين والأنصار. وكلاهما متفقان أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أخذ على الصحابة العهد والميثاق بالقبول بعلي إماما بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم هنأوا عليا وقتها بالإمامة.(١٣)

أمام هذا الموقف، فإن كلا الفريقين متفقان أن الصحابة أخفوا هذا الأمر بالكامل واختاروا أبابكر ثم عمر ثم عثمان، وبهذا فالفريقين متفقان على عدم عدالة الصحابة لكنهما  مختلفان  في درجة تجريمهم أو تكفيرهم وتخوينهم وشتمهم علنا أو التقرب إلى الله بإعلان عداوتهم.

وإذا نظرنا لهذه القضية بنفس منطق تحريف القرآن، فإن من يرى تكفير وتخوين الصحابة ويجعل عداوتهم من مبادئ الدين، هو أكثر انسجاما مع أصل المذهب ممن لا يرى ذلك. وإذا كان الصحابة وفي مقدمتهم الخلفاء الثلاثة قد أعطوا العهد والميثاق الغليظ للنبي صلى الله عليه وسلم بإمامة علي، ثم اتفقوا على إخفاء الأمر بالكامل، فهذه ليست خيانة فحسب، بل مؤامرة جماعية تعتبر أضخم مؤامرة عرفتها البشرية. (١٤)

ومن المنطق أن يكون هذا التآمر الجماعي الذي لم يوجد له مثيل من قبل، أكبر جريمة في التاريخ لا يقل عن مؤامرة قتل الأنبياء التي كان يمارسها بنو إسرائيل. والاستنتاج التلقائي لذلك، هو أن عدم وصف من نفذ هذه المؤامرة بأكبر مجرم في التاريخ تقصير في حق المذهب وتقليل من قيمة الإمامة. ومن هنا، فإن من يوصف بالتطرف أكثر انسجاما في موقفه من الصحابة مع مذهبه ممن يوصف الاعتدال.

هذا الجدل طـُرح في مسألتي تحريف القرآن والموقف من الصحابة لان الصورة فيها واضحة، والحقيقة هي أن "المتطرفين" الشيعة هم دائما أكثر انسجاما مع روح المذهب ومنهجيته. ولو قارنت مواقف الطرفين تجاه المهدوية والرجعة والبداء(١٥) والتقية والظهور والطينة، لوجدت الطرح المتطرف أقرب للانسجام مع المنهجية الشيعية من الطرح المعتدل.

التطرف السلفي والتيارات الجهادية 

الذي يصفون أنفسهم بالانتماء للسلفية طيف كبير كلهم يزعم الالتزام بالدليل الشرعي (الكتاب والسنة)، رغم التفاوت الهائل في فهمهم للدين والتصادم في مواقفهم السياسية والاجتماعية. ومعظم الكتاب والباحثين يعتبرون السلفية الجهادية الجناح المتطرف في هذا الطيف، فما مدى انسجام الطرح الجهادي مع زعم السلفية؟ (١٦)

تعتبر قضايا الحاكمية والعالمية والهيمنة والاستعلاء والولاء والبراء ووجوب الجهاد والإعداد له، هي القضايا الحساسة التي يوصف بناء عليها التيار السلفي الجهادي بالتطرف. لكن هذا التيار يبني مواقفه تجاه هذه القضايا على استدلال مباشر وصريح بآيات وأحاديث كثيرة، يعتمد فيها على المنهجية السلفية الأساسية التي لا تهمل شيئا من النصوص وتتعامل معها بفهم "السلف الصالح". (١٧)

والنصوص ثرية جدا في هذه القضايا ولا يكاد يتحدث منظر من منظري الجهاد بأي موضوع منها إلا وأمطرك بوابل من الأدلة الواردة من الكتاب والسنة والمستخدمة في هذا الباب. وإذا قورن الطرح السلفي الجهادي مع الأطروحات السلفية الأخرى يتبين بوضوح تفوق الطرح السلفي الجهادي في ركني المنهجية السلفية وهما الدليل والدلالة، أو بعبارة أخرى يتبين توفر النصوص من الكتاب والسنة ووجود زخمٍ كافٍ من تعليقات السلف تعطيها الدلالة المطلوبة. 

 ولا يمكن مقارعة هذا الكم من الأدلة إلا بسلوك منهج غير سلفي، وذلك بتوسيع اللجوء للرأي، وتقديم أقوال بعض العلماء على الدليل الشرعي، والإحالة للحوادث التاريخية، والتجربة البشرية، والتوسع في أصول الفقه، والنظرة المقاصدية، بدلا من الإحالة لظاهر النصوص من الكتاب والسنة. وهذا المسلك هو في الحقيقة ما يلجأ إليه خصوم الجهاديين حين يردون عليهم، لأن المنهجية السلفية لا تسعفهم، بل تقوي موقف التيارات الجهادية. والظريف أن خصوم الجهاديين من داخل التيار السلفي، يستخدمون نفس المسلك وهو استخدام آلية غير سلفية فيتناقضون ويتبين أن الجهاديين أكثر انسجاما منهم.(١٨)

وتبعا لذلك، فإن من قال أن تراث أحمد بن حنبل وبن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب يقوي طرح التيارات الجهادية، لم يذهب بعيدا عن الحقيقة، وكل محاولات حصار التيار الجهادي تحت ظلال الطرح السلفي (بن حنبل وبن تيمية وعبد الوهاب) فاشلة قطعا. بل إن نتيجة هذه المقارعة ستكون عكسية لأنها سوف تجرّد من يطرح هذا الطرح من وصف السلفية. ولا مفر لمن يقارع التيار الجهادي أن يهاجم السلفية نفسها، لا أن يهاجم التيار الجهادي من داخل مظلة السلفية. (١٩)

التطرف العلماني والنازية 

لا تعتمد العلمانية على نصوص، ولا مراجع دينية، بل تعتمد على فكرة غاية في البساطة، وهي مرجعية اللذة للفرد، والمنفعة للجماعة. ومهما حاول المدافعون عن العلمانية، فلن يجدوا فيها ثوابت غير هذا الثابت، ولن يتمكنوا من إضفاء أي نوع من أنواع الأخلاق والقيم والروحانيات عليها. (٢٠)

ويلخص الدكتور المسيري رحمه الله هذا المعنى بعبارات دقيقة تربط انعدام الأخلاق برموز الفكر العلماني، يقول المسيري: 
" بعد موت الإله، لا داعي للتمحك في ظلاله كما يقول نيتشه، فلا داعي للقول بالأخلاق، أو المساواة بين البشر، أو القيم، أوالغائيات، والتمحك هو عمل جبان غير قادر على قبول وضع الإنسان في عالم بلا قيمة غائية، وفي وجود عرضي زائل لاقيمة له، لذا رحب نيتشه أخيرا بالعدمية ". (٢١)

والعلمانية مثل الأديان ليست شكلا واحدا، لأن اجتهادات البشر في تحقيق اللذة والمنفعة واسعة، وتتفاوت مع الثقافة العامة، والتجربة التاريخية، وآثار الأديان، وحجم وموقع الدولة أو المجتمع، إلخ. ولهذا؛ فإن الطيف العلماني يمتد من النازية والشيوعية المتطرفة، إلى الديموقراطية الأوربية الحالية ( بنسختها الليبرالية ) التي "تحترم" حقوق الإنسان. 

بهذا الفهم للعلمانية، فإن النازية التي نجحت في تضخيم الكفاءة، والتخلص من العقبات التي تقلل الإنتاج، وتطهير المجتمع من العناصر عديمة الفائدة، تعتبر أكثر أنواع العلمانية صدقا في تمثيل الفكر العلماني. والمدقق في الفكر العلماني، يكتشف أن تطور مفهوم حقوق الإنسان، واحترام الأقليات، إنما كان نتيجة قناعة بأنه جزء من مصلحة الجماعة، وليس انطلاقا من قيم وأخلاق وروحانيات، وليس مفاجئا أنه يتفق بشكل غير مباشر مع مفهوم الإبادة، والتطهير العرقي والاستيطان. 

ولهذا فقد لاحظ المفكرون مفارقة ذكية وهي أن القوى الغربية التي اعتبرت إبادة اليهود في ألمانيا جريمة، إنما تخلصت منهم بطريقة أكثر خباثة، هي إنشاء دولة في فلسطين، وتعريض شعب آخر للهولوكست من أجلهم، وهو الشعب الفلسطيني. وكما قال المسيري: "العلمانية زودت الإمبريالية الغربية بإطار نظري، لإبادة الملايين باسم العرقية المادية، والبيولوجية الداروينية. فظهرت اليد الخفية عن آدم سميث، و المنفعة عن بنتام ووسائل الإنتاج عند ماركس، و الجنس عند فرويد، وإرادة القوة عند نيتشه، و قانون البقاء عند داروين، و الطفرة الحيوية عند برجسون، والروح المطلقة عند هيجل"(٢٢)

وكلما تعمقت أكثر في تحليل الظاهرة النازية كلما لاحظت مدى اتساقها في الإطار العلماني وانسجامها مع مفاهيمه وجرأتها في إظهار كل أفكارها ووتصرفاتها دون محاذير ولا مداراة محلية ولا عالمية. وهنا أنقل مرة أخرى من الدكتور المسيري نماذج من الكفاءة الخارقة في العهد النازي: 

"في عام ١٩٣٣ أصدر النازي قانون التعقيم لمنع المرضى من التكاثر وطُلب من كل طبيب ان يبلغ عن كل مولود جديد معوق وبدأت عمليات القتل الرحيم طبقا لمشروع T4 وقُتل بالفعل ٧٠ ألف معاق وعاجز - يأكلون ولا ينتجون - وحسب الإحصاءات الألمانية فإن قتل هؤلاء أدى إلى توفير ٢٣٩ طن من المربى في عام واحد فقط . 

قام الدكتور بوخنوالد - هانس إيسيل - بعمل تجارب طبية على المعتقلين في الدولة النازية، مثل تعريضهم لغرف تفريغ الهواء لمعرفة كم يستطيع الإنسان أن يمكث حتى يموت، وتعريضهم لغازات سامة لمعرفة مدى فاعليتها والتركيزات المطلوبة لإحداث الوفاة، وقام بعمليات جراحية بدون تخدير لمعرفة درجات الألم ومسارات الأعصاب، وقد وفرت الفترة النازية كمية عملاقة من المعلومات الطبية في كافة المجالات، وحتى يومنا هذا، هنا جدل كبير بين العلماء حول جواز استخدام تلك المعلومات أم لا، احتراما للذين ماتوا بسببها .

كان الدكتور راشر النازي يُعرّض مرضاه للتجميد، لمعرفة الفترة التي بعدها يموت الانسان، ودرجة التجمد الكافية للموت، وبالفعل أمد الدكتور راشر العلم بطرق كثيرة لإطالة حياة الطيارين الذين يسقطون في المياه المتجمدة، وكان أُسلوب العمل هو تجميد السجناء تدريجيا مع متابعة النبض والتنفس والحرارة وضغط الدم بانتظام، وقد مات أغلب من جُرّب عليهم، والباقون أصيبوا بلوثات عقلية و أُبيدوا بعد ذلك.

أُجريت في ألمانيا النازية تجارب زرع الغرغرينة في الجروح، كما حُقنت بالميكروبات لمعرفة الأسرع فتكا، والدكتور "منجل" هو صاحب تجارب التوائم، وكما قال "بريمو ليفي" فإن ألمانيا النازية هي المكان الوحيد الذي كان بوسع العلماء أن يدرسوا فيه جثتا توأمين قُتلا في نفس اللحظة، والنتائج التي توصل إليها العلماء النازيون هي نتائج فريدة، لم تتح لغيرهم صراحة."(٢٣)

نعم  لا يوجد نموذج علماني يعتبر الأخلاق والقيم مطلقات، لكن كثيرا من نماذج العلمانية اضطرت لاحترام الأخلاق والقيم، بسبب التوازن التدريجي الذي فرضته المنفعة العامة. بمعنى أن التجربة البشرية التي كانت في فورة الثورة اللادينية، كانت بحاجة لتداعيات وردود أفعال تبني عليها تدريجيا ما يؤدي إلى تفادي الضرر، وتحقيق المنفعة المطلوبة. هذه التجربة هي التي قادت لاحترام الأخلاق والقيم في إطار معين، وليس لانها ذاتها مقدسة وثابتة. 

ولهذا السبب فإن النازية التي تصرح بلا المبالاة بالقيم والأخلاق، وتقدس المنفعة صراحة وعلنا، هي أصدق في تمثيلها للعلمانية من النماذج الأخرى التي تدعي احترام الأخلاق والقيم، لكنها لا تنظر لها كثوابت.

وبعد 
فالشيعة والسلفية والعلمانية ليست إلا نماذج، ولو تتبعنا المذاهب مثل تيارات التصوف المختلفة(٢٤) والأديان الأخرى  الهندوسية (٢٥) والبوذية وبعض فرق المسيحية واليهودية، لربما وجدنا تكرار ظاهرة انسجام المتطرفين أكثر في تمثيل المذهب والديانة من المعتدلين. 



--------------
١)الاعتقاد بوجود خالق فوق الكائنات وخلق المخلوقات لهدف، هو الاعتقاد الأصلي الذي يميل له كل إنسان منذ طفولته كما ثبت ذلك. في بحوث استغرقت سنوات أجرتها جامعة أكسفورد، بقيادة أستاذ علم النفس جستن بارت إضغط هنا.

وبالنسبة لنا نحن المسلمون فهذا ليس فيه جديد، فقد أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه "كل مولود يولد على الفطرة" بل إن البحوث أثبتت الجزء الثاني من الحديث وهو تأثير الابوين والبيئة على نوعية التدين الذي يتدين به الإنسان (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ونشرت هذه الملاحظة في الميادين العلمية وهذا نموذج منها في كتاب" الدين وعلم النفس" من تأليف أستاذ علم النفس رالف وود إضغط هنا.


٢)ممن وصف الإلحاد واللادينة بـ "نظام اعتقادي"  الفيلسوف باجيني جوليان في كتابه (الإلحاد: مقدمة مختصرة).

٣)التطرف هنا يقصد به المعنى الشائع، وهو التشدد في تطبيق تعاليم الدين أو المذهب أو الاعتقاد.

٤)في هذا الكتاب (القرآن والتحريف، تأليف عبد الرحمن السيف) تتبع لكثير من أقوال علماء الشيعة بتحريف القرآن إضغط هنا.

٥)ممن يتبنى تكفير وتخوين الصحابة من علماء الشيعة الكليني والمجلسي والمفيد والكشي والبحراني والكاشاني والحويزيني والقمي والطوسي والخوانساري والخميني، وغيرهم من علماء الشيعة الكبار، والمجال لا يتسع لنقل تفصيلي ونختار نموذجين فقط :
جاء في كتاب الروضة من الكافي “كان الناس أهل ردة بعد النبي، إلا ثلاثة المقداد بن الأسود، وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي” (٨/٢٤٥). وفي حياة القلوب للمجلسي قال “هلك الناس كلهم بعد وفاة الرسول، إلا ثلاثة أبو ذر والمقداد وسلمان”. (حياة القلوب) للمجلسي فارسي (٢/٦٤٠).

٦)في هذه المدونة جمعت نقولات عن علماء الشيعة الذين لا يؤمنون بالتحريف، لكنهم يعظمون ويوقرون من يقول بالتحريف، ويعترفون لهم بالعلم والمرجعية إضغط هنا.

٧)الشيعة الذين لا يكفرون الصحابة لا يعترفون للصحابة بالعدالة، ويتفقون مع من يكفر الصحابة أنهم خانوا الأمانة لكن يحجمون عن التصريح بالتكفير والتخوين. خذ هذا التعليق المعتبر عند الشيعة كنموذج إضغط هنا.

٨)اتفاق الشيعة على الإمامة بتفاصيلها المعروفة لا يشكك فيه أي شيعي، لكن من باب التأكيد نحيل إلى قول المفيد “واتفقت الإمامية على أن الأئمة بعد الرسول صلى الله عليه وآله اثنا عشر إماما” أوائل المقالات/ الشيخ المفيد ص ٤١.

٩)لا خلاف بين الشيعة على تقديم الإمامة على بقية أركان الإسلام، عن أبي جعفر، قال: (بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة، والزكاة، والحجّ، والصوم، والولاية)، قال زرارة: قلت: وأي شيء من ذلك أفضل؟ فقال: (الولاية أفضل لأنّها مفتاحهنّ)(الكافي 2/18، المحاسن 286، العياشي 1/191، البحار 68/332، 82/234، إثبات الهداة 1/91، الوسائل 1/13). وللمزيد من الروايات إضغط هنا

١٠)تتفاوت أطروحات من يقولون بالتحريف على ثلاث مستويات 
الأول من يزعم وجود قرآن كامل ثلاثة أضعاف حجم القرآن المعروف(مصحف فاطمة) إضغط هنا.
الثاني  من يزعم حذف سور كاملة مثل سورة الولاية".إضغط هنا.
الثالث ، ومن يزعم حذف آيات مثل "وجعلنا عليا صهرك" إضغط هنا.


١١)الذين لا يؤمنون بتحريف القرآن، يحتجون بآيات ليس فيها أي تصريح بعلي، ولا قرينة تدل عليه، ويعرضون تفسيرا متفقا عليه عندهم في دلالتها على ولاية علي ومن نماذج هذه الآيات :
(إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) ٥٥ المائدة 
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ١١٦ التوبة 
(ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه إنما أنت منذر ولكل قوم هاد) ٧ الرعد 
(ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين) ٦٧ المائدة 

١٢) راجع الهامش رقم ٦.

١٣) هذا موقع خاص في الشبكة العنكبوتية بواقعة الغدير والتفاصيل الواردة في هذا الموقع لا يشكك فيها أي شيعي إضغط هنا.

١٤) لهذا السبب فإن متطرفي الشيعة يتقربون إلى الله بلعن وسب الصحابة وبذل الوقت في الدعاء على أبي بكر وعمر ويسمونهم صنمي قريش إضغط هنا.

١٥) البداء معناه بالمفهوم البسيط أن الله (حاشاه) يغير رأيه، والمتطرفون يعتقدون أن البداء يؤخذ على معناه الحقيقي، بينما المعتدلون يحاولون البحث عن تفسيرات أخرى له. وكل شواهد البداء تؤيد موقف المتطرفين، وأنهم أصدق من المعتدلين في ذلك، ومن نماذجها أن الإمامة انتقلت من اسماعيل بن جعفر إلى موسى بن جعفر، رغم أن الله كتب بزعمهم أن الإمامة للأكبر سنا، فحين مات إسماعيل قبل وفاة أبيه، غير الله رأيه (حاشاه) فنقل الإمامة لموسى. 

١٦) يمتد الطيف السلفي مما يسمى بالجامية والمدخلية إلى السلفية الجهادية مرورا بجماعات وتيارات كثيرة بينهما، يجمعها دعوى، أو زعم الالتزام بالدليل الشرعي. (الكتاب والسنة)

١٧) راجع أي مطبوعة أو موقع أو حديث لرموز التيار الجهادي، تجد هذه المعاني واضحة ومتكررة مع الاستدلال "الثري" بالأدلة من الكتاب والسنة، وتأييد ذلك بأقوال الصحابة والتابعين وعلماء "السلف".


١٨) لهذا السبب أكرر ما قلته في مقالي السابق "تحديات الظاهرة الجهادية" أنه لم يجرؤ أحد من المخالفين للتيار الجهادي من داخل المظلة السلفية، بمناظرة رموز التيار الجهادي.

١٩) ولهذا فإن المطروح في الإعلام العربي لمواجهة التيار الجهادي من خلال شن حرب على السلفية، أكثر انسجاما مع نفسه من مواجهة الجهاديين بطرح سلفي مقابل.

٢٠) هذا اعتراف من موقع علماني معتبر أنه لا توجد مطلقات ولا ثوابت في العلمانية، وكل الأمور نسبية وقابلة للتغيير إضغط هنا.

٢١) موسوعة المسيري (اليهودية والصهيونية) ٢/١٤٢.

٢٢) العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة د. عبد الوهاب المسيري دار الشروق طبعة ٢٠٠٢ المجلد الأول ص ٢٤٠.

٢٣) العلمانية الجزئية العلمانية الشاملة د. عبد الوهاب المسيري دار الشروق طبعة ٢٠٠٢ المجلد الثاني.

٢٤) التصوف الحلولي المتطرف (تصوف بن عربي والحلاج) أكثر انسجاما مع مفهوم التصوف من التصوف البسيط، بتلاوة أذكار غير مشروعة، لأنه يخدم مفهوم السمو الروحي المزعوم.

٢٥) الهندوسية العنصرية التي تفرق المجتمع لطبقات. وتهين طبقة المنبوذين. أكثر انسجاما مع الهندوسية من الهندوسية الملطفة، التي تكتفي بفكرة حلول الآلهة في كل شيء.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق