ترأيت له وأنا القادم من الماضي كإسطورة من متحف الحضارة سمح للزوار برؤيته .
لم يستطع التعبير بالكلمات لعدم قدرته على تجاوز المفردات الثلاث التي استقبلتني بها عيناه قبل أن يبوح بها لسانه .
أنت تركي ؟
متى طلعت من السجن ؟
أنا أحبك !
أختزل كل تساؤلاته وإنطباعاته بهذه الأسئلة والإفادات ، لم يشأ أن يفارقني لحظة وهو الصغير المنهك من أول النهار ، لعب مع الكبار لعبة السهر فخسرها بينهم ، وربحها معي ، نام بجانبي وهو يدعي القدرة على مقاومة احتياجه للنوم ، لم يميز أحداً غيري فلم يعر الرجل الذي أعطاه ظهره وهو في عمر أحفاده أي إهتمام ، ولم يعلم أن ذاك الكهل لم يلاحظ وجوده أصلاً ، فقد تعود على تجاوز مخالفات الصغار للعادات والتقاليد تحبيباً لهم بمجالس الكبار .
أردت ترك إنطباعٍ في نفسيته عني ، وأن يوافق ما سمعه ما رآه ، فالصغار قد صنعوا في خياله شيئاً عظيماً إسمه تركي .
صادقته في يوم وليلة وأصبحت الصديق الدائم والوحيد ، أتجاذب معه أطراف الحديث القصير ، وأعطيه من الأسئلة ما يستطيع إجابته بنعم ولا ، كي لا تتزاحم الكلمات القليلة في قاموسه مع عدم الادراك ، وليكون الصديق الفاهم الناضج :
هل تريد أن نذهب إلى مشار يا عبدالرحمن ؟
هل تريد أن نرى السد يا عبدالرحمن ؟
وعندما رأى طريقاً صعباً يوصل السائرين خلفه إلى حيث لا يرى .
قال بلغة الصديق الواثق :
رح مناك !
خنقتني العبرة من فرحتي بطلبه وسأقول أمره ، فقد رأيتها في عينيه ساعة إطلاقه شخصية الصديق المخلص الوفي .
يالله جاء إلى الحياة ولم أره ، وقابلته وهو طفل يدرس في المدرسة ، ولم يعرفني إلا من حكايات والدته والصغار أقرانه ، ممن يذكرني أو زارني .
قصة لقائي بعبدالرحمن سأنساها يوماً ما ، أو ربما نسيتها الآن وأنا أكتبها ، لكن ذاكرة الأطفال ستحتفظ ببعض التفاصيل ، وسيحفظ عبدالرحمن شيئا من لقاءه بي ، كما حفظت أنا شكل الجبل المطل على مشار واستجلبته من الذاكرة بعد ثلاثين سنة من رؤيتي له ..
حايل _ قرية القاعد .
الثلاثاء ٨ من شهر الله المحرم ١٤٣٥ من هجرة المصطفى .
١٢ نوفمبر ٢٠١٣ م .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق