الخميس، 8 مايو 2014

المثقف في فلك المستبد.. أمراض المثقفين في هوامش الأنظمة الشمولية





يتحرك المثقفون الذين يعيشون في كنف الأنظمة الشمولية، داخل فضاء ضيق محدد سلفاً من الحاكم، وممنوحٌ تكرماً، له علاماته المسكوت عنها واللامتكلم فيها، والجميع مجبور على أن يتقنوا البقاء داخل هذا الهامش، ولا يتجاوزونه بأي حال من الأحوال.


وطول المكث في هكذا هوامش له تبعاته الخطيرة في تشكيل جوٍ غير صحيٍ، يعاني من أمراضٍ نفسيةٍ وتربويةٍ وسلوكيةٍ، تطال المجتمع والفرد، تتراكم مع الأيام حتى تصل إلى مستوى صبغ الثقافة بصبغتها، فيحق للمتابع أن يقال إن ثقافة هذا البلد مسخ، أو إنه يعاني من ثقافة مريضة.


ومع الثورة المعلوماتية الأخيرة، لم يتحسن الوضع، بل أصبحت الرقابة ألصق، والوصول للشخص أسهل من ذي قبل، فلم يستطع المثقفون الخروج من هامشهم الموميائي، لأنهم وببساطة رهن الملاحقة والعقوبة وإرهاب الأنظمة. فتجدهم في كتاباتهم وأحاديثهم يستحضرون هذا الوضع الإرهابي، فيصدق فيهم قول القائل (في فمي ماء).


وباستعراض هذا الموضوع في مقالة كهذه، أظن أنني لست بحاجة للتأكيد على أن التافهين من أصحاب الأقلام الرخيصة، ليسوا معنيين فيما نتحدث عنه، بل الكلام موجه للمثقفين الحقيقيين، ممن لديهم شيء من المسؤولية، ومع ذلك وقعوا في هذه الأمراض الثقافية. كما أن من نافلة القول أن الكلام هنا ليس من ناقدٍ يضع نفسه نداً لند، بل هو على أحسن تقدير من قارئ يرى أن من حقه أن يوصل كلمته، ووجهة نظره فيما يراه لمن هم في مقام أساتذته.


والمحاولة هنا هي لرصد مجموعة من الأمراض أو الإشكالات، أثارها ما دار حديثاً بين مجموعة من الكتّاب، وارتفعت حدته، حتى تحدث فيه غير المتابع. والمتأمل أن يصل الصوت لتناقش القضية من هذا المنظور، لعله يتلافى ما سيذكر بين هذه النخبة المتميزة من علماء وكتاب ومثقفي الأمة.


وسأفترض أنني من خارج هذا الهامش، أو أتكلم بلسان شخصٍ يرى الهامش بزاوية بانورامية، شمولية، تسمح له بملاحظة ما يصعب على الموجودين داخل هذا الهامش أن يروه لطول المكث والاعتياد.


أول ملاحظة سيرصدها الزائر لهذا الهامش، هي النرجسية الطاغية لدى الكثير من المثقفين، ولعلك تصاب بصعقة من ضخامة الأنا لديه، وكيف تشربتها نفسيته، حتى أصبحت تقرؤها في كل ما يكتب، بل حتى في اختيار مواضيعه، أو طريقته في التعليق على ما يعرض عليه، أو في تفضيله لكاتب على كاتب. فما يكتبه يعبر عن ذاته لا قضيته أو رسالته. والنرجسية إن كانت سروراً بثناء الناس فلا غبار عليها، فهي داخلةٌ في قوله ( عاجل بشرى المؤمن )، لكن إشكاليتها أن تصبح أساساً للتفكير، وبناء المواقف، ووضع الخطط الثقافية، فهنا ستتحول إلى مرض، وقد تصبح وباءً يدمر كل الحقل الفكري.


المرض الآخر من أمراض الهوامش الضيقة، نزعة الأستاذية، التي مبعثها مخزون ضخم في اللاشعور بالمرجعية والإمامة في كل علمٍ وفن. ولو تأملت بالنظرة البانورامية المذكورة سابقاً، ما يكتبه بعض المثقفين، لما خالجك أقل شكٍ أن الكاتب يعيش في وجدانه دور المرجع والموجه في الفهم والتصورات. صحيح أن البعض يكتب بطريقة متواضعة ظاهرياً، مليئة بعبارات احترام القارىء وتقديره، لكن الصورة النهائية مشحونة بالأستاذية والمرجعية.


ففي الأجواء المنفتحة على الحرية، يصعب أن ترى الأستاذية إلا فيمن يستحقها فعلاً، وهم غالباً متواضعون فكرياً، ولك أن تستحضر أساتذة العلوم في الأنظمة الحرة وتقارن. بل إن كل من يتقمص هذا الدور عندهم يصبح مدعاةً للتهكم والسخرية، ولن يستمر في الساحة أبداً.


المرض الثالث الذي ستلاحظه، هو ما يمكن تسميته الشللية الثقافية، والانتصار للصديق أو مجموعة الأصدقاء على حساب الفكرة، ومهما كانت التفاصيل. والمقصد هنا ليس الوحدة الفكرية عند تيار بعينه، التي يترتب عليها تفاصيل الرؤية لقضية من القضايا، فهذا طبيعي ومطلوب، وهو ملاحظ حتى في أكثر الأجواء انفتاحاً. لكن المقصود هو الانتصار العصبي، لصديق فكري في كل طرحه لمجرد القرب من الكاتب شخصياً. ولعل هذه الحالة مرجعها الشعور الجمعي بتوفر الحماية من القمع في حال التعاضد والتكاتف.


ورابع هذه الأمراض وقوع المثقف أسيراً أو رهيناً للظروف، وبما تحمله كلمة (أسيرٍ) من إيحاءات التقييد، فقد سمى الكواكبي رحمه الله مواطني دول الاستبداد بالأسرى. والكاتب الأسير أو المرتهن، لا يعتقد أن هناك أبعاداً أخرى وزوايا مختلفة للقضية، فهو لطول تحركه في بعده الأول، تلبّس نظرةً قاصرة، لا تستطيع أن تتجاوز به حدود الزمان والمكان، فضلاً عن إعطائه نظرةً بانورامية للمشهد كاملاً. فأصبحت ترى النتائج المضحكة الخاطئة، يكتب مقالاً أو كتاباً في قضيةٍ لم يمسك إلا طرفاً من أطرافها، فيأتي بعد فترةٍ تطورات تهدم كتابه من أساسه. ولعله يستحسن التذكير بأن المثقف الحقيقي هو من يدرك أن ظرفه الذي يعيش فيه، إنما هوجزء من أجزاء كبيرة ممتدةٍ، في الزمان والمكان والأحوال والأحداث.


المرض الخامس نزعة الشراسة وفتل العضلات، على من لا يملك القدرة على العقوبة، والسكوت عن كل جهة لديها قدرة في إلحاق الأذى مهما صغر، وهذا مع قدحه في الأمانة والموضوعية العلمية، قادح في المروءة والرجولة ومكارم الأخلاق. وهو مرض متدرج متفاوت النسبة، يبدأ بالسكوت عمن يستطيع الإيذاء، وينتهي باستعداء القوي على الخصم الفكري، مروراً في محطة المدح الكاذب والنفاق الظاهر. والمضحك المبكي هنا أن هذا القوي هو من كبل المثقف وخط له الحدود، فهو الأولى بالنقد والفضح.


ومن جنس هذا المرض، أن يصنف المثقف الآخرين بطريقة تسمح له بصناعة مجموعةٍ يستمتع باستعراض عضلاته عليها، ولو كان تصنيفه تنميطاً بأن يبني وصفاً كلياً على مقولةٍ واحدةٍ من عرض ألوف المقولات، ولعل هذا راجع إلى رغبتهم في علاجٍ نفسيٍ لتشرب شخصية الشجاع، أكثر من إقناع القراء والمتابعين. ولذا تجده في حال شمر عن ذراعه للنزال، كأنما هو ربيعة بن مكدّم أو صياد الفوارس، يأخذ مكانه الطبيعي كفارس هيجاء لا يُشق له غبار.


سادس هذه الأمراض، هو سعي المثقف لتمغيط المادة المسموح بالحديث فيها، داخل الهامش الضيق، بجهدٍ معتسف محاولاً الكذب على نفسه بأنه قفز الحاجز وتجاوزه، وهو لم يبرح مكانه. وهذا التمغيط والإسهاب ليس شرحاً لفكرة، أو إيضاحاً لغامضٍ ينغلق فهمه على البعض، بل هو تأويل متكلف يلجأ له عادةً من تاقت نفسه للشجاعة ولم يملكها، وتمنت الحرية ولم تجدها.


وآخر هذه الأمراض، هو تأكيد لما سبق، ومرتبط بكثير من هذه الأمراض، وأقصد غياب التجرد، واتباع الهوى، وهو ليس مرضاً خاصاً بمن يعيش في الهوامش الضيقة دون غيرها، لكنه لديهم أعظم وأوضح فلماذا؟


أولاً: لأن الكاتب في جو الحرية لن يستطيع فرض نفسه كمثقف إلا بقدراته الذاتية، بدون دعم أصحاب النفوذ.


ثانياً: لأن جو الحرية يزيل الضغوط النفسية التي تجعل التحيز حتمياً.


وتأكيداً لما قيل، فإن هذه المقالة ليست من ناقدٍ للشأن الثقافي، بل هي لا تعدو أن تكون محاولةً من متابع لرصد بعض ما تتشبع به الساحة، وعلى أقل تقدير من وجهة النظر الشخصية، التي قد لا يوافقني عليها غيري، وأجزم أن هذه الأمراض وإن استطاع البعض التخلص منها، إلا أنها ستبقى صبغةً عامةً للمشهد الثقافي، لن يتخلص منها إلا في فضاء الحرية المفتوح.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق