كل فكرة من هذه الأفكار تستحق مقالا كاملا، لكن نظرا لتقارب معانيها كان من الأفضل الكتابة عن كل واحدة بشكل مختصر وجمعها في مقال واحد، ولعل الله يعين ونتوسع في بعضها لاحقا بمقالات كاملة.
رأيك ليس داخل دائرة السنة
لك الحق أن تطرح أي فكرة وتنسبها لنفسك، لكن ليس لك الحق أن تنسبها لدين معين أو مذهب إلا بدليل يثبت نسبتها لذلك الدين أو المذهب. قضايا ثابتة بإجماع الصحابة وعمل بها الخلفاء الراشدون، واتفق عليها الأئمة الأربعة، ثم يأتي كاتب أو "مفكر" مصنف إسلاميا يخالفها وهو متكئ على أريكته، ويدعي أن رأيه هو رأي أهل السنة. بإمكانك أن تنكر حد الردة أو حد الرجم أو تنفي عدالة الصحابة، لكن يستحيل منطقيا أن تَعتبر هذا الرأي داخل دائرة أهل السنة. الإسلام (السني) قبل أن يكون تعاليماً محددة فهو منهج في التلقي، ومنهج في الفهم، ومنهج في التطبيق، ومنهج في الاختلاف، ومنهج في التعامل، ولم يختلف أهل السنة عن الطوائف الأخرى بالأحكام والفروع، بل اختلفوا بالمنهجية في هذه الأمور. ولا يمكن أن يكون الخلاف معتبرا إلا إذا كان منطلقا من نفس المنهجية، ومختلفا فقط في فهم النصوص أو في ترجيح نص على نص أو فهم على فهم. أما الخلاف الذي سببه استخدام منهجية أخرى في التلقي والفهم، فهذا خلاف غير معتبر عند أهل السنة.
ليس لنا الخيرة
يقول تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ). قد تغلب الإنسان شهوته ويقع في حرام أو يغلب عليه الكسل، فيقصّر في واجب ولكن يبقى في دائرة الإسلام والسنة، لكن أن يرفض أمرا شرعيا ثابتا بحجة أنه غير مقتنع به، وقد ثبت بالكتاب أو في السنة، فهنا لن يبقى في دائرة الإسلام أو على الأقل دائرة السنة. والحقيقة أبعد من ذلك فلا يكفي أن ترضى بحكم الله، بل لا بد من التسليم في أعماق القلب بأن هذا هو الحق، حتى لو حدثتك نفسك أو شياطين الإنس والجن بأنه مخالف للعقل و"الإنسانية"، (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما). ولذلك فإن مجرد طمأنينة القلب لأمر دل عليه نص شرعي أو أجمع عليه الصحابة أمر يجلب الأجر والمثوبة، والعكس صحيح فعدم الأرتياح له أمر يجلب الإثم والعقوبة.
حقيقة التوحيد
تعلم الكثير منا أقسام التوحيد الثلاثة، وتخصص البعض فيها في دراسته، ومع ذلك بقي غير مدرك للتوحيد ولا مطبقا لحقيقته. لا ننفي أهمية الجانب النظري في معرفة توحيد الألوهية والربوية والأسماء والصفات، لكن لا يمكن أن يتحقق التوحيد إلا بتشرب هذه المعاني وترجمتها في وجداننا وتفكيرنا وتصرفاتنا. وكثير ممن أرهقونا بالحديث عن توحيد الألوهية، يعظمون البشر بصورة أشد من تعظيمهم لله، ويقدمون طاعتهم من الناحية العملية على طاعة الله، فكيف يزعمون التوحيد؟ آخرون يطيلون الحديث عن توحيد الربوبية ولا يكترثون بأي تشريع خارج عن دائرة الإسلام، فهل هذا توحيد؟ ثم ما الفائدة أن يتعلم المسلم أن الله هو السميع والبصير والعليم بلا تكييف ولا تعطيل، وهو ينظر لغير الله بأن له سمعا وبصرا أعظم من سمع الله وبصره؟ وما الفائدة أن يتعلم أن الله هو الرزاق بلا تأويل ولا تمثيل، ثم يعتبر أن المخلوقين هم الرازقون وليسوا مجرد سبب من أسباب الرزق يهيئه الله ويهيء غيره؟.
المسافة بين الحكم والصلاة
ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله "لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة". السر في اعتبار الحكم أول عروة تنقض، أن الحكم أكثر أشكال التنظيم البشري تعقيدا وتشابكا وتداخلا وسعة وشمولا في التجمعات البشرية. وعلماء الإدارة يقولون إن أنظمة الحكم للدول الكبيرة، لا يمكن أن ينافسها أي مؤسسة إدارية أو شركة حتى لو كانت عالمية وبرأسمال فلكي. والسر في اعتبار الصلاة آخر العرى انتقاضا، أنها في الجهة المقابلة للحكم تماما، فهي العبادة الوحيدة التي يمكن أن تطبق فرديا ودون أي شروط. فالمصلي لا يحتاج إلى اكتمال النصاب كما في الزكاة، ولا يعذر بسفر أو مرض كما في الصوم، ولا يشترط عليه الاستطاعة كما في الحج. بل إن الصلاة تجب حتى لمن فقد الحركة والنطق ولم يبق له إلا عقله، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها حتى لمن كان في مواجهة العدو في لحظة احتدام القتال. وبين الصلاة والحكم طيف واسع من الواجبات التي تتدرج بتعقيدها حتى تصل لأكثرها تعقيدا وهو الحكم. وأجمل ما في هذا الحديث أن الحكم نفسه عروة من عرى الإسلام، وهذا مصداق إجماع الأمة على وجوب إقامة الحكم الإسلامي بشروطه وأركانه. وهذا الحديث عظيم عن مدى واقعية الإسلام، وقدرته على التمدد والانكماش، ثم إعادة التمدد بعد زوال الإنكماش كما أثبت التاريخ ذلك.
السلفية المبعثرة
كثرة التلاعب بمفهوم السلفية أخرجها من هيبتها ووضوحها حتى لم يعد لها تلك الدقة وذلك التأصيل المنضبط. يزعم كل من ينتمي للسلفية الإلتزام بالدليل الشرعي على طريقة السلف، وهذا يعني ضرورة تقديم النص الشرعي قبل كل رأي أو طرح بشري، فهل هذا هو الحاصل؟ الحقيقة تخالف ذلك فالكثير ممن ينتسبون للسلفية يسلكون مسالك المناهج الأخرى، إما بالهوى أو سعيا وراء مصالح دنيوية أو انتصارا لحزب أو جماعة. بعض السلفيين الجهاديين مثلا يكفرون حركات جهادية أخرى، مشهود لها بسلامة المنهج فماذا تركوا للخوارج؟ سلفيو حزب النور في المقابل يضعون السيسي في الفردوس الأعلى فماذا تركوا للمرجئة؟ سلفيون آخرون يعطون بعض الحكام العصمة فماذا تركوا للشيعة؟ غيرهم يدعي أن الحكام يطلعون على أسرار لانعرفها، ولا نستطيع أن نعرفها، وبذلك لا يجوز الاعتراض عليهم فماذا تركوا للباطنية؟.
الإعجاز التشريعي
في التشريع إعجاز عظيم، أهم وأكبر من أسرار تحريم أمر لما فيه من ضرر، وسر إيجاب أمر لما فيه من فائدة. الإعجاز الأهم هو كيف صارت شريعة الإسلام شاملة لكل زمان ومكان، ولكل الظروف، ولكل أنواع البشر، مع أن فترة التشريع الحقيقية عشر سنوات فقط، في مجتمع صغير، في مدينة صغيرة هي المدينة المنورة؟ والأعجب من ذلك أن معظم التشريعات نزلت استجابة لأحداث، فهل كان التشريع ليحصل صدفة تبعا لحصول الأحداث صدفة؟ أبدا، فالله مقدر الأقدار، والذي أراد لنا هذه الشريعة الشاملة، هو الذي ساق الأحداث في زمن النبوة، حتى تكون نماذج مثالية يبنى عليها كل الأحداث في كل زمان ومكان. وأتم ذلك سبحانه بأن آتى نبيه جوامع الكلم، وألهمه التعبير الواسع الذي جعل الأحكام قواعد عامة تتشكل في جسم كامل متجانس. ثم ببركة التربية النبوية كان جيل الصحابة نموذجا للفهم الصحيح للمنهج النبوي، وتطبيقا سليما لتعاليم الكتاب والسنة، فكانت تجربتهم خير توضيح وبيان. وكتب الله أن نتعلم منهم طريقة التعامل مما لم يحصل في عهد النبوة، مثل اختيار الخلفاء ومثل أحكام الخلاف الدموي بين المسلمين. المهم هنا ليس بيان هذا الإعجاز فقط، بل التسامي فخراً بعظمة هذا الإعجاز، والتعلي به على المناهج الأخرى، واعتباره سببا لمزيد من الالتزام بهذه الشريعة العظيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق