ذُكر بنو إسرائيل في القرآن أربعين مرة، وتكرر الحديث عن قصصهم التفصيلية مرات كثيرة، فلماذا الإكثار من الحديث عنهم في القرآن؟ سؤال طبيعي يطرحه كل من يرى هذا الكم الكثير من الآيات التي تتناول قصصهم.
ولا يكفي التفسير المستقل لكل آية أو آيات في سياق واحد، فلابد من إجابة كليّة شاملة عن كثرة الحديث عنهم وتكرار القصص بسياقات مختلفة، ولابد لهذه الإجابة أن تليق بالمقاصد العظيمة للقرآن.
ومحاولات الاختزال باعتبار هذا التكرار مجرد تحذير من اليهود، طرح ساذج يقوله الكثير من المهووسين بقوة اليهود والمسكونين بقدرتهم الخرافية على التآمر. وهذا الطرح ليس سذاجة فحسب؛ بل فيه سوء أدب مع القرآن. فكيف لكتاب الله العظيم الذي ليس فيه كلمة إلا ولها شأن عظيم أن يكون مجرد تكرار لتحذير؟
وللاقتراب من الإجابة، يمكن استقراء أهم الاسباب، من خلال تتبع السياقات المختلفة التي ورد فيها ذكر بني إسرائيل في القرآن. ومن يدقق في السياقات المختلفة وطريقة القرآن في التعليق في كل مرة، يستطيع الخروج باستنتاج كلي ويتبين له التكامل في هذه السياقات مع بعضها، رغم تنوعها إما في الأصل أو في التفصيل.
بنو إسرائيل القصة كاملة
بعد تتبع السرد القرآني لقصص بني إسرائيل، والتأمل في طريقة القرآن في التعليق عليهم، يمكن ملاحظة الحديث عن تاريخ بني إسرائيل في أطوارهم المختلفة، على الترتيب التالي:
بعثة إبراهيم وولادة إسحاق ويعقوب “إسرائيل”.
قصة يوسف بن يعقوب ومراحل حياته، ثم انتقال يعقوب وكل أبنائه لمصر والتمكين لهم هناك.
تحولهم بعد ذلك إلى العبودية تحت حكم الفراعنة وبقائهم عليها لقرون.
ولادة موسى ونشأته في بيت فرعون، ثم قتل القبطي وخروجه من مصر.
عودة موسى لمواجهة فرعون، والإشارة إلى طبيعة الذل عند بني إسرائيل رغم تأييد الله لموسى بالمعجزات.
إنقاذ بني إسرائيل بمعجزة عظيمة، ثم رفضهم القتال ومعاقبتهم بالتيه أربعين سنة.
الحديث عن قصص تفصيلية، مثل قصة السامري وقصة البقرة.
ظهور جيل جديد، والقصة الكاملة لمعركة طالوت وجالوت وانتصار جند طالوت.
مُلك داود وسليمان، وظهور عز بني إسرائيل.
سقوطهم بعد ذلك وتسليط أعدائهم عليهم.
انتظارهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وتكذيبهم له بعد بعثته.
الإخبار عن مستقبلهم، وأن سيكون لهم علو آخر.
التنوع التاريخي والحضاري
يلاحظ في السرد القرآني، أن بني إسرائيل لم يكونوا في حال واحدة؛ بل تفاوت حالهم بين العز والذل، وبين التمكين والضعف، وبين النصر والهزيمة، وبين الاجتماع والشتات، وبين الاستقامة والضلال.
كما يلاحظ في التعليق القرآني، ربط كل نتيجة بأسبابها؛ فالنصر له أسبابه والهزيمة لها أسبابها، وكذلك الذل والعز والشتات والاجتماع. بل ينبه القرآن إلى استنتاجات ثانوية غير مباشرة مرتبطة بتأكيد السنن الربانية المرتبطة بالأحداث.
الأحداث العامة والأحداث الخاصة
يتحدث القرآن عن أحداث عامة، مثل مواجهة موسى لفرعون، وإنقاذ بني إسرائيل، وحرب طالوت وجالوت، إضافة لأحداث شخصية، مثل قصة يوسف ونشأة موسى في بيت فرعون، وقصة موسى مع الرجل العالم.
وتحدث القرآن عن طريقة تعامل بني إسرائيل مع موسى بعد مواجهته لفرعون، ثم تعاملهم حين أنجاهم الله بمعجزة، ثم رفضهم القتال بعد ذلك ودخولهم في التيه. كما تحدث القرآن عن قصة البقرة، وبالتفصيل الدقيق للأسئلة التي طرحها بنو إسرائيل على موسى قبل ذبحها.
التعليق القرآني
حين يسرد القرآن هذه القصص، فلا تكاد تخلو آية إلا مع إشارات ربانية إلى المعاني والدروس. هذه الإشارات، ليست مواعظ روتينية، ولا تعليقات عارضة؛ بل معان مقصودة في كل كلمة بكل المعنى الذي تحمله، والقيمة التي في السياق. ولعل القارئ للقرآن يلاحظ أن هذه التعليقات ليست كلها ذمًا وتوبيخًا لبني إسرائيل؛ بل لعل بعضها ثناء ووصف بالعز والرفعة تبعًا للحال الذي يكونون فيه.
عودة إلى السؤال لماذا هذا التكرار؟
وهذا يعيدنا للسؤال الأول عن سبب هذا التكرار، والذي تبين أنه ليس كله توبيخًا ولا تحذيرًا ولا ذمًا، فلماذا بنو إسرائيل؟ لا بد للإجابة من توطئة حول السنن التي سنها الله سبحانه في البشر، والتي تقوم عليها حركة التاريخ وأحوال البشر، والتي أكدها القرآن بشكل قطعي بقوله تعالى: “فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا“.
من هذه السنن ما هو فردي يتحقق على مستوى الفرد، مثل قوله تعالى: “ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب“، ومنها ما هو جماعي لأمة كاملة يتحقق في المجتمعات والدول، مثل قوله تعالى: “وما كنا مهلكي القرى بظلم وأهلها مصلحون“.
والقرآن يدلنا على هذه السنن بطريقتين: الأولى: التوجيه بالسير في الأرض، ودراسة التاريخ والتعلم مما حصل للأولين من أسباب النصر والهزيمة والضعف والقوة والعزة والذل، وهو العلم الذي تحول إلى تخصص اسمه علم الاجتماع، ومصداقه قوله تعالى: ”قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين“. والطريقة الثانية: هي تحديد القوانين بذاتها وبيان الأسباب والنتائج لما يمكن أن يحصل على مستوى الفرد والمجتمع، كمثل قوله تعالى: “وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا“.
تكريم أمة محمد صلى الله عليه وسلم
لكن هناك طريقة ثالثة تبين مدى تكريم الله لأمة محمد عليه الصلاة والسلام، وهي ما نحن بصدده عن تكرار الحديث عن بني إسرائيل في القرآن. هذه الطريقة، هي في خلق أمة محددة بذاتها، تمر بكل الأطوار التي يمكن أن تحصل للبشر على مدى التاريخ والأحداث بأسبابها ونتائجها وبمشاهدها الفردية والجماعية. فحين يسرد القرآن قصة هذه الأمة ويعلق عليها، فكأنه يحولها إلى وسيلة إيضاح لدراسة التاريخ والسنن التي يؤكدها بالنص القرآني الواضح.
نعم لقد كان بنو إسرائيل -هذه الأمة المختارة- كوسيلة إيضاح أو نموذج سابق لدورة بشرية كاملة على مدى آلاف السنين. وأراد الله سبحانه أن يقدم لنا بنموذجهم مشهدًا بشريًا في بعديه الفردي والجماعي، حتى نستحضر “الفيلم البشري” الذي لم يكن خيالًا ولا تأليفًا؛ بل حقيقة بشرية وقعت بكامل تفصيلها بين يدي أمة محمد.
نموذج متميز لهذه السنن
وكنموذج لهذه السنن، إشارة القرآن لحالهم في عهد موسى من الذل والجبن بسبب العيش تحت حكم فرعون لقرون، وأثر ذلك على تصرفاتهم مع موسى. ثم إشارة القرآن إلى تحولهم إلى العزة والتمكين في عهد داوود وسليمان، وكيف أنهم لم ينتقلوا لذلك بمعجزة؛ بل لا بد من سنين التيه التي غسلت فيهم آثار الذل والجبن.
ولهذا السبب، أطال القرآن في وصف قصة هذا التحول في مواضع كثيرة، بدأت حين حكم الله عليهم بالتيه في قوله تعالى: “قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين“، وهو مصيرهم بعد أن رفضوا أمر موسى بالقتال وردوا الرد البذيء: “اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون“.
ولم يكن التيه عقوبة مجردة؛ بل فيه حكمة عظيمة كونهم يبقون في الصحراء أربعين سنة؛ لأن العيش في الصحراء ابتعاد كامل عن سلطة أي مستبد، بل عن أي سلطة؛ ولهذا، كانت المدة أربعين سنة تحديدًا، حتى تنتهي آثار الجيل الأول الذي عاش الذل بكل وضاعته، ليظهر جيل لم ير إلا السماء والتراب ولا يخضع لأي سلطة سوى قسوة الصحراء، التي تزيده عزيمة وإصرارًا وتحديًا.
بل حصل بنو إسرائيل على استقلالية إضافية حين انقسموا إلى اثني عشر جزءًا صغيرًا تبعًا لقبائلهم: “وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا قد علم كل أناس مشربهم“؛ وذلك لأنه كلما صغر حجم المجتمع كلما ازداد الفرد استقلالية وتمتعًا بالحرية والكرامة.
وحين جاء الجيل الذي لم يعرف طعم العبودية، كان هو الذي بادر بطلب القتال في سبيل الله: “الم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل الله“، مقارنة بحال أجدادهم الذين ألحّ عليهم موسى بالقتال فردوا عليه ذلك الرد البذيء. ولكن، حتى بعد غسيل آثار الذل كان لا بد من تمحيص إضافي في أربع مراحل جاء على شكل أربعة اختبارات متتابعة في قصة طالوت وجالوت.
الاختبار الأول: في التكليف الحقيقي بالقتال، فكانت النتيجة تراجع فئة كبيرة ولم يثبت إلا القليل: “فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليل منهم”.
الاختبار الثاني: في تحديد شخصية القائد، وهو طالوت والذي رفضه فريق منهم بحجج واهية.
الاختبار الثالث: في الشرب من النهر، والذي لم يثبت فيه إلا القليل: “فشربوا منه إلا قليل منهم”.
والاختبار الأخير: المواجهة الحقيقية لجيش جالوت، والتي قال معظمهم فيها: ” لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده”.
ولم يثبت بعد ذلك إلا أهل اليقين: “قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصادقين“. فهذه المجموعة الصغيرة، كانت قليلًا من قليل من قليل من قليل ومع ذلك كتب على أيديهم النصر والتمكين.
وحين تقرأ القصة في سورة البقرة لا تعيش الحدث فقط؛ بل تعيش الدرس كاملًا وأنت تتأمل تعليقات القرآن الجميلة. ففي بداية سرد القصة، يصفهم القرآن بـ”الملأ من بعد موسى” تنبيهًا إلى أنهم مرحلة أخرى من مراحل بني إسرائيل. ثم حين يرفضون قيادة طالوت، يشير القرآن إلى تقويمهم الدنيوي الساذج مقارنة بالاصطفاء الرباني لصفات القيادة: “زاده بسطة في العلم والجسم“.
ومن لفتات القرآن الجميلة، التفريق في درجات الإيمان فهناك من نجح في الاختبارات الثلاثة واستحق وصف الإيمان بنص القرآن: “فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه“. لكنه، لم يصل لدرجة اعتقاد ملاقاة الله: “قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين“. وهنا، يشير القرآن لقوة قانون التدافع ووجود عوامل أخرى غير الكثرة والقوة في النصر والهزيمة: “فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين”
لماذا بنو إسرائيل بالذات؟
ربما اتضح سبب التكرار، لكن يبقى جزء آخر من السؤال، وهو ما هو السر في بني إسرائيل الذي جعلهم أمة مناسبة لأن يكونوا نموذجًا سابقًا لانطباق السنن عليهم؟ ربما تكون الإجابة في تفرد بني إسرائيل بأنهم أمة عرقية واحدة (سلالة)، انتشروا من أب واحد هو يعقوب عليه السلام، ومروا كسلالة واحدة بكل هذه الحالات. وأراد الله أن يعيش هذا الشعب بقبائله الاثنتي عشرة في كل الأطوار، حتى تكون نموذجًا قابلًا للمتابعة على مدى التاريخ بشواهد قرآنية توفر علينا دراسة اجتماعية لشعب كامل مر بكل الظروف والأحوال على مدى آلاف السنين.
مقال رائع ولي إضافة بسيطة في آخر مقالك لماذا بنو إسرائيل بالذات؟
ردحذفأبن مسعود رضي الله عنه قال ( أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا وهديا تتبعون عملهم حذو القذة بالقذة غير أني لا أدري أتعبدون العجل أم لا؟
على العموم كنت ولازلت رائعا استمر بارك الله فيك