يوصف الكثير من المتعرضين للشأن الثقافي أو الإجتماعي أو السياسي بأوصاف كثيرة، لعل من أهمها وصفه بالمفكر، حتى ابتذلت هذه الكلمة بشكل كبير، بأن وصف بها من لا يستحقها.
والكلمة تحمل دلالات كثيرة، منها قناعة الجماعات بأشخاص معينين، ينطلقون من نفس نتائج هذه الجماعات، فيجنح كل تيار فكري أو اجتماعي لإضفاء صفة "مفكر" على كثير ممن لا يستحقون الوصف ، لمجرد أنه وافقهم في المنطلقات والنتائج.
ولذا تجد الليبرالي يحتفي برموزه ، والقومي يحتفي برموزه ، والإسلامي كذلك ، ولا يملك هؤلاء من شروط المفكر إلا نجاحهم في مشروع علاقات عامة لتيارهم ، ولو عرضته على ميزان الفكر الحقيقي لا تجده يحمل من التفكر ملء كفه نوى.
إضافة للمواصفات المعروفة للمفكر ، وهي سعة الثقافة والذكاء والقدرة على التعبير وغيرها ، يُغفل الكثير شرطين أساسيين في إضفاء صفة "مفكر"على كاتب أو باحث او متحدث، وهما :
١) الشمولية في التفكير، بمعنى أن يمتلك نظرة بانورامية، تتجاوز الجزئيات وتفاصيلها، إلى النظرة الكلية، لكامل المشهد الثقافي والإجتماعي، بحيث يتم الحديث عن الجزء، بنظرة كلية مترابطة مع باقي العناصر. ولا يعني ذلك حجم المعلومات.
مثال لتوضيح الشمولية، لو سألت إنساناً زار مدينة دبي، كيف هي دبي ؟ فقال لك، بيت فلان الفلاني في دبي، يقع في شارع زايد، والبيت يحتوي على أكثر من غرفة ، و أكثر من باب ، و أكثر من نافذة، وبجانبه بيت فلان، وفيه أكثر من باب، وفي نهاية الشارع منعطف، يقودك لشارع فرعي، في زاويته مسجد مساحته كذا وكذا، وإمامه كذا وكذا، ثم يسوق هذه التفاصيل، ليعرفك عن دبي التي زارها، إن صبرت، حتى يتم حديثه، وهو المستبعد، لا تعرف دبي، بل ستعرف حجم المعلومات التي يعرفها فلان المسؤول عن دبي.
على العكس من ذلك، لو سألت آخراً عن دبي ؟ فقال لك، هي مدينة ساحلية، تمتد على الساحل بمسافة كذا وكذا، يحدها من الشرق كذا وكذا، ومن الشمال كذا وكذا، وتتقاطعها الشوارع الفلانية من جهة كذا إلى جهة كذا، ومطارها يبعد عنها مسافة كذا - سيعطيك في نهاية حديثه الذي حتماً لن تمله - نظرةً بانورامية تستطيع تخيل دبي التي زارها.
٢) المنهجية وتعني آلية متماسكة للتفكير، يستطيع الموصوف بالمفكر أن يفكك من خلالها الفكرة في ذهنه ويعيد ترتيبها، مع بناء خريطة ذهنية للفكرة ابتداءً ، تُشابه في العلوم ما يسمى الطبوغرافيا أو رسم الخرائط، بالاعتماد على المتوفر من المعلومات .
و دون هذين الشرطين، يبدو لي أنه من المجحف أن يوصف الشخص بأنه مفكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق