القطيعة التي افترضها الجابري كخيار وحيد مع ما يسمى عصر الانحطاط وإعادة دراسة المصادر وفق الرؤية التي استجلبت من طرق الغرب في التحليل والتفكير ، أعادتنا للتبعية الغربية بوجه من الوجوه ، وكان الأجدر والأسمى تطوير أساليب التحليل والتفكير ، وإكمال ما حاول المحققون ابتداءه من أمثال ابي حامد الغزالي وابن تيمية وبن رشد وصولا إلى الكواكبي ومالك بن نبي ، مع عدم إغفال بعض المناهج الحديثة كأسلوب ووسيلة لا أن تكون غاية بحد ذاتها ، فلكل أمة خصوصية تستقل بها عن غيرها ، ولها ارتباط من نوع يجمع كثيرا من الأمم معها .
يفترض الجابري وغيره أن الحدس وحده قادر على فهم النصوص ، وهو قول مسبوق عليه وإفتراض العقل كمحك وحيد للتأويل ، نقده كبار المحققين من قديم كأبي حامد الغزالي رحمه الله حين يقول :
فقالت المحسوسات بمن تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات ، وقد كنت واثقاً بي فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولولا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي فلعل وراء إدراك العقل حاكماً أخر ، إذا تجلى كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس بحكمه .
وإن جزم الغزالي بأن حكم الوحي والكشف الصوفي أسمى من العقل فنحن إن وافقنا في الأولى لم نوافق في الثانية للزوم العودة مرةً أخرى لما كنا نخشاه من تفوات الفهم والأذهان .
وسبق الغزالي الشكاك كصالح بن عبدالقدوس في إنكار قوة العقل والجاحظ حسب المبدأ الإعتزالي المعروف ( العدل ) حيث فرض أن التفكير له آفق لا يتجاوزه وهو ما يصطلح عليه حالياً بإجتماعية المعرفة في موضوع قد يطول ، ولا ينسى هنا رأي ابن حزم الظاهري المشنع على تحكيم العقل في النصوص حسب الروية الظاهرية للنصوص .
محاولات مفكري القطيعة كما أسمتهم فتيحة فاطمي في كتابها التأويل ، لا تقل في أهميتها عن محاولات مفكري المناهضة لكل ماهو غربي من أمثال الشيخ طه عبدالرحمن ، وفي كلٍ خير ولو تم لذي عقل نبيه وعلم محصن وقصد سليم أن يربط بين المنهجين كما يرى ذلك وأفهمه من كلامه العلامة عبدالله بن بيه ، لخرجت لنا رؤى وأطروحات تحاول فهمنا كما نحن حقيقةً لا كما يفترض أن نكون .
يقول بن تيمية رحمه الله :
“والناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان “.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق