كثر الحديث عن أحداث باريس من زوايا متعددة شملت تفاصيل الحدث وجذوره والتأصيل الشرعي له، وانتقاد نفاق الغرب في زعمه حماية حرية التعبير الى غير ذلك من ملابسات الحدث وتداعياته. وكثير من هذه النقاشات أجاد في تفصيل الجانب الذي تناوله، لكن غاب عنها الطرح الشمولي والصورة الكاملة. نقاشات أخرى غلب عليها التحيز الذي ساهم في حصر السياق فيمن يؤيد فكرة المقال مسبقا، ومن ثم يضيّق دائرة المستفيدين منه.
هذه محاولة لاستعراض الحدث بنظرة متجردة ترصد الأسباب والظروف بواقعية ودون إسقاطات أو هواجس، وتتعامل مع المعطيات كما هي دون تحيز سابق. كما إنه مراجعة بانورامية للحدث من خلال معرفة البيئة المكانية والزمانية والظرفية التي حصل فيها، ورسم خريطة فكرية نفسية للأطراف الفاعلة في هذا الحدث وتداعياته.
التأصيل موجود والخلاف في الموازنات
النقاش الشرعي للمسألة مبسوط في مباحث كثيرة، بل أفرده بن تيمية بكتاب كامل ولسنا بحاجة لتكراره(1). هذا التأصيل لا يقتصر على قواعد عامة في حفظ مقام النبوة، بل يؤكد تحديدا مشروعية استهداف من يسب النبي صلى الله عليه وسلم حتى لو كان مقيما بين المشركين،(2) وتبقى الموازنة في تحديد الطريقة والأسلوب بما يؤدي إلى أكبر منفعة وأدنى درجة من الضرر.
لكن كثيرا ممن بسط النقاش في أحداث باريس، لم يفرق بين التأصيل الشرعي المجرد، والموازنة بين المصالح المرتبطة بالتطبيق العملي في مكان محدد وزمان محدد وظرف محدد. والاختلاف في الموازنة تقدير بشري، يجب أن لا يثرب فيه طرف على آخر، بما يشكك في أصل المشروعية أو يدعي أن الأمر لا يسعه الاجتهاد.
الاستفزاز الأوربي حتمي
إقدام بعض الأوربيين على استفزاز المسلمين سواء في شخص النبي عليه الصلاة والسلام أو بطرق أخرى أمر حتمي للاسباب التالية:
أولا: لأن المجتمعات الأوربية تعيش حالة حقد مركب ضد الإسلام، يستحيل أن ينزع من الوجدان الأوربي. وسبب كون الحقد مركبا هو أنه منبثق من عنصرين، الأول: الإرث المسيحي الضخم لأوروبا والعلاقة الحربية الدائمة مع المسلمين،(3) والثاني: أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يتحدى العلمانية الحالية باقتدار. (4)
ثانيا: لأن هناك جيوبا في المجتمعات الأوربية ليس عندها تحفظ في إظهار حقدها بلا مبالاة لآثار ذلك على التوازنات المحلية والعالمية. ومن الأضرار الجانبية للديموقراطية الحديثة، أن تجعل العقلاء الذين يحسنون تقدير العواقب عاجزين عن الأخذ على يد السفهاء الذين لا يحسنون تقديرها. (5)
ثالثا: لأن الغرب لا يمنع ولا يريد أن يمنع ولا يستطيع أن يمنع هذا الاستفزاز، بل إن الغرب عموما وأوروبا خصوصا فيها تيارات تستمتع بمثل هذا الاستفزاز حتى لو رغبت الحكومات تفاديه. (6)
الانتقام الإسلامي حتمي
لو لم يحدث هذا الحدث بهذه الطريقة ومن قبل الأخوين الكواشي، لربما حدث مثله بطريقة أخرى ومن قبل آخرين. والمقالات التي تتحدث عن مفاسد ما فعله الأخوين والحملات الإعلامية التي تقبّح هذا الفعل، ليس لها قيمة(7) لأن هذا الانتقام يستحيل تفاديه للأسباب التالية:
أولا: لأن غضب المسلمين أمر طبيعي تجاه تصرف بهذه الدرجة من الاستفزاز بحق المقام النبوي، فمثل هذا الاستفزاز يخلق جوا مناسبا لدفع من يفكر بالانتقام بالمضي قدما فيه لأنه يدرك حجم التشجيع والثناء.
ثانيا: بسبب شعور بعض المسلمين أن المسألة ليست غضبا فحسب، بل هي إلزام بتنفيذ أمر شرعي بالانتقام ممن ينال من النبي صلى الله عليه وسلم تأديبا لغيره.
ثالثا: المسلمون ليس لهم سلطان موحد يحكم تصرفاتهم ويتحمل مسؤولية ما يصدر عنهم، ولذا فمن المحتوم أن يتصدى أفراد أو جماعات لمثل هذه المهمة، لأنهم لا يشعرون بأي التزام تجاه السلطات المبعثرة في بلدان المسلمين، والتي لا يعتبرها هؤلاء الذين يقدمون على الانتقام سلطات شرعية لها طاعة.
والذين لديهم تحفظ مصلحي على العمل مخطئون حين يفترضون أن الإقناع المنطقي بموازنة المصالح والمفاسد يكفي لمنعه، دون وجود سلطة موحدة للمسلمين. وعدم إدراك الحتمية يدخل الكثير منهم في حالة من التفكير الخيالي، يعيشون فيه ذاتهم ولا يتصورون أن الواقع تجاوزهم كثيرا، وأن تداعيات الحدث تضاعفت خارج إطار تفكيرهم.
ردة الفعل الفرنسية والغربية حتمية
يخطيء جدا من يعتبر أن ردة الفعل الفرنسية على المستوى الحكومي والشعبي غريبة أو مفتعلة، وذلك لتجاهله كثيرا من المعطيات التي تجعل مثل ردة الفعل التي حصلت ليست واردة فحسب بل هي المتوقعة. ومع أن السبب الحقيقي ليس الانتصار لحرية التعبير، وما المزايدة على ذلك إلا نفاق صفيق، لكن مع ذلك فإن ردة الفعل الفرنسية حتمية لا مجال لتفاديها مهما حاول عقلاء الفرنسيين ذلك.
والقناعة بأنها حتمية، ليس له دخل بتآمر سلطوي أو انتهازية مخابراتية أو استغلال المتطرفين من أعداء الإسلام للحدث، بل هي مرتبطة بالمعطيات التالية:
أولا: تعيش أوروبا حالة من الهيمنة والأستاذية على البشرية عموما وعلى المسلمين خصوصا، ويأتي هذا الحدث ليتحدى هذه الأستاذية، ويملي عليها كيف تعيش وكيف تتصرف. والاستعمارالأوربي الذي انحسر عسكريا بقي على شكل هيمنة فكرية وسياسية ونفسية، لا يقبل بكبريائه أن يتحداه منهج آخر ويلوي ذراعه بالقوة لأجل أن يغير سياسته الداخلية من أجله.
ثانيا: التصاعد في الاستقطاب بين الإسلام والغرب بعد تنامي الظاهرة الجهادية، جعل الغرب في حالة تربص من الخطر المحدق لم يشعر بها منذ صعود العلمانية بعد الثورة الفرنسية. ورغم الاستعدادات الأمنية والمخابراتية الضخمة، فإن الشعور بالخطر في حقيقته ليس أمنيا ولا عسكريا، بل هو هاجس يستولي على النفسية الغربية، بأن الإسلام يستكمل إعادة تشكيلته الحضارية التي لا مفر من مصادمتها الشاملة للمشروع الغربي، وبكفاءة قد تؤدي لهزيمة الغرب. (8)
ثالثا: هذا التوتر ليس لدى الحكومات والمؤسسات السياسية فحسب، بل هوشعور عام في العقل الجمعي الغربي يؤثر ويتأثر بالمؤسسات الرسمية ووسائل الإعلام. مع عدم إغفال أن المؤسسات الإعلامية والسياسية ربما تُخطف من بعض اللوبيات، لكن الشعور بالمواجهة مع الإسلام في أوروبا هو حالة عامة تجتاح كل المجتمعات الأوروبية بقوة. بل إن بعض الاستبيانات تثبت أن الحكومات أعقل من الجمهور في بعض الجوانب، كما تبين ذلك في ألمانيا. (9)
المسيرة (المظاهرة) والاعتراف بالتحدي الإسلامي
بسبب المعطيات السابقة، كان من المتوقع أن تعتبر السلطات الفرنسية الهجوم على الصحيفة حدثا كبيرا، وتتعامل معه على هذا الأساس سواء في التصريحات أو في الاجراءات الاستخباراتية. ومن المتوقع كذلك أن يعبر الكثير من الشعب الفرنسي عن دعمهم للصحيفة بأشكال مختلفة من التعبير. ومن المتوقع كذلك أن تصدر أعمال انتقامية ضد المسلمين في أوروبا من قبل أفراد أو عصابات.
لكن لم يكن من المتوقع أن تدعو الحكومة الفرنسية رسميا لمسيرة، فليس من طبع الحكومات في الديموقراطية الغربية أن تدعو لمسيرات، فضلا عن أن تطلب مشاركة زعماء العالم. والذين يعرفون العقلية الأوربية يدركون أن دعوة الحكومات لمسيرة، أمر مثير للسخرية والاستهجان ولم يسبق أن حصل. ثم إن الدعوة لم تكن نتيجة حماس شخصي من رئيس فرنسا، بل هي فكرة متفق عليها بين كل أطراف الحكومة الفرنسية وأحزاب المعارضة، ومدعومة غربيا بدليل مشاركة عشرات من زعماء العالم فما هو التفسير؟
التفسير هو أن الحادث جاء بعد حشد هائل للصدام بين الإسلام الجهادي والغرب، وفي بيئة مستقطبة ومتوترة جدا -كما ذكر أعلاه- فتسبب في صدمة أربكت الغرب نفسيا وثقافيا، وأشعرته بقوة التحدي الحضاري، فأحس بالشك في مدى تمسكه بمبادئه المزعومة. هذا الشك دفع الغرب لأن يسعى " لتجديد البيعة" للمبادئ العلمانية، وإثبات قوة الارتباط بها في مواجهة التحدي الإسلامي.
لقد واجه الغرب حربيين عالميتين طاحنتين، وحربا باردة خطيرة، ولم يفكر فيها يوما من الأيام بمسيرات رسمية، لأن التحدي وقتها لم يكن حضاريا أو نفسيا، بل كان تحديا عسكريا مجردا، وجميع الأطراف منطلقاتهم علمانية. ولهذا فإن الدعوة الرسمية لهذه المسيرة والاستجابة لها بهذا الشكل السريع والكبير، هو بمثابة اعتراف بقوة التحدي الإسلامي والقلق من انحسار المبادئ العلمانية. أو بعبارة أخرى هو ترجمة للجانب الضعيف في الكيان العلماني العالمي، واضطراره لعمل ما لم يقم به أمام أي تحدٍ آخر. (10)
التداعيات
لا يمكن استشراف التداعيات من النظر للحادث منفصلا عن المشهد العام، ودون اعتبار للاستقطاب العالمي وتنامي الظاهرة الجهادية والعودة الهائلة للشعوب المسلمة لهويتها. وليس من الطرح العلمي ولا المنطقي حصر تداعيات الحدث في أثره على الأقليات المسلمة في أوروبا، والقلق من تسببه في التضييق عليها من قبل الحكومات الأوروبية، أو محاصرتها من قبل المجتمعات الأوروبية الحاقدة.
التطورات المتسارعة حاليا في العراق والشام واليمن والتحديات في مصر وليبيا وربما في الخليج قريبا، سوف تكون أخطر بكثير على الغرب من حادثة باريس. ولأول مرة في تاريخه سيكون الغرب دائما في خانة رد الفعل، بعد أن كان يصنع الحدث ويتحكم بردود الأفعال.
وتمادي بعض الأوروبيين بإعادة الرسوم، أو بنماذج أخرى من الاستفزاز في الاعتداء على مقام النبوة، لن تكون إلا مضاعفة لهذا الاستقطاب وخدمة للمشروع الجهادي. وما نرى من مقولات حكيمة لببعض عقلاء الغرب لن يكون لها أثر يذكر أمام زخم الاستقطاب الهائل.
هؤلاء أهملوا قصدا
الشخصيات العربية والإسلامية التي شجبت الحدث أو شاركت في المسيرة، لم يتم الإشارة إليها، لأنهم ليسوا صانعين للفعل ولا رد الفعل، وليسوا أصحاب قرار ولا رأي، ومساهمتهم محصورة في تنفيذ ما يؤمرون به من قبل قوى الغرب. وبذلك فليس لهم دور في الحدث ولا تداعياته، ولا يستحقون التعليق أكثر من التنبيه إلى عدم الالتفات لأهميتهم.
مؤامرة
تردد من قبل البعض أن الحدث مؤامرة مدبرة، ومن ثم يسوقون الأدلة المزعومة على كونها مؤامرة، وكأن المعطيات المذكورة ليس لها قيمة. وأفضل ما يمكن تشبيه حكاية المؤامرة، بمن يزعم أن شيخا كبيرا مصاب بعدد من الأمراض القاتلة، وعرضة للموت في أي لحظة، مات مسموما بعمل مدبر.
والذين يفسرون الأمور تفسيرا مؤامراتيا هكذا بالمزاعم، متجاهلين المعطيات الطبيعية التي تجعل الأمر حتميا، تجدهم دائما عاجزين أن يعطوا تصورا بديلا للآلية التي دبرت فيها المؤامرة، ويكتفون بسرد الأدلة المزعومة. (11)
-------------------
1)هنا كتاب (الصارم المسلول على شاتم الرسول) لابن تيمية إضغط هنا.
2)قصة اغتيال كعب بن الأشرف كما رواها البخاري إضغط هنا.
3) واجه المسلمون أوروبا في الأندلس (أسبانيا) وبقوا هناك ثمانمائة سنة، وامتدت الحروب الصليبية أكثر من مئتي سنة، كما امتدت حروب أوروبا مع الدولة العثمانية مئات السنين. أما الاستعمار الحديث فقد بدأ منذ القرن الثامن عشر، ووصل ذروته في العقد الثاني من القرن العشرين وبقي إلى العقد السادس.
4) راجع مقالنا تحدي العلمانية إضغط هنا.
5)اثبتت بحوث كثيرة أن الديموقراطية الحديثة فيها هذه الفجوة، وهي تغليب المؤثرات غير المنطقية على المؤثرات المنطقية
وهذا عرض عام للفكرة إضغط هنا.
وهذه دراسة خاصة لمدى قوة العواطف في انتخاب بوش إضغط هنا.
6)مقالة جيدة عن تصاعد اليمين المتطرف في أوروبا وأمريكا إضغط هنا.
7) الكثير من هذه المقالات موجهة حكوميا لمغازلة الغرب، لكن بعضها كتب دون توجيه، أو مصلحة من حكومة، وباعتقاد ساذج من كاتبه أنه يستطيع أن يغير القناعات.
8)ما يحصل الآن استشرفه هنتجتون في أطروحته صراع الحضارات، وقد علقنا عليه في مقالنا إضغط هنا.
9)اثبتت استبيانات في ألمانيا تأييد الأغلبية لحركة بيغيدا المناهضة للمسلمين في ألمانيا رغم الانتقاد الرسمي على لسان المستشارة الألمانية ميركل إضغط هنا.
10)الحديث عن الاسلاموفوبيا وكأنها ظاهرة استثنائية غير صحيح، بل هي الأساس في الوجدان الغربي حاليا سواء على مستوى الحكومات أو الشعوب.
11)راجع مقالنا "مؤامرة" ففيه استعراض شامل لهذه الظاهرة وتفسير سبب النزعة إليها من قبل الكثير من المسلمين إضغط هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق