السبت، 6 ديسمبر 2014

المرأة



ليس غريبا أن تكون قضية المرأة وموقعها في المجتمع وحقوقها وواجباتها مسألة مركزية في القلق الفكري الذي يسود العالم العربي والإسلامي.  ومثلما أدت ثورة الاتصالات والمعلومات إلى تغيير قوى المعادلة الفكرية فقد أدت كذلك إلى تدفق غير مسبوق لما يقال ويكتب وينشر عن المرأة المسلمة. (١)

ومما ضاعف هذا القلق الفكري، تداخل التاريخي والسياسي بالديني، مما جعل المسألة خاضعة لحساسيات اجتماعية ومداراة لدوائر معينة، أكثر منها مراعاة للانضباط الشرعي والمنطقي. ومع ضعف المرجعية والتشرذم الثقافي والاضطراب الفكري وما نتج عن هذا التدفق من ارتباك ولبس في المفاهيم، فلا بد من تحديد مجموعة من المسلمات التي يفترض أن لا جدال فيها. وتبقى مساحة النقاش بعد ذلك فيما هو خارج هذه المسلمات. وليس من الحكمة تكرار ما كتبه الكثير في الدفاع عن تكريم الإسلام للمرأة، فقد خدموا الموضوع خدمة بحثية متوسعة ويكفي في هذا المقال التأكيد على هذه المسلمات. (٢)

المرجعية فيما يخص المرأة مصدرها ليس الرجل
في الإسلام لا يوجد إلا مطلق واحد في المرجعية والتلقي، سواء في العقيدة أو الشعائر التعبدية أو العلاقات البشرية أو دور وموقع الرجل والمرأة في المجتمع. وبناء عليه فإن حقوق المرأة وواجباتها لا يقررها الرجل ولا المرأة بل يقررها هذا المطلق الوحيد وهو النصوص الشرعية التي مصدرها الوحي. 

والنصوص الشرعية يقصد بها القرآن وما صح من السنة، فلا مجال لعادات ولا تقاليد ولا تراكمات اجتماعية، ولا رأي فيلسوف ولا تجربة بشرية في السويد أو بحثا علميا في الأرجنتين. وحتى أقوال علماء المسلمين إنما يستدل لها ولا يستدل بها فهي ليست حجة بذاتها ولم يقل أحد بذلك. (٣)

التعامل مع النصوص لا يحتكره الرجل
المنهجية الدينية واضحة كذلك في أن تفسير النص الشرعي والاستدلال منه وتنزيله على الواقع ليس حكرا على الرجل، بل هو حق لكل مؤهل من الرجال والنساء. ومهما زعم المتنطعون فلا خلاف بين العلماء في أن لا فرق بين المرأة والرجل في حق تفسير النصوص والاستنباط منهما، وإصدار الفتاوى وتحديد المواقف الشرعية لمن ملك زمام هذا الأمر من الجنسين. (٤)

فإذا كان النص الشرعي هو المرجعية وليس الرجل، وإذا كان الرجل والمرأة متساويان في حق التعامل مع هذا النص، فلا مجال لاحتكار الرجل لتقرير مصير المرأة وحقوقها وواجباتها. وباستحضار هاتين القاعدتين نستنتج أن حقوق المرأة وواجباتها بمقياس الشرع في مقام أعلى من سلطة الرجل ونفوذه. ولا يستطيع الرجال أن ينسبوا هذا الاحتكار لأنفسهم في تحديد دور المرأة طبقا للدين، إلا في المجتمعات التي تختلط فيها المرجعية وترتبك المنهجية ولا يُعرف الحق فيها من الباطل. (٥)

التراكمات التاريخية والاجتماعية والدين
بعض التراكمات الاجتماعية والتاريخية تتجاوز كونها عادات وتقاليد إلى مشاعر واعتقادات، وتختلط في وجدان الناس مع المفاهيم الدينية حتى يظنها أغلب أعضاء المجتمع من الدين. ولأن محور البناء الاجتماعي هو علاقة الرجل بالمرأة، فإن قضية المرأة تصبح أكثر القضايا تأثرا بهذه التراكمات الاجتماعية. وقد لا تكون هذه التراكمات مخالفة لنصوص الشرع بشكل مباشر، لكنها تصطدم بقواعد الشرع العامة أو مبادئه الكلية وروح التشريع . 

بعض هذه التراكمات تترسخ بشكل قوي في الوجدان الشعبي لدرجة تعطيها هيبة لا يتجرأ أشجع العلماء والقيادات الاجتماعية والسياسية في مصادمتها أو إنكارها. هذه الهيبة أمر قابل للتصور ويعذر من يتحاشى مصادمتها، لكن هذا التحاشي لا يحولها لدين ولا أحكام شرعية . وحين يبرر أحد العلماء المتبوعين ترك إنكار هذه التراكمات فهذا موقف مقبول وله هامش شرعي، لكن حين يفتي بشرعية هذه التراكمات فهذا مفتئت على الله ورسوله ومعتد على الشرع. (٦)

القواعد الشرعية وسد الذريعة
نصت الشريعة على بعض المباحات تحديدا، لكن الغالبية العظمى من المباحات تحت القاعدة الشرعية العامة أن "الأصل في الأشياء الإباحة" ما لم يرد في تحريمها نص، أو يندرج تحريمها تحت قاعدة شرعية عامة. بعض هذه المباحات ربما تصبح في مكان معين وزمن معين وظرف معين وسيلة لمحرم فتكون حراما بذلك، ومن هنا تأسست القاعدة الفقهية المعروفة سد الذرائع. 

وليس المقام مناقشة هذه القاعدة بذاتها، فهذا شأن الأصوليين فيما بينهم، لكن لا بد من إثبات ثلاث حقائق تضبط استخدام القواعد الشرعية عموما، وسد الذريعة خصوصا :
الأولى لا يجوز توسيع استخدام الهامش المقصود بالقواعد الشرعية وتغليبها على النصوص الصريحة، وإلا فنحن أمام ابتداع لدين جديد. 
الثانية أن تطبيق القواعد الشرعية فيما ليس فيه نص مسألة اجتهادية خلافية لا يجوز لطرف إلزام المخالف في تطبيقاتها. 
الثالثة أن الاجتهاد في تنزيل القاعدة على قضية معينة، هو اجتهاد مصلحي لمنع مشكلة ما، ولا ينبغي اعتباره دينا بذاته فيه إثم وأجر. (٧)

المتفق والمختلف 
كل ما ثبت في الكتاب والسنة (دليلا ودلالة)  بخصوص المرأة وحقوقها وواجباتها فهذا لا مجال للخلاف فيه، أما ما لم يثبت فهو أمر يجوز فيه النقاش والأخذ والرد، ولكل من له القدرة على النظر في الأدلة أن يقول رأيه سواء فيما لم يرد فيه نص أو فيما تعددت فيه المعاني المستنبطة من النص. والقضايا الخلافية بخلاف معتبر لا يجوز لطرف أن يسفه الطرف الآخر أو أن يجرّم صاحبه أو أن يتهمه بالتخلف أو التحرر. (٨)

والعقول البشرية تختلف في قياس الأمور التي لم يحددها الشرع، أوالتي تركها الشرع لتقدير يتفاوت فيه البشر. ويجب أن لا يكون لدى المسلم حساسية في توسيع الخلاف في هذه القضايا، سواء في تكييفها الفقهي أو في تنزيلها على قواعد الشرع الكبرى أو في تقدير المصالح والمفاسد منها. وأيا كان الرأي الذي يختاره فريق، فعليه أن يقر أن اختياره تقدير بشري وليس دينا أو حكما من عند الله. 

كلاهما طرح مصطنع 
الطرح المعارض للإسلام في المجتمعات المسلمة تحت مسميات التطور والحداثة والمعاصرة، طرح مصطنع، لم يكن ليوجد ولم تكن المجتمعات المسلمة لتسمح له بالظهور، لولا أنه مدعوم بحماية سياسية، وفرض سلطوي واحتضان وتمكين من قبل القوى الغربية المهيمنة. والرد على هذا الطرح تحت مظلة عفاف المرأة فقط، رد ضعيف بل لا بد من حماية الهوية الإسلامية ذاتها من هذه الهجمة الكبرى، وتطهير بلاد المسلمين من الغزو الفكري كله قبل أي خطوة في الرد عليه. (٩)

والعكس صحيح، فقهر المرأة وحرمانها من حقوقها باسم الإسلام طرح مصطنع، سببه الجهل والظلم والطغيان السياسي، وهو الذي أدى للخلط بين التراكمات الاجتماعية والدين. والرد على هذا الطرح لا يكون بتبرئة الإسلام من هذا القهر والظلم في منصات إعلامية وثقافية، بل لا بد من إزالة الأسباب الأصلية وهي الجهل والظلم والطغيان السياسي. 

الدين هو الضامن قبل السلطة
حق المراة  في الإسلام مضمون بالدين نفسه، قبل أن يكون محميا بقوة السلطة والقانون، والرجال في المجتمع الإسلامي مأمورون  شرعا بأداء وضمان وحماية حق المرأة حتى لو قصرت السلطة في تأمين حقها. والتقصير في القيام بحق المرأة من قبل الرجال، ومن قبل مؤسسات المجتمع مخالفة شرعية وإثم قبل أن يكون مخالفة قانونية.

وغياب الحماية الدينية للمرأة، والاعتماد كليا على السلطة والقانون، يوجه المجتمع تلقائيا بسبب سلطة الرجل القوية، إلى الدوران حول الرجل في النفوذ، وحول المرأة في المتعة. والاعتماد الكلي على حماية القوانين، يفتح المجال لاستغلال الرجل لسلطته، ويحول المرأة إلى أداة متعة مجردة للرجل مهما بلغت القوانين من القوة في حماية ضعف المرأة. (١٠)


الرجل والمرأة والمساواة والاختلاف 
هذا الموضوع تحديدا كثر الكتابة عنه، وليس من الحكمة تكرار كلام الآخرين، لكن باختصار فإن الرجل والمرأة متساويان في البشرية والكرامة الإنسانية، والتكليف والمسؤولية وسبب الخلق والمآل بعد الممات، ولا تنقص المرأة في هذا التكريم شيئا عن الرجل. بل إن القرآن نص على أن المرأة خلقت من الرجل فكأنها نسخة منه "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء" مما يعني أن البشر نتاج الجنسين وليسوا نتاج جنس واحد.

وأما ما جاء عن تفضيل للرجال "وللرجال عليهن درجة"، فهذا ليس مرتبطا بحب الله والقرب منه، بل هو تفضيل قدري بإمكانات معينة للرجل، وإلا فقد نص القرآن على تساوي الفرصة أمام الله من الجنسين " من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ". وبذلك يكون هذا التفضيل القدري مثل تفضيل الغني على الفقير في قوله تعالى "" والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " ومع ذلك لم تنفع الغني أمواله عند الله "" وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى". (١١)

------------------------------------
١) الكتب التي ألفت في قضية المرأة والإسلام كثيرة جدا، بعضها منضبط والكثير منها غير منضبط وضرت أكثر مما نفعت حتى لو كان كاتبها مجتهدا في الدفاع عن الدين. ونرفض أي محاولة لتقديم الإسلام ونظامه الاجتماعي بطريقة تجميلية وتحسينية لاسترضاء أصحاب المناهج البشرية، فلسنا بحاجة لذلك، وثقتنا بمنهجنا ثقة مطلقة وقناعتنا راسخة لا تقارن بها ثقة الآخرين بمناهجهم. وحين نتناول أي قضية، فإنما نعرف الحق فيها من مصدر رباني معتمدين على وحي مقطوع به، لا يرتقي إليه الشك، في منهجٍ لفهم الحياة والكون والإنسان، نعتبره حاكما على غيره، ومرجعا في تقويم غيره من المناهج والبشر. 

٢) كثير ممن يكتب عن المرأة يأخذ اتجاها في الكتابة دون الإشارة إلى هذه المسلمات الهامة، التي في نظري تزيل غموضا كبيرا خاصة نفي احتكار الرجل لتقرير حقوق المرأة. وحين يعتقد أصحاب المناهج البشرية أن منهجهم في النظر للحياة والكون والإنسان، هو خلاصة الجهد الذهني والفكري الذي تراكم عبر قرون، فإنهم مضطرون لأن يعترفوا أنه متغير، بخلاف منهجنا الذي نؤمن أنه صادر عن خالق البشر، ولذلك فهو ثابت ومستقر، لا يملك البشر تغييره ولا دور لهم فيه إلا التفسير والتمحيص والتنزيل على الواقع. ومهما كان الجهد البشري راقيا ومبدعا فلن يكون بحال منافسا ولا مقاربا لما يصدر عن خالق البشر. 


٣) حتى الأئمة الأربعة يقولون إذا وافق كلامنا كتاب الله وسنة رسوله وإلا فاضربوا به عرض الحائط. 

٤) اتفق العلماء على تحريم تولي المرأة للإمامة العظمى والقضاء، واختلفوا في بعض الولايات الأخرى، لكنهم جميعا اتفقوا على حقها في كل ما له علاقة بالعلم الشرعي من تفسير وتدريس واستنباط وفتيا إذا كانت مؤهلة. 

٥) صحيح أن الواقع تاريخيا ليس فيه إلا القليل من النساء، محدثات وعالمات ومفتيات مقارنة بالرجال، لكن هذه القلة لا تعني عدم أحقيتهن لذلك. 

٦) معظم مشاكل المرأة في بلدنا مرتبطة بهذه القضية، وهي الخلط بين التراكمات الاجتماعية والدين، وهذا منزلق وقع فيه الكثير من العلماء، الذين بالغوا في إضفاء صفة شرعية على هذه التراكمات.

٧) سد الذريعة توسع فيه المالكية، لكنها قاعدة معروفة في كل المذاهب، ويتفق علماء الأصول على مشروعيتها إنما يختلفون في التوسع في تطبيقها وهذا بحث موسع في الموضوع إضغط هنا.

٨) الخلاف المعتبر، هو الذي يتبنى فيه كل طرف موقفا فقهيا مبنيا على دليل ثابت باجتهاد سائغ في الفهم والاستنباط. وهذا بحث موسع في الموضوع إضغط هنا.

ومن نماذجه في قضية المرأة، الخلاف على كشف الوجه، فكلا الفريقين له أدلته المعتبرة، وفي كلا الفريقين علماء كبار، فلا يجوز لأي فريق احتقار الرأي الآخر ووصفه بالتخلف أو التحرر.

٩) بدأت ظاهرة الدعوة لتحرير المرأة المسلمة، سواء بلغة مناقضة صراحة للإسلام أو بلغة مغلفة بالدين، منذ بدايات الاستعمار في بلاد المسلمين، راجع كتابات قاسم أمين في نهاية القرن التاسع عشر. 

١٠) صحيح أن المجتمعات الغربية لم يبق لحماية المرأة فيها إلا القانون، لكن هذا لا يعني إن بلاد المسلمين في وضع أفضل فكثير منها لا دين ولا قانون يحمي المرأة. ولذلك فليس من الحكمة مخاطبة الغرب بمهاجمة وضع المرأة "السيئ" هناك، فوضع المرأة في كثير من بلاد المسلمين أسوأ. 


١١) هذا العقدة التي تعيشها مجتمعاتنا عن المرأة، لم تكن موجودة في المجتمع النبوي مطلقا، وكان فهم الصحابة بتساوي الرجل والمرأة في الإنسانية والتكليف والمسؤولية أمرا تلقائيا، لكن واحدة من الصحابيات (أم عمارة الأنصارية) تمنت أن يكون النص واضحا في تكليف النساء مع الرجال، فنزل قوله تعالى"إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما . " الأحزاب ٣٥، وهو تأكيد في أن الخطاب الشرعي مشترك للرجل والمرأة في التكليف والمسؤولية.

مقال سبق نشره في صحيفة التقرير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق