الاثنين، 22 ديسمبر 2014

أمريكا على الحقيقة



هذا ليس تقويما أخلاقيا أو قيميّا لأمريكا ولا ترجمة لعواطف تجاهها، بل هو اجتهاد في رؤية موضوعية للحالة الأمريكية، وأثر التاريخ والتركيبة السياسية والواقع الاجتماعي والسكاني في حاضرها ومستقبلها. كما إنه ليس تكرارا للحديث عن مستقبل أمريكا فالمكتبة متخمة بالكتب والمقالات التي تتحدث عن ذلك،(١) إنما هو استعراض متجرد للتركيبة السياسية والاجتماعية الأمريكية، ومحاولة الربط بين هذه التركيبة كسبب والواقع الأمريكي كنتيجة.

الولايات المتحدة متفردة فعلا فهي تتميز عن معظم دول العالم بتركيبتها السياسية والاجتماعية وقصة تكوينها وطريقة تنامي قوتها ثم حكاية صعودها العالمي وتحولها لامبراطورية. (٢) هذه التفاصيل تجري مناقشتها كثيرا، والغالب على هذه المناقشات إن لم يكن كلها، السير في الخط الأكاديمي بقوالب الدراسات الطويلة التي تضيع في ثناياها الملاحظات المفصلية الكاشفة للعلاقة بين الكيان الهيكلي والاجتماعي وناتجه في السياسة الداخلية والخارجية. 

هذه محاولة لتشريح الحالة الأمريكية والتعرف على حقيقتها من منظار تاريخي وسياسي واجتماعي واقتصادي وفكري وعلاقتها مع العالم. وإذا اتضحت الصورة في قصة نشأة أمريكا ونموها، وفي معرفة التركيبة السياسية والاجتماعية والمنهج الاقتصادي، سوف يسهل فهم أي نقاش حول واقع أمريكا ومستقبلها. ولا نزعم أن هذا المقال ينافس دراسات قدمتها مؤسسات عريقة ومتمكنة، لكنه محاولة لتسهيل الصورة في فهم الحالة الأمريكية بمقاربة مبسطة.

النشأة والنمو
في نشأة أمريكا مجموعة من الحقائق لا يمكن أن تُمسح من وجدان الأمريكي، ولا ذاكرته التاريخية وسوف تبقى مؤثرة في التفكير والتصرف الجمعي الأمريكي مهما زعم الأمريكان غير ذلك. ولا ينفي ذلك أن الكثير منهم اجتهدوا في التخلص من سلبيات التاريخ، لكن عوامل النشأة ترسخت بشكل لا يمكن لها أن تتوقف عن التأثير في العقل الجمعي الأمريكي إلا بزوال أمريكا نفسها، أو تغيير نظام حكمها بالكامل. 

الحقيقة الأولى أن إنشاء أمريكا مشروع استيطاني عنصري، يتفوق على كل النماذج العنصرية الاستيطانية في التاريخ، وتتمثل فيه العنصرية بأكثر من جانب. الجانب الأول هو إفناء شعب كامل (مئة مليون هندي أحمر) من أجل إحلال شعب دخيل من أوربا. الجانب الثاني هو جلب الملايين من السود من أفريقيا لاستعبادهم في مزارع البيض، وما صاحب ذلك من احتقار للجنس الأسود في نقلهم بالسفن وقسوة في سوء المعاملة بعد ذلك.(٣)

والعنصرية بقيت رسمية قانونية إلى عهد قريب، ولم تظهر القوانين التي تمنع العنصرية إلا قبل عقود قليلة. (٤) وظهور هذه القوانين لم ولن يزيل آثار هذه العنصرية من الوجدان الأمريكي، ولا يمكن للقوانين أن تصنع ضميرا، أو أن تخلق قيما، أو أن توجد أخلاقا ومشاعر. نعم نجحت هذه القوانين إجرائيا نجاحا كبيرا، حتى اعتلى عرش أمريكا رجل أسود، لكن العنصرية "باقية وتتمدد". (٥)

والعنصرية لا تؤذن بتفكك الدولة ولا تؤثر في قوتها لو كان أحد الأطراف قليل العدد أو ضعيف التأثير، لكنها قد تدمر البلد وتقضي عليه إن كان لدى كل أطراف العنصرية القوة الكامنة الكافية لتحدي الطرف الآخر. (٦) والأمريكان ذوي الأصول الأوربية غالبهم لا يزال متشربا فوقية الرجل الأبيض وسيادته على الأجناس الأخرى. وفي المقابل فإن غالب الأمريكان السود في حالة ثأر دفين على ما أصاب آبائهم وأجدادهم من ظلم. وما حصل في لوس أنجلوس قبل عشرين عاما بسبب ضرب الشرطة للمواطن من أصول أفريقية رودني كينج أمام الكاميرا، وما يحصل الآن بسبب قتل السود بدم بارد نموذج لهذه الحقيقة. 

وكدليل آخر على تجذر الفكر الاستيطاني في العقلية الأمريكية هذا الاندفاع الخرافي لتأييد إسرائيل بطريقة تكاد تكون جزء من العقيدة الأمريكية. مع أن نفوذ الصهاينة في السلطة الفيدرالية وكثرة البروتستانت الصهاينة عاملين مهمين، لكن لم يكن الصهاينة لينجحوا دون جاهزية في الوجدان الأمريكي للاستيطان. (٧)

الحقيقة الثانية أن أمريكا لم تنشأ كقومية انبثقت منها دولة فكونت قطرا بطريقة تلقائية كما هو الحال في معظم دول العالم، بل نشأت أمريكا بولايات قليلة، بطريقة آلية إجرائية تحت مظلة الدستور، ثم استغرقت سلسلة انضمام الولايات الأخرى بنفس الطريقة الآلية حوالي ٥٠ سنة. هذه النشأة المصنوعة صناعة هي بمثابة تفاهم سياسي فوقي، أكثر منها اندماجا أو ذوبانا في هوية قومية واحدة بطريقة تلقائية.(٨)

هذه الحكاية في التكوين الغريب للوطن عند نشأة أمريكا، جعلت الانتماء مصطنعا والهوية متكلفة في الوجدان الأمريكي، مقابل الانتماء الطبيعي والهوية الواضحة في المواطنة عند معظم دول العالم. ولهذا السبب ترى الأمريكي يعيش هاجس الانتماء فيعوضه بالشكليات والإكثار من رفع العلم الأمريكي، والتغني بمجد أمريكا بمناسبات لا تمت بصلة للوطنية. وكمقارنة لتوضيح الصورة لا ترى من يرفع علم دولته في أوربا إلا في مباريات كرة القدم، لأنهم ليسوا بحاجة لإثبات هويتهم وانتمائهم. 

والانتماء المصطنع الذي يترجم بطريقة مسرحية قابل للانحسار بسهولة، إذا تعرض لهزة كبيرة بسبب سياسي أو عسكري أو أمني أو اقتصادي. وقد شاهدنا ذات العلم الأمريكي الذي يرفع بشكل مصطنع، يحرق في بعض المظاهرات المعارضة للعنصرية. (٩)

ولعل فشل النظام الفيدرالي في حسم الخلاف بين الشمال والجنوب، ولجوء الطرفين للحرب لحسم النزاع، دليل على محدودية قدرة النظام الفيدرالي على احتواء الوطن. وبنفس المقياس فإذا ما أحست بعض الولايات أنها متضررة سياسيا وأمنيا واقتصاديا، بسبب تحملها عبء الاتحاد بعد التوسع الامبراطوري المرهق والانكشاف الاقتصادي، فلن نستغرب ان تعلن بعضها الرغبة في الانسحاب من هذا الاتحاد. (١٠)


التركيبة السياسية 
تعتمد أمريكا اعتمادا كليا في تركيبتها السياسية على النظام الفيدرالي المثبت بطريقة مقدسة في الدستور. والإجراءات المحددة في هذا النظام هي التي ينتج عنها تكوين الكونجرس وانتخاب الرئيس، ومن ثم وضع القوانين ورسم السياسة الداخلية والخارجية. هذا النظام جميل ظاهريا في تمكين الشعب من المشاركة السياسية والمحاسبة، وتحقيق درجة عالية من الموازنة بين السلطات الفيدرالية والمحلية، لكن فيه إشكالات بنيوية لا يمكن إصلاحها إلا بتفكيك الدولة. 

الإشكال الأول أن النظام بقدر ما فيه مما ذكر أعلاه، فإن فيه ثغرات تمكّن الجماعات المنظمة القادرة على التآمر، من خطف جزء كبير من الدولة لصالحها. ومن هنا تمكن لوبي اليمين المتطرف، واللوبي الصهيوني ولوبي النفط والمال من تغليب مصالحهم على المصلحة العليا للولايات المتحدة. (١١)

هذه الثغرات لم تكن واضحة حين وضع النظام، لاستحالة استخدامها أيام الخيل والقطار، ولم يتبين أن استخدامها ممكن إلا بعد اختراع الهاتف والاذاعة والتلفاز، ثم الثورة الجديدة في المعلومات والاتصالات. ومنذ مطلع القرن العشرين والكيان الفيدرالي يتنقل بين اللوبيات، حتى انتهى به المطاف تحت السيطرة الكاملة للصهاينة. (١٢)

الإشكال الثاني أن النظام الفيدرالي رغم انه ظاهريا مجرد رابط بين الولايات، لكنه في الحقيقة نظام متغول في نشاطه القانوني والقضائي والأمني ومن ثم الإداري والاقتصادي. ووضوح الفاصل بين السلطة المحلية والسلطة الفيدرالية قانونيا وإداريا وأمنيا، لم يقلل من التغول أبدا. 

وحين تضخم دور أمريكا العالمي، وصارت امبراطورية، وتعاظم دورها الاقتصادي عالمياً، تعاظمت  تداعيات توسعها من مشاكل أمنية وتبعات عسكرية. هذا التعاظم كشف الطبيعة المتغولة للنظام الفيدرالي، بطريقة صارخة وضاعف تدخلات السلطة الفيدرالية قانونيا وأمنيا واقتصاديا وإداريا عدة أضعاف. 

نظام الضرائب يلزم كل الولايات بدفع حصة من الضرائب للسلطة الفيدرالية، وأتى التوسع الامبراطوري فزاد الإنفاق بشكل مهول، ومن ثم تضاعفت مطالبة الولايات بدفع حصتها الضريبية للسلطة الفيدرالية. من جهة أخرى خلق التوسع الامبراطوري لأمريكا أعداء كثير في العالم، وخطرا خارجيا وداخليا عليها، فدفعها لتضخيم العمل الاستخباراتي والأمن الفيدرالي، سواء من ناحية العدد والكوادر، أو من ناحية الدور والتدخل في حياة الناس. (١٣)

من الناحية الاقتصادية فتح توسع النفوذ الأمريكي الأسواق للشركات الأمريكية، فتحولت إلى مؤسسات عملاقة بدخل سنوي وأصول تزيد عن دخل وأصول بعض الولايات، مما أدى لتحرك النظام الفيدرالي وتفكيكها. وقد تعرضت عدة شركات عملاقة للتفكيك بقرار فيدرالي، وليس ذلك بمؤامرة ولا خطة من خصوم هذه الشركات، لكنه إجراء طبيعي في صلب النظام الفيدرالي يمنع هذه الشركات من التضخم والاحتكار.(١٤)

التركيبة الاجتماعية
إضافة للعنصرية المتجذرة في الشعب الأمريكي، هناك حقائق أخرى عن المجتمعات الأمريكية تتصادم مع روتين النظام السياسي في أمريكا. 

الحقيقة الأولى غلبة الأمية السياسية على الأمريكان، فمعظم الأمريكان لا يعرفون شيئا عن العالم، بل لا يعرفون شيئا خارج ولايتهم، وربما لا يعرفون شيئا خارج مدينتهم. واذا كان المواطن لا يعرف شيئا عن الواقع السياسي والاقتصادي، ولا يهتم بالفوارق بين الاطروحات المختلفة للسياسيين، فكيف يكون له دور مسؤول في الانتخاب والمشاركة السياسية؟. 

والأمية السياسية هي مما استثمرته اللوبيات لتوجيه الشعب بالطريقة التي تريد، من خلال استخدام الإعلام والتحكم بهذه الجموع الجاهلة. ولذلك فإن الكثير من المواطنين الأمريكان لا يهتمون أصلا بالنشاط السياسي والانتخابات، وإن اهتموا ففي حدود المجلس البلدي أو كونجرس الولاية. أما القليل الذي يهتمون بانتخابات مجلس النواب والكونجرس والرئيس فإن مقاييسهم ليست منطلقة من علم ومعرفة، بل من اهتمامات محدودة تعرف قيادات اللوبيات كيف تتلاعب فيهم من خلالها. (١٥)

الحقيقة الثانية هي حداثة المجتمعات الأمريكية، بمعنى أن أفراد المجتمع وأسره جديدة على بعضهم بعضا، سواء كانوا مهاجرين قادمين من خارج أمريكا أو متنقلين داخل أمريكا. ولا يكاد يوجد مجتمع مستقر داخل أمريكا في إلا في حالات نادرة في بعض القرى والمدن الصغيرة. 

يعتقد البعض أن هذه الحداثة تعطي حيوية وديناميكية للمجتمع الأمريكي، لكن الحقيقية أن غياب الاستقرار، ومن ثم قصر أمد العلاقة بين الناس، يحرم المجتمع من التفاهم على طريقة معينة في الحياة، ويشعر الجميع بأنه غريب على الجميع. ولهذا السبب فإن غالب النشاطات الاجتماعية في المجتمعات الأمريكية مبنية على الوضع التجميعي المؤقت، والعلاقات الجديدة وليس مبنيا على استقرار وملازمة تاريخية. 

الحقيقة الثالثة أن المجتمع الأمريكي يقدس السلاح، ويعتبر الحق في اقتناء وحمل السلاح واستخدامه والتدرب عليه حقا طبيعيا، ولذلك جاء النص عليه في الدستور الأمريكي. وأصل فكرة تقديس حمل السلاح مبدأ فلسفي جميل، مبني على منع الدولة من التغول على الشعب، لكن يبدو أن الفكرة لم تحقق شيئا في منع هذا التغول كما ذكرنا في الحديث عن التركيبة السياسية. ولهذا فإن انتشار السلاح واستخدامه، لن يخدم هذه الفكرة، بقدر ما يخدم ارتفاع نسبة الجريمة وفرصة الفوضى لو قلت هيبة السلطة الفيدرالية أو المحلية. 

ورغم الحرب على الإرهاب والهاجس الأمني الذي سيطر على مفاصل الحياة في أمريكا، فلا تزال الميليشيات المسلحة قانونية في أمريكا، بل وتحولت إلى تجارة وشركات ومؤسسات مالية. هذه المفارقة بين المبدأ الذي من أجله قدس الدستور الأمريكي حمل السلاح، وبين نتائج انتشار السلاح، هي نموذج آخر من التناقضات الكثيرة بين المبادئ والواقع في الحياة الأمريكية.(١٦)

المنهج الاقتصادي
يتبنى الأمريكان الرأسمالية بطريقة عقائدية، وكأن آدم سميث موجود معهم على مدى الزمن، يدير اقتصادهم بشكل مستمر. وقد أدى التوجه المتطرف رأسماليا في منهج الحياة الأمريكي إلى عدة إشكالات، تركت أثرها على الدولة الأمريكية والمجتمع الأمريكي. 

الإشكال الأول أن التطرف الرأسمالي يعطي مساحة كبيرة للنشاط "النقدي" المجرد، فيتضخم هذا النشاط ويبتلع النشاطات التجارية والصناعية والخدماتية والمعلوماتية والبحثية. وبما أن النشاط النقدي غير منتج بل هو تلاعب ظاهري بالأرقام، فهو طريق مضمون للدمار الاقتصادي. هذا التضخم في النشاط النقدي (الاقتصاد الوهمي) المدمر للاقتصادي الحقيقي من حتميات التطرف الرأسمالي، ولا يمكن تفاديه إلا بالتخلص من تقديس الرأسمالية. (١٧)

الإشكال الثاني أن الاستغراق في القيم الرأسمالية يهون الاعتماد على الديون الربوية حتى لو بلغت أرقاما فلكية، بل حتى لو تجاوزت قدرة الإنتاج القومي كله على سدادها. هذا التهاون هو الذي جعل الاقتصاد الأمريكي معتمد بنيويا على القروض منذ تاريخ نشأة أمريكا. وإذا كان الكيان الأمريكي في مراحل سابقة قادرا على التعافي من الديون المتكررة على السلطة الفيدرالية، فإن التراكم الأخير يستحيل التعافي منه بكل المقاييس الاقتصادية. (١٨)

الإشكال الثالث أن النظام الرأسمالي المتطرف، يصنع تفاوتا طبقيا خطيرا في المجتمع، ويزرع الأحقاد والضغائن والفجوة النفسية الهائلة بين الطبقات. وقد بينت الإحصاءات أن الوقت يدفع باتجاه تكدس الأموال عند الأقلية الصغيرة، وأثبت آخر إحصاء أن التفاوت الحالي هو أكبر تفاوت منذ بدأ جمع المعلومات ونظام الإحصاء. وفي أحد هذه الإحصاءات حصل ١٪ على أكثر من خُمس دخل الشعب الأمريكي، و١٠٪ دخلهم أكبر من دخل نصف الشعب الأمريكي. (١٩)

النخبة الفكرية الأمريكية
رغم الأمية السياسية ومحدودية الثقافة العامة في المجتمع الأمريكي، فقد أنتجت أمريكا عددا لا بأس به من المفكرين والفلاسفة، بل وكان للمفكرين دور في نشأة أمريكا الأولى وتدوين دستورها وصياغة مبادئ الدولة. لكن واقع الحياة الأمريكية تسبب في إشكالات أثرت في مدى عطاء هذه النخبة وطريقة تأثيرها في الحياة الأمريكية.

الإشكال الأول أن تراكم آثار التركيبة الفيدرالية وتضخم نفوذ اللوبيات، قلل من دور المفكرين في صناعة الرأي العام، وصياغة السياسة حين جردهم من المنصات المؤثرة في المجتمع الأمريكي. فالمفكرون لا يمكن أن ينافسوا قوى الإعلام الهائلة التي تديرها اللوبيات برسائل ساذجة وسطحية عن واقع أمريكا والعالم. كما أنهم لا يمكن أن ينافسوا قوى المال التي تُرشح من ترغب للمواقع السياسية في الكونجرس والحكومة. 

الإشكال الثاني أن المفكرين المؤمنين بقيم الحرية والعدالة انتهوا إلى إحباط حين أدركوا عجزهم عن إقناع أنفسهم بموازاة مزاعم المشروع الأمريكي في تحقيق هذه القيم، بينما أمريكا تحارب الحريات في كل أنحاء العالم بدم بارد. وفي المقابل ترعرع دور المنظرين للاستعمار والاستقطاب العالمي والتطرف اليميني لأنهم أكثر انسجاما مع السياق الأمريكي الحالي. وكلما ازداد دور هؤلاء المنظرين كلما أضفى المزيد من الشرعية على الصدام الاجتماعي داخل أمريكا ومواجهة العالم خارج أمريكا. (٢٠)

أمريكا والعالم

علاقة أمريكا بالعالم هي كذلك كتلة من المفارقات تسبب فيها قصة نشأة أمريكا وتنامي حجمها وقوتها الاقتصادية والعسكرية وقدراتها الصناعية والتقنية. كانت أمريكا ملتزمة بمبدأ "مونرو" (٢١) وتتحاشى التمدد العالمي، إلى أن اندلعت الحرب العالمية الأولى ففتحت الشهية أمام هذا التمدد، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية فاندفعت أمريكا بلا حساب لملء فراغ بريطانيا وفرنسا في العالم. ومنذئذ صارت علاقة أمريكا بالعالم في حالة مفارقة لأنها تخضع  لحقائق متناقضة:

الحقيقة الأولى أن العالم كله يحتاج أمريكا اقتصاديا، فإمريكا تنتج ربع الناتج العالمي، وعملتها تكاد تكون العملة العالمية الرسمية، ولا تنافسها أي عملة صعبة أخرى. كما إن العالم يحتاج أمريكا تقنيا لأن مساهماتها التقنية أكثر من نصف مساهمات بقية العالم، وطوابير الأي فون في مدن العالم أكبر دليل على ذلك. هذه الحاجة تقوي أمريكا وتعطيها عمرا، ولكن في نفس الوقت تدفعها لغرور يعميها وينسيها مشاكلها الخطرة والكارثية. (٢٢)

الحقيقة الثانية أن الغرب المتحالف مع أمريكا يحتاجها عسكريا وأمنيا، وكان ولا يزال يعتمد عليها منذ الحرب العالمية الثانية، ولو اجتمعت كل جيوش أوربا ما استطاعت أن توازي قوة الجيش الأمريكي وتسليحه. كما أنه يعتمد أمنيا على أمريكا بسبب قوة انتشار السي آي إيه، والتي توازي بنفوذها النفوذ المخابراتي لكل دول أوربا مجتمعة. هذا الاعتماد الأوربي والغربي على أمريكا زاد من غرورها، ومن ثم عجزها عن الانتباه للتحديات الكارثية. (٢٣)

الحقيقة الثالثة أن أمريكا حين تمدد نفوذها السياسي، استغرقت في التعامل مع العالم بطريقة الهيمنة والتحكم، واعتقاد أن كل شبر في العالم خاضع لرأيها وإرادتها ومحقق لمصالحها. هذا الشعور هو الذي أدى لصدام أمريكا مع قوى اليسار في الخمسينات والستينات والسبعينات، ثم الإسلام الجهادي بعد التسعينات. وبسبب الحقيقتين السابقتين لم يكن بمقدور آلة القرار في أمريكا أن تتصور خطورة هذا التحدي العالمي مطمئنة لحاجة العالم وتحالف الغرب. (٢٤)

ثم أما بعد

هذا الفحص الشامل لأمريكا ربما يعين على فهم واقعها الحالي وتصور مستقبلها، وحقيقة استشراف من يرى أنها ستسقط أو على الاقل تنكمش انكماشا كبيرا. وربما تحين الفرصة لاحقا لتتبع هذه المحاولات في الاستشراف، ومدى مقاربتها لفهم أمريكا بالطريقة التي طرحت هنا.


-----------------
(١) يكفيك أن تكتب في قوقل سقوط أمريكا باللغة العربية أو باللغة الانجليزية، وترى الكم الهائل مما كتب عن هذا الموضوع. 

(٢) قد تشبه أمريكا بعض الدول في بعض تفاصيل نشأتها، مثل كندا والبرازيل لكن لا تجتمع معها في كل صفات التفرد والتميز. 

(٣) الطريقة التي شُحن فيها الأفارقة كالحيوانات في السفن، والتي كانت تتسبب في وفيات تزيد عن ٥٠% ترمى جثثهم في المحيط ثم بيع من بقي حيا منهم، واستعباد اطفالهم وقتل كبار السن الذي صاروا عديمي الفائدة منهم، واستخدام فتياتهم للمتعة، كلها نماذج من العنصرية المتجذرة في الشخصية الأوربية. وفي هذا الرابط المزيد من التفصيل إضغط هنا

(٤) يعتقد البعض أن العنصرية انتهت مع تحرير العبيد أيام ابراهام لنكولن، لكن الحقيقة أن العنصرية لم تنته رسميا وقانونيا إلا بعد حملة الحريات المدنية بقيادة مارتن لوثر كنج في الستينات الميلادية، حيث بقي الأسود يعامل كمواطن أقل درجة بعد تحريره من العبودية إلى أن ألغيت بالكامل قبل ٥٠ سنة تقريبا. 

(٥) الإحصاءات عن الممارسات العنصرية في أمريكا، تعكس هذه الحقيقة وتبين أن القوانين لم تزحزح النزعة العنصرية عند البيض ضد السود واللاتينيين وكل الفئات الأخرى. وفي تعليقه على الأحداث الأخيرة قال أوباما كلاما قريبا من هذا إضغط هنا.


(٦) حينما تمارس العنصرية ضد فئة صغيرة مثل الغجر في أوربا، لا يشكل ذلك خطرا على كيان الدولة، لكن حين تكون كل فئة كبيرة كما في أمريكا فالعنصرية خطر حقيقي على الكيان. 

(٧) من أفضل من تحدث عن هذا الموضوع الدكتور عبد الوهاب المسيري في كثير من كتبه، وهنا عرض مختصر لأحد كتبه التي تناولت الموضوع إضغط هنا

(٨) دقق في هذا الخط الزمني ولاحظ انضمام الولايات وطريقة الانضمام إضغط هنا.

وهذا بحث أكاديمي موسع في تحدي الهوية في العقلية الأمريكية إضغط هنا.

(٩) في عام ١٩٩١ حصلت احتجاجات أعنف من الاحتجاجات التي حصلت الآن في لوس انجلس ومدن أخرى، كان سببها ضرب الشرطة لرودني كينج المواطن الأمريكي من أصول أفريقية بلا سبب أمام الكاميرا وانتشار الفيديو وقتها. 

(١٠) هناك حركة حقيقية تنادي باستقلال كاليفورنيا وهذه إحدى إصداراتها إضغط هنا

(١١) لمعرفة المزيد عن دور اللوبيات وتاريخها راجع كتاب (من يحكم أمريكا تأليف شادي فقيه).

(١٢) كنموذج لاختطاف السياسة الخارجية الأميركية من قبل اللوبيات تأمل هذا البحث في الجزيرة نت إضغط هنا.

(١٣) منذ أن أنشئت الإف بي آي، وقادها إدجر هوفر وهي تحشر أنفها في كل شيء، حتى تضخمت لمستوى مكلف للولايات المتحدة بعد أزمة سبمتبر وصارت أكثر حضورا من الشرطة المحلية. 

(١٤) فكك القضاء الفيدرالي عدة شركات كبرى أمريكية كان آخرها مايكروسوفت، واعتبر بعض المفكرين هذا التفكيك دليلا على التغول الطبيعي للدولة الحديثة التي لا تريد لشيء أن ينافسها في السلطة والنفوذ.راجع كلام ملتون فريدمان المفكر الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل في هذه المقالة التي ينتقد فيها تغول السلطة المركزية على حرية الانتاج والملكية والتجارة إضغط هنا.

(١٥) متابعة بسيطة للقنوات المحلية في أمريكا، تبين لك مدى سذاجة الشعب وقابليته للتلاعب به ممن يقود الإعلام.

(١٦) هذا موقع رسمي للميليشيات الأمريكية، ليس فيه أي تحفظ على التدريب وحمل السلاح إضغط هنا.

(١٧) تحدث الاقتصادي المتخصص الحاصل على جائزة نوبل بول كروجمان عن استحواذ النشاط النقدي على الاقتصاد، وكيف أنه يدمر الاقتصاد بكل سهولة، وان الاستغراق في ذلك حتمي لا مفر من الانهيار بعده إضغط هنا.

(١٨) تأمل الصعود الصاروخي للدين القومي الأمريكي في هذا الرسم البياني إضغط هنا.

(١٩) راجع هذه المقالة حول الموضوع في نيويورك تايمز إضغط هنا.

(٢٠) تابع مقالات ومحاضرات الفيلسوف الامريكي نعوم شومسكي وتدرك مدى الإحباط الذي أصابه وأصاب عددا كبيرا من أمثاله. 

(٢١) مبدأ مونرو، هو التزام أمريكي تعهد به الرئيس جيمس مونرو سنة ١٨٢٣ بتحديد نفوذ الولايات المتحدة بين شمال كندا وجنوب المكسيك ومنتصف المحيط الأطلسي ومنتصف المحيط الهادي. وهو المبدأ الذي تخلت عنه أمريكا تدريجيا حتى نسته تماما.

(٢٢) لماذا يحتاج العالم أمريكا مقال مختصر ومركز إضغط هنا.

(٢٣) راجع هذا المقال في مجلة فورين افيرز: لماذا تبقى قوات امريكا في اوربا إضغط هنا

(٢٤) راجع مقالنا من يحصد أرباح الحرب على الإرهاب إضغط هنا.

مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق