السبت، 23 أغسطس 2014

قلب الطاولة على العلمانيين


لو واجه الإسلاميون الصف العلماني بفرص متكافئة، لبدت العلمانية غاية في التفاهة والتهافت أمام الإسلام، لكن الظروف الحالية جعلت مواجهة الإسلام للعلمانية خاضعة لإشكالات كثيرة، حجّمت مقدرة الإسلاميين على سحق العلمانية، سواء عالميا أو في حدود العالم الإسلامي والعربي. من هذه الإشكالات:

تمكين النخب العلمانية بالقوة
يعيش العالم الإسلامي وخاصة العربي منه منذ عدة عقود، وضعا فكريا وثقافيا مصطنعا، أفرزه التمكين المتعمد للنخب العلمانية المدعومة من الغرب، بعد أن فُرضت على الأمة تحت ظلال الطغيان السياسي، وبعد أن أُبعدت النخب الإسلامية الملتزمة بأصالتها. ولقد سيطرت هذه النخب العلمانية على الإعلام والمنتديات الفكرية والثقافية، واحتكرتها لترويج أفكارها المحاربة للأصالة تحت مبررات مختلفة، ووجدت نفسها في حلف طبيعي مع الأنظمة الباطشة، بسبب التبادل الطبيعي للمصالح. ووفرت هذه السلط الحاكمة الجو السياسي والأمني والإعلامي لبث الفكر العلماني، وفي نفس الوقت تعطيل وتحجيم وتشويه الفكر الإسلامي. ومع أن الإسلاميين فرضوا أنفسهم من خلال القوة الذاتية التي في رسالتهم ومصداقيتهم التلقائية في المجتمعات الإسلامية، إلا أن النخب العلمانية لا تزال لها الغلبة من ناحية التمكين.

مرجعية العلمانية في العالم
تحاول هذه النخب العلمانية العربية الاتكاء على الهيمنة العالمية للعلمانية، من خلال القوى الغربية والمؤسسات العالمية، التي جعلت العلمانية السياسية والعلمانية الاقتصادية والمُثل الغربية، الأساس والمرجع عالميا. ونجحت من خلال هذا الاتكاء في جعل أساس التفكير والتعامل المحلي والعالمي علمانيا. هذا الواقع المثقل بالمرجعية العلمانية سياسيا واجتماعيا، والمليء باللغة والمصطلحات العلمانية يجعل الطرح الإسلامي بالضرورة في خانة ضيقة أمام العلمانيين، ويضطر كثير من الإسلاميين دون أن يشعروا لأن ينطلقوا من منطلقات علمانية، أو أن يستخدموا لغة علمانية.

نزعة الاختزال الفكري عند الإسلاميين
استفاد العلمانيون من غلبة ظاهرة الاختزال في الطرح الإسلامي السياسي، وتدوير المشروع الإسلامي السياسي حول فرد الحاكم، بدلا من النظرة الشاملة لنظام الحكم. هذا الاختزال أعطى انطباعا بأن المشروع السياسي الإسلامي مشروع "ثيوقراطي" مهمته فقط توفير الشرعية للحاكم من قبل رجل الدين، على طريقة الكنيسة والملوك في أوربا فيما يسمى بالقرون الوسطى. والمشكلة التي نعانيها أن الذي يتبنى هذا الاختزال في الطرح الإسلامي، ليس العلماء المحسوبين على الحكومات فقط، بل كثير من الذين يصنفون مفكرين ومثقفين إسلاميين. وما لم نتخلص من ظاهرة الاختزال ونعود إلى التأصيل الشرعي الصحيح للمشروع السياسي الإسلامي، فستبقى هذه ثغرة ينفذ منها العلمانيون.

خلط التراكمات الاجتماعية بالدين
استفاد العلمانيون من اختلاط التراكمات الاجتماعية بالدين، واستثمروا الواقع الفكري والثقافي لكثير من المشايخ والمثققين، الذين يمارسون تغييبا للمنهجية الدينية، وبدلا من ذلك يعتبرون التراكمات الاجتماعية دينا ثابتا مقطوعا به، ويمارسون الولاء والبراء على أساسه. وبدا العلمانيون بالضرورة أكثر انسجاما وأقل تناقضا مع أنفسهم، أمام من يخلط التراكمات الاجتماعية بالدين، ويتخلى عن المنهج الشرعي المتجرد. وأكثر ما تجلت هذه الظاهرة في قضية المرأة التي يتعامل معها الإسلاميون بحساسية بالغة، وكأنها هي كل الدين، ويعطونها الأولوية على أمور كثيرة هي في صلب التوحيد والعقيدة والمنهج.

الطرح الاعتذاري الدفاعي
استفاد العلمانيون من غلبة الطرح الإسلامي الاعتذاري، الذي يريد أن يعدل الرسالة الإسلامية لتناسب الواقع الحالي في العالم، ويريد أن يقلد المشاريع العلمانية في تقديم مشاريع اجتماعية واقتصادية وسياسية، ولا يدرك أنها تُركّب تركيبا مصطنعا فوق الهيكلية العلمانية. ويشعر العلماني بالتفوق حين يرى الإسلامي يطرح طرحا تجميليا، يُكيَّف من أجل أن يناسب الأساس العلماني للدولة القطرية.


الطبيعة الحالية للمواجهة مع العلمانية

هذه المعطيات أدت إلى تشكل استقطاب فكري  بين فريقين، بيدهما أسلحة مختلفة، وفي أجواء محتومة العدائية والمواجهة. وفي ظل الجهل والتجهيل والتهميش للشعوب في العالم الإسلامي، وفي ظل القمع السياسي، أدى هذا الاستقطاب والحرب الفكرية غير المتوازنة إلى اضطراب فكري وتشرذم ثقافي، زعزع استقرار المجتمعات المسلمة وملأها بالبلبلة الفكرية، التي غالبا ما يهرب منها الناس باللامبالاة.

اختراق التفوق الأدواتي للعلمانية
أحدثت الثورة المعلوماتية وثورة الاتصالات وما يسمى بالعولمة، تغييرا جذريا في هذه المعادلة، وساهمت في سلب النخب العلمانية من احتكارها للفكر والإعلام، وتمكين النخب الدينية من مخاطبة الجماهير بلا حواجز. وبهذا السيل من التدفق المعلوماتي وتقنية الاتصال في الانترنت والفضائيات وغيرها، اقترب الطرفان أكثر لما يمكن وصفه بتساوي الفرص، رغم استمرار النخب العلمانية بالتشبث بأدوات الإعلام والثقافة، مدعومة بالحكومات ومحمية بالقمع الأمني. ولقد أدى توفر وسائل الاتصال، وتكافؤ الفرص، إلى حالة غضب لدى النخب العلمانية، لدفع الحكومات إلى مزيد من القمع والتسلط على التيارات الإسلامية، في محاولة لتحجيمها بالقوة. ولولا هذا الدعم من قبل الحكومات والتمكين والحماية وتوفير المظلات الإعلامية والثقافية، وفرضها بالقوة على الناس، لربما أدى تطور وسائل الاتصال، لسحق القوى العلمانية بالكامل.

مبعثر لكن يفرض نفسه  
وليس غريبا بعد هذا التطور أن يستعيد الطرح الإسلامي ثقله وقوته في المجتمع المسلم، أو على الأقل يصبح صوتا قويا في وجه الطرح الإعلامي المصطنع المفروض على الأمة. لكن مع استمرار القمع السياسي والتدخل السلطوي السافر في الفكر والإعلام، اضطرت النخب الإسلامية لأن تخاطب جمهورها من وراء الأفق، وتتحدث من خلال تكوين مبعثر غير قادر على ترتيب نفسه في مرجعية إسلامية محلية أو عالمية. وبهذا انتقل التشرذم الثقافي والاضطراب الفكري من طيف يمتد بين العلمانيين والإسلاميين، إلى طيف يسيطر عليه الإسلاميون، وأصبح الجدل الفكري إسلاميا إسلاميا بعد أن كان إسلاميا علمانيا.

المرجعية باتجاه التشكل
هذا الجدل بين الإسلاميين الذي غابت عنه المرجعية، وغلبت عليه الأفقية والفردية في الطرح، وحُرم من فرص الحوار الحر المعلن المباشر، خلق جوا جديدا من القلق الفكري، وأثار بالضرورة عددا هائلا من التساؤلات لدى المسلمين وغيرهم عن حقيقة الإسلام ومن يتحدث باسم الإسلام. هذا القلق الفكري باعث قوي على ضرورة التعجيل بالطرح المرجعي الجماعي، الذي يعطي الصوت الإسلامي مصداقية في قواعده الاجتماعية، ومصداقية أمام خصومه من الأفكار الأخرى.

كيف تقلب الطاولة على العلمانيين؟

بعد معرفة هذه المعطيات وطبيعة المواجهة، وبعد الخروج من هيكلية التفكير المفروضة علينا في الإعلام والتعليم، نستطيع مواجهة الطرح العلماني بكل اقتدار، باستحضار مجموعة من النقاط التي تضمن هزيمة الفكر العلماني بكفاءة بالغة:

أولا: المتصدي للطرح العلماني يجب أن يكون عارفا بالمبادئ الأساسية للفكر العلماني، وخاصة المذهب الليبرالي، وأن يهتم على وجه الخصوص بحقيقة تطور مفهوم العلمانية، كما يتأكد من فهمه للعلمانية الشاملة في مقابل العلمانية الجزئية التي لم يعد أحد يتبناها الآن.

ثانيا: استحضار حقيقة أن العلمانية مهيمنة ومسيطرة، وأن الذين يتبنونها على مستوى العالم فخورون بها، ويطرحونها على أساس أنها هي الحضارة وهي المرجعية، ويجب أن يتخلص من التسطيح الذي يمارسه الكثير ممن زعم أن الليبرالية أو العلمانية، تنحسر وتنهار بسبب الانهيار الخلقي والاجتماعي في الغرب.

ثالثا: إدراك أن العلمانية لا تعني الديموقراطية بالضرورة، بل إن النازية والشيوعية أشكال ونماذج من تمظهر العلمانية. والتشريعات الجديدة في أمريكا، واستعداد الأمريكان التخلي عن الحقوق المدنية، من أجل ضرورات أمنية، دليل على أن المصلحة مقدمة على المبدأ. ثم حتى مع التسليم بالديموقراطية، فإن المساواة والحرية وحقوق الإنسان المزعومة، ليست للعالم كله، فهي للجماعة المحددة فقط، وأما بقية العالم فيجب أن يبقى تحت الظلم والبطش، حتى يُؤمن لهذه الجماعة مصالحها.

رابعا: يلاحظ لدى العلمانيين والليبراليين العرب وخاصة في بلادنا، رعب من اتهامهم بالتشكيك في أصل الدين، ولذلك يحاولون التهرب من كون العلمانية أو الفكر الليبرالي -أو على الأقل الطرح الذي يطرحونه- يناقض أصل الدين، وهذه تشكل نقطة ضعف واضحة لديهم. والذين يصرحون بالكفر وعدم الإيمان بالدين ليسوا مشكلة، لأنهم مكشوفون ابتداء، ولا يحتاج أحد لأن يتصدى لهم.

خامسا: معظم النخب العلمانية والليبرالية منافقة انتهازية، متحالفة مع الأنظمة، وتجد المستمسكات عليهم في التنظير للأنظمة التي تضعهم في خانة ضيقة تقتلهم. ولذلك يسهل قطع لسانهم من خلال اتهامهم بأن مزاعمهم الليبرالية ليست لحرية التعبير والمحاسبة والمشاركة السياسية، بل هي للتحرر من القيم والدين نفسه، وأنهم في المقابل عبيد وأبواق لمن يمارس القمع السياسي.

سادسا: من الخطأ تبرير مسائل ثابتة في الشرع، أو محاولة تجميلها أو تفاديها، سواء كانت في قضية المرأة أو المشروع السياسي الإسلامي، فالشرع ثابت لا يمكن تغييره. المرأة لها نصف حق الرجل في الميراث، ونصفه في الشهادة، وللرجل قوامة عليها، وللرجل عصمة الطلاق، وله على المرأة حق الطاعة، وهي ناقصة عقل ودين، فمحاولة تجميل هذه الأمور مشروع فاشل مقدما. وكذا الحدود الشرعية، وعلاقة المسلم بالكافر، وتفضيل المسلم على غير المسلم في كثير من الأمور، كلها أمور لا يملك أحد أن يغيرها، لأنها ثابتة ثبوتا قطعيا حاسما في الكتاب والسنة.

سابعا: من الخطأ الدفاع عن التراكمات الاجتماعية واعتبارها من الدين والاستماتة في ذلك، ومن الخطأ كذلك تغيير الأولويات وجعل المشروع الإسلامي يدور حول قضايا اجتماعية ضيقة. الإسلام مشروع الإنسان كله، مشروع سبب خلق الإنسان، مشروع تعبيد الإنسان والبشر كلهم لله، ومشروع خلافة الله في الأرض. ينبغي التفريق بكل شجاعة بين ما هو دين ثابت، وبين التراكمات الاجتماعية التي ليست من الدين، أو التي فيها جانب ديني لكنه خلافي وفيه نظر.

ثامنا: من الخطأ التشبث بظاهرة الاختزال للمشروع السياسي الإسلامي، وظاهرة تدوير المشروع الإسلامي على فرد الحاكم، وضرورة تجنب الانجرار إلى ميدان الدفاع عن طرح خاطئ. ويجب في المقابل توسيع مفهوم المشروع السياسي الإسلامي، وسيظهر بسهولة تهافت المشروع العلماني أمامه.

تاسعا: تجنب الدفاع عن قضايا خلافية أو قضايا جزئية فيها نظر، والإصرار في المقابل على طرق القضايا الكلية والمنهجية والمصيرية.

عاشرا: العلمانيون وبالأخص الليبراليون، الذين يزعمون أن الديموقراطية والتمثيل الشعبي والرأي العام، قضايا بنيوية أصيلة في الفكر الليبرالي، يناقضون أنفسهم مناقضة صارخة حين يعارضون فكر الشعوب العربية وقياداتها الاجتماعية (فكر الأغلبية) ويسعون لفرض فكرهم المستورد الدخيل (فكر الأقلية) فرضا بقوة السلطة. وهذه إحدى النقاط التي تصيب منهم مقتلا، وتفضح مزاعمهم باحترام الرأي العام، وتطلعات الجماهير وقبول صوت الأكثرية.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق