مقدمة:
تمثل مسألة الدولة واحدة من أكثر المسائل تعقيداً في الاجتماع السياسي الحديث. وقد شكلت مسألة الدولة أحد أكبر التحديات التي واجهت التيار الإسلامي السياسي منذ ولادته في عشرينات القرن العشرين. لاحظ الإسلاميون الأوائل كيف باتت الدولة الحديثة تتحكم في كافة شؤون الحياة، وهو ما طور رؤيتهم تدريجياً باتجاه محاولة القبض على مقاليد الحكم والسلطة. بدون التحكم بمقاليد الدولة، رأت القوى الإسلامية السياسية، لا يمكن لمشروع الأسلمة الذي حملوه أن يمضي قدماً. ولكن الإسلاميين لم ينظروا إلى الفارق الكبير بين بنية الدولة الحديثة والأسس التي ترتكز إليها، ونموذج الدولة الإسلامية التاريخية الذي استبطنوه.
ولأن حركة الثورة العربية أدت وتؤدي إلى وصول قوى إسلامية سياسية عديدة إلى مقعد الحكم وقيادة الدولة، فإن مسألة الدولة أصبحت أكثر إلحاحاً ومدعاة للجدل، ليس فقط لأنها ستحدد نمط الحكم وإدارة شؤون البلاد، ولكن أيضاً لأنها سترسم علاقة القوى الإسلامية الحاكمة بالشعب وبالعالم.
هذه ملاحظات أولية حول مسألة الدولة الحديثة، التعقيدات التي تحيط بمشروع الأسلمة، وحدود هذا المشروع وآفاقه، من حيث علاقته بمؤسسة الدولة الحديثة، التي تعتبر النموذج الوحيد المتاح للدولة والوحدة المعترف بها على صعيد العلاقات الدولية.
في الاجتماع السياسي التقليدي:
كما الدول الإمبراطورية الأوروبية في القرون الوسطى كانت سلطة الدولة الإسلامية محدودة. أحد أسباب حدود القوة تلك، كان بالطبع بطء وقصور وسائل الاتصال، بما في ذلك وسائط نقل الأخبار والمعلومات ووسائط النقل والحركة. كما كانت تكاليف الحفاظ على مؤسسة عسكرية كافية ومتفرغة عالية نسبياً؛ وحتى أعلى مؤسسات الحكم الإسلامية كفاءة في تحصيل الموارد، مثل الدولة العثمانية، وجدت عنتاً كبيراً في الحفاظ على جيوشها في حالة جيدة، سيما بعد أن تراجعت وتيرة الفتوحات والموارد التي وفرتها.
بيد أن عامل الاختلاف الرئيس بين الدولة الإسلامية ونظيرتها الأوروبية تمثل في الدور الذي لعبته المؤسسة الدينية، طبقة العلماء، في المجال الإسلامي. ففيما عدا الدوائر المتعلقة مباشرة بالحكم والإدارة (بما في ذلك قطاع من الإدارة المالية)، لم تتمتع الدولة الإسلامية بحق التشريع، الحق الذي حافظت عليه مؤسسة العلماء باعتبارها حارسة الدين والمتحدثة باسم الشريعة والجماعة. ولأن الدولة، حتى أكثر الدول الإسلامية التقليدية استبداداً وانحرافاً، أقامت شرعيتها أيضاً على أساس من الإسلام، فقد جمعت قيم الدين بين الدولة ومؤسسة العلماء وقوى المجتمع وجماعاته المختلفة؛ بمعنى أن الجميع عادوا إلى مرجعية واحدة، وتحدثوا لغة مشتركة، ورأوا العالم من منظار واحد.
في الوقت نفسه، وبخلاف المؤسسة الكنسية الأوروبية، لم تنجح الدولة الإسلامية مطلقاً في تحقيق الامتصاص الكلي لمؤسسة العلماء في جسم الدولة؛ ولا نظر العلماء لأنفسهم، حتى في دولة بيروقراطية المبنى كالدولة العثمانية، باعتبارهم شريكاً في الحكم والسلطة. وظلت طبقة العلماء تراوح في مساحة وسطى بين دائرة السلطة والحكم، من ناحية، ودائرة المجتمع/الجماعة، من ناحية أخرى.
بهذا المعنى لا يمكن وصف الدولة الإسلامية التقليدية بالاستبداد، أو على الأقل، أن استبدادها لم يكن شبيهاً باستبداد نظيرتها الأوروبية. لم تتغلل الدولة الإسلامية في قلب الجماعات المختلفة، التي تركت لتدير شؤؤونها في استقلال عن مؤسسة الحكم؛ ولكن في أغلب الحالات، لم تكن سياسات الدولة وقراراتها ترى من قبل الجماعات والفئات الاجتماعية باعتبارها غريبة أو غير منطقية. الحلقة الهامة في هذا التداخل، الجزئي بين الدولة والجماعة، يعود بالتأكيد إلى دور الجسر (وحلقة الاتصال) الذي تعهدته مؤسسة العلماء، والمشترك الإسلامي المرجعي بين الطرفين. كلما تعززت وجهة الدولة الإسلامية وارتفع مستوى تماهيها مع قيم الشريعة العليا، كلما اتسع نطاق المشترك بينها وقوى المجتمع وفئاته. ولكن الطبقة الحاكمة ظلت مع ذلك متعالية، وغير تمثيلية، تماماً كما هي طبيعة الطبقة الحاكمة في الدول ما قبل الحديثة عموماً.
ولادة الدولة الحديثة:
بيد أن العالم سيشهد انعطافة بالغة الأهمية في بنية الدولة وعلاقتها بالمجتمع، بدأت في التجلي ببطء في المجال الأوروبي منذ ما بعد عصر النهضة، وبعد منتصف القرن السابع عشر على وجه الخصوص. أدت الصراعات الأوروبية الداخلية إلى تشظٍ تدريجي للإمبراطورية الرومانية المقدسة، وإلى بداية تشكل الدول القومية الحديثة. وقد لعبت الحروب والتمايزات الدينية دوراً هاماً في بلورة جهاز الدولة وتأسيس شرعيات جديدة لمؤسسات حكمها. في مواكبة ذلك، ساهم التقدم الصناعي والتطورات المتسارعة في وسائل الاتصال في تعزيز الهويات القومية الوليدة، كما ساهم في تعزيز سلطة الدولة وتعظيم مواردها، سواء الموارد داخلية المصدر، أو تلك التي تدفقت من المستعمرات ما وراء البحار.
ليس ثمة من تعريف قاطع للدولة التي تحكمنا اليوم وتعتبر حجر زاوية النظام الدولي، أو الوحدة الأساسية للعلاقات بين الأمم وبنية المنظمات الدولية. تتباين تعريفات الدولة بتباين المعاجم اللغوية والموسوعات أو معاجم التخصصات المختلفة للعلوم الإنسانية والاجتماعية. التعريف الأشهر للدولة، الذي يعود إلى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، والذي يصف الدولة بأنها المؤسسة الاجتماعية التي تحتكر العنف، يفهم عادة بمعنى شرعية احتكار العنف، ويستبطن معاني السيطرة والهيمنة. ولكن المشكلة أن الدولة، كما كل المفاهيم ذات الامتداد التاريخي، لا يمكن تعريفها في صورة جامعة. وبالرغم من ذلك، فثمة تسميات أكثر شيوعاً للدولة من غيرها، مثل الدولة القومية (أو الدولة - الأمة، إن أردنا الترجمة الحرفية للأصل الأوروبي)، والدولة الحديثة.
والواضح أن مصطلح الدولة الحديثة أكثر شمولاً، ويفترض عادة أنه يضم الدول التي تؤكد سمتها القومية والأخرى التي تحاول أن تتجنب التوكيد على البعد القومي، بدون أن تغفله كلية. وتتعلق الأسباب خلف التوتر، أو التباين الخفي بين المصطلحين، بالجذور التاريخية لمؤسسة الدولة، وبتجلياتها المتعددة. ما لا يختلف عليه دارسو الدولة الحديثة أن بداياتها تعود إلى صلح وستفاليا في 1648، الذي وضع نهاية لحروب الثلاثين عاماً، عندما كانت أوروبا تعيش ذيول عصر النهضة وولادة الطبقات الوسطى، ولم تزل فريسة للصراعات الدينية الناجمة عن الانشقاق البروتستانتي، وصراعات الأمراء والملوك فيما بينهم حول نطاقات السيطرة والشرعية، وبين أغلبهم والمؤسسة الإمبراطورية، التي ورثت الإمبراطورية الرومانية المقدسة وإطارها الأوروبي الجمعي، حول السيادة. في وستفاليا، وضعت أسس فكرة الاستقلال السياسي، والتطابق بين حكم معين وحدود الكيان الذي يخضع لسيطرته.
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، شهدت أوروبا ثورتين كبريين، الثورة الإنجليزية والثورة الفرنسية. دفعت الأولى باتجاه فكرة الاجتماع السياسي التسامحي وتوكيد الحقوق، وأنجزت قفزة ملموسة باتجاه انتقال الدولة إلى مؤسسة تعبر عن إرادة الأمة، لا تجلياً لحق الملك الإلهي – السلالي. أما الثورة الفرنسية، التي كان لها أصداء كبيرة وواسعة النطاق، فقد أعلت من شأن فكرة المواطنة والمساواة أمام القانون كما لم يحدث من قبل في التاريخ الأوروبي، وأكدت الطابع القومي للدولة، باعتبارها تجلياً للتماهي بين مؤسسة الحكم والتنظيم الاجتماعي والأمة.
ولأن الدولة الحديثة نشأت في حقبة الصعود القومي، الذي كان المسوغ الأبرز لوجود العدد الأكبر من الكيانات السياسية الحديثة، تلعب الفكرة القومية دوراً بارزاً في بنية الدولة وتوجهاتها وطبيعة قراراتها. ولكن الدول تختلف في علاقتها بالفكرة القومية. هناك دول تتمتع بشعب متجانس(single regnum) إلى حد ما، وهو ما يساعد على تعزيز بنية الدولة الحديثة واستقرارها. ولكن دولاً كبريطانيا، مثلاً، التي هي نتاج المملكة المتحدة من عدد من الكتل الإثنية، تتجنب عادة التركيز على الهوية القومية؛ وقد طورت بدلاً منها هوية بريطانية جامعة وأوسع نطاقاً من الهويات القومية.
بيد أن جرثومة الهوية القومية سرعان ما انتشرت داخل أوروبا وخارجها، بقوة المدرسة والجامعة الحديثتين والتسارع الكبير في أدوات الاتصال والطباعة؛ وقد جعل التزاوج بين الحركة القومية والتقدم العسكري من الحرب جحيماً واسع النطاق من الدمار والخراب والإبادة. وأصبحت الحروب بدورها رحماً ضرورياً لولادة الدول، القومية – الحديثة، وتكاثرها، أو، كما يقول فاينر، أصبحت "الحرب الحاضنة الضرورية، والقوات المسلحة الأداة المميزة، لنظام الدولة." أخذت الأنظمة الإمبراطورية في الانحسار أو الانهيار، وفي انحسارها أو انهيارها، تركت خلفها كيانات سياسية جديدة، أو أفسحت المجال لتوسع إمبراطوريات منافسة.
بخلاف الدولة التقليدية، تمارس الدولة الحديثة حكماً مركزياً، يقوم على الأصل الأكبر: أن الدولة مصدر الشرعية ومنها تصدر القوانين؛ وتؤسس عملية التقنين لسيطرة الدولة الشاملة على التعليم، الاقتصاد والتجارة والنقد، الاتصال، الإسكان، أنماط السلوك، العقاب، الملكية، الأمن، والأرض والحدود. تفترض الدولة، باعتبارها تجلي الأمة، الولاء الكامل، الذي يؤسس في المقابل لفكرة أن قرارات الدولة وسياساتها تعبيراً عن إرادة الأمة، وللنص الدستوري الشهير على سيادة الشعب وعلى أنه مصدر السلطات، كما يؤسس كذلك لمبدأ الخيانة بكافة مستوياتها ودرجاتها.
وتعتبر الدولة الحديثة في مهدها الأوروبي دولة علمانية بامتياز. وبالرغم من أن من الصعب تحديد لحظة الانفصال الأولى بين الدولة والكنيسة، فالمتفق عليه أن الانشقاق البروتستانتي، وما ولده من حروب، يؤشر إلى بداية هذا الانفصال. بهذا المعنى، لم تمثل العلمانية في مطلعها تياراً مناهضاً للدين، بل توجهاً لتأميم الدين، أو تحريره من احتكار المؤسسة الكنسية. ولكن العلمنة في النهاية كانت ظاهرة تاريخية، صنعتها جملة المتغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية التي عاشتها أوروبا الحديثة، وأدت إلى تراجع دور طبقة رجال الدين وصعود فئات اجتماعية حديثة؛ وإلى انحسار دور الكنيسة، حتى في دول الأغلبية الكاثوليكية، لصالح مؤسسات غير دينية المنشأ؛ وإلى تقويض المؤسسات والعلاقات الاقتصادية التقليدية ونشوء علاقات جديدة، داخل المجتمعات وبينها وبين الخارج، مجردة من القيم الدينية؛ وإلى انهيار الرواية الكنسية للعالم، مفسحة المجال لروايات جديدة كلية.
وربما تصلح النقاط التالية، التي خلص إليها تشارلز تيللي، لتلخيص السمات الكلية للدولة الحديثة والشروط الاجتماعية المؤسسة لحداثتها:
1- تسيطر الدولة الحديثة على مساحة أرض متصلة ومحددة، وهي مصدر الشرعية الأعلى على هذه الأرض.
2- أنها دولة تحكم مركزي، يتفوق مستوى مركزيتها على أي مستوى تمتعت به مؤسسة الدولة من قبل.
3- أنها مؤسسة تعلو على وتتميز عن أية مؤسسة اجتماعية أخرى.
4- أنها تستطيع فرض ادعاء السيطرة باحتكار متزايد للقوة داخل مناطق تحكمها.
5- وتكفل هذه الدولة أنماط العدالة، حق التجمع، حرية الإعلام والنشر، حق التظلم، حماية الأقليات، الدفاع عن الحياة والملكية، مبدئياً وفي شكل عام، وليس بفعل نفوذ الفرد أو الصلات الخاصة.
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانطلاق حركة التحرر من الاستعمار، أصبحت الدولة القومية - الحديثة النموذج الشرعي الوحيد للدولة في العالم؛ وأسست الأمم المتحدة باعتبارها الإطار المرجعي لوجود الدولة وشرعيتها. وقد تعززت هيمنة الدولة القومية – الحديثة على الساحة العالمية السياسية بانهيار الاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات، وتحرر الكيانات السياسية القومية التي ضمها الإطار السوفياتي، وانقسام الكيانات فوق القومية القلقة التي احتمت بمظلة الكتلة الشرقية، مثل تشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا.
التحديث الإسلامي:
تحول التفوق الغربي إلى مصدر اهتمام وقلق كبيرين لمصلحي نهايات القرن التاسع عشر، علماءً كانوا أو رجال دولة أو رحالة أو مراقبين لطرائق عمل الإدارات الإستعمارية. وقد عكست الاستجابة الإسلامية للتحديات التي فرضتها مواجهة التفوق الغربي حقيقة أن التراجع الإسلامي الأول أمام القوة الصاعدة لأوروبا الحديثة جاء في ساحة الحرب لا في ميادين القانون والتعليم والإدارة. ولم يكن غريباً بالتالي أن تبدأ أولى محاولات الإصلاح الإسلامي على يد رجال الدولة، مثل سليم الثالث ومحمد علي وبايات تونس والسلاطين القاجار، وأنها اقتصرت على إعادة البناء العسكري. ولكن سرعان ما أصبح واضحاً ان التحديات الغربية كانت أكثر عمقاً وشمولاً، وأنه حتى إعادة البناء العسكري لم تكن ممكنة بدون إعادة بناء سياسي واجتماعي واقتصادي واسع النطاق. خلال الحقبة بين منتصف القرن التاسع عشر ونهاية الحرب العالمية الأولى، تعرضت معظم بلاد الإسلام لعملية إعادة البناء أو التحديث هذه، العملية التي وصلت في أغلب الأحيان إلى ما يشبه إعادة صياغة كاملة للمجتمعات الإسلامية.
اختلفت أدوات وديناميات برامج التحديث من منطقة إلى أخرى. في مصر، تونس، إيران، والدولة العثمانية، لعبت الدولة الدور الرئيس في حركة التحديث؛ بينما كانت الإدارات الاستعمارية هي المسؤولة عن برامج التغيير في الجزائر وأندونيسيا والهند، التي وقعت جميعها ضحية للتوسع الإمبريالي الأوروبي المبكر. وقد استأنفت الإدارات الإستعمارية دورها ذاك في مصر وشمال وغرب أفريقيا بعد أن وقعت هذه البلاد تحت السيطرة الأجنبية. وليس هناك من شك في أن المشروع التحديثي العثماني كان أكثر مشاريع التحديث شمولاً، إذ أنه تواصل من 1840 حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة، بدون أي انقطاع يذكر.
أحد أهم أهداف المشروع التحديثي، كما مثلته التجربة العثمانية، كان توكيد وبسط سيطرة الدولة على الأرض والمجتمع. استدعى ذلك الهدف احتكار الدولة لأدوات العنف، ممثلة في الجيش الحديث، وأجهزة الشرطة والأمن. كما استدعى بناء إدارة هرمية غير مشخصنة (ترتكز إلى سلسلة متصلة من مستويات المسؤلية)، وفرض الحكم المركزي على المناطق التي كانت تدار محلياً أو بما يشبه الحكم الذاتي. ومن أجل إحكام سيطرة الدولة وديمومة هذه السيطرة، وبهدف تعظيم الموارد، شقت الطرق الجديدة ومدت خطوط سكك الحديد، وأنشئت شبكات الاتصال التلغرافي، كما أطلقت مخططات الإصلاح الزراعي التي غيرت أنماط توزيع وملكية الأرض المستقرة منذ قرون. وقصد بإدخال النظام التعليمي الحديث وإقرار المناهج الدراسية المركزية ان تنتج المعاهد التعليمية الحديثة النمط المطلوب من موظفي الدولة، إضافة إلى خلق أمة ومجتمع جديدين، توحدهما رؤية واحدة ونمط تفكير واحد.
طبق المنطق نفسه في الحقل القانوني، حيث استبدل النظام القديم القائم على القاضي والمحكمة الشرعية بمحاكم حديثة؛ وبعد محاولة قصيرة العمر لتقنين الشريعة الإسلامية، استوردت الأنظمة القانونية الأوروبية المدنية كما هي تقريباً. وسواء في المناطق الواقعة تحت السيطرة الأجنبية أو في البلاد التي لم تزل تحت حكم إسلامي، وضعت الدولة يدها، وعلى نطاق واسع، على الأوقاف، إما لأن الدولة رأت فيها قاعدة ومصدر دعم للقوى التقليدية المناهضة للمشروع التحديثي، أو لسعي الدولة إلى الحصول على مصادر ثروة إضافية لتمويل حركة التحديث. وإلى جانب الاختراق الاقتصادي الأوروبي الواسع للأسواق الإسلامية والتهميش المتزايد لاقتصاديات بلدان العالم الإسلامي، فإن حقبة التحديث تركت أثاراً عميقة على التكوين الإجتماعي، على علاقة الدولة بالمجتمع، وعلى منظومة القيم الثقافية والاجتماعية.
تزامنت محاولات إقرار مباديء التمثيل السياسي والنظام الدستوري، التي شهدتها مصر وتونس والإمبراطورية العثمانية وإيران، والتي استهدفت تأسيس إحساس بالمواطنة، مع التوجه لتوكيد سلطة الدولة وتعزيز قوتها. وبتقويض "الاستقلال المحلي" الذي وفرته أنماط التنظيم الإجتماعي التقليدي، بإدخال أنظمة شمولية إلى حقلي التعليم والعدل، وباحتكار حق التشريع، تجلت قوة الدولة وسيطرتها كما لم تتجلى من قبل طوال التجربة التاريخية الإسلامية. واختل بذلك التوازن الإسلامي التاريخي بين المحكوم والحاكم لصالح الأخير.
بيد أن مسافة متسعة أخذت تفصل الحاكم عن المحكوم، وإحساس بالاغتراب أخذ يثقل العلاقة بين الناس والقوانين الجديدة، والمدرسة والثقافة الجديدتين، وهو ما ولد مقاومة اجتماعية قوية. ولأن عملية التحديث مضت بموازاة اختراق أوروبي اقتصادي وتجاري عميق، شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتفاضات شعبية متتالية في عدد من مدن السلطنة العثمانية، دللت جميعاً على عمق الألم والغضب الذي انتاب جموع المسلمين جراء فقدان سبل المعاش والأمن الاجتماعي. أما في البلدان الإسلامية الواقعة تحت الحكم الأجنبي، مثل الجزائر والهند، فقد كانت المقاومة وردود الفعل أكثر عنفاً وأطول زمناً.
ولدت الدول العربية من رحم الدولة العثمانية، التي استلهمت النموذج الأوروبي الحديث في القرن التاسع عشر، أو كوريثة للإدارات الاستعمارية، التي أقيمت هي الأخرى على صورة المتروبول الإمبريالي الغربي الحديث. من جهة امتلاكها لوسائل القوة وأدوات السيطرة والتحكم، وقدرتها على الوصول إلى كافة طبقات المجتمع، تعتبر الدولة العربية دولة حديثة بامتياز. وليس ثمة شك أن هذه الدولة، بالرغم من ضعفها في ميزان القوى العالمي، وأحياناً الإقليمي أيضاً، أفادت إلى حد كبير من التقدم المتسارع في وسائل الاتصال والتحكم. وسواء بفعل قدرتها المتفاوتة على الجباية، أو لاستنادها إلى مصادر ثروة ريعية، أو لارتباطها بالقوى الدولية واعتمادها على المساعدات الأجنبية، توفرت للدولة العربية الحديثة من الموارد ما ساعدها على الاحتفاظ بمؤسسات أمنية عسكرية باطشة، مقارنة بقوى المجتمع الأخرى. وتلعب هذه المؤسسات الدور الأبرز في تأمين سيطرة الدولة وتحكمها.
كان من المفترض عند لحظة الاستقلال أن تتطور الدولة العربية لتصبح أكثر تمثيلية واستجابة لقوى المجتمع وفئاته، وأكثر تعبيراً عن إرادة الأكثرية؛ أن تصدر قراراتها وسياساتها وتشريعاتها من روتين تفاوض ومساومة دائمة مع بنى المجتمع التحتية وقواه. ولم يكن ذلك الافتراض في حينه طائشاً، فقد كانت نضالات الشعب هي التي جاءت بالاستقلال أصلاً، وهي التي جعلت ولادة دولة الاستقلال ممكنة. ولكن لأسباب يصعب التطرق إليها هنا، لم يكن هذا هو المسار الذي أخذه تطور دولة ما بعد الاستقلال. ما حدث، أن الدولة العربية حافظت على خصائصها الحداثية الاستبدادية، وكفاءتها المميزة في إدارة آليات السيطرة والتحكم، بدون أن تطور مؤسساتها وأدواتها التمثيلية وشرايين اتصالها السياسية ببنى المجتمع التحتية. وباستكمال عملية سيطرة الطبقة الحاكمة على مقدرات الحكم والثروة خلال العقدين الماضيين، لم تعد الدولة تلقي بالاً للمجتمع الذي تحكمه.
وفي السياق التحديثي، فقدت المجتمعات العربية – الإسلامية إجماعها التاريخي. فما أن أخذ العصر الجديد في إنتاج رجالاته ولغته حتى أخذت طبقة العلماء، التي حافظت على لحمة المجتمع لقرون طوال، في التراجع إلى موقع هامشي، وبدأ النظام الأخلاقي التقليدي في الانهيار. ولأن التحدي الغربي كان المستبطن الرئيس لعملية التحديث، فقد ساهم التأثر بالنماذج الغربية السياسية – الاجتماعية والفكرية في تشظي المجتمعات العربية – الإسلامية. كما عملت السيطرة الأجنبية على بناء منظومة إقليمية ترتكز إلى التجزئة السياسية. ولم يلبث انهيار الإجماع وتبلور منظومة التجزئة أن عملا معاً على تقويض عوامل الاستقرار وتوليد المزيد من التشظي الداخلي، الإثني والطائفي.
الإسلام، الإسلاميون، والدولة الحديثة:
ما لذي تعنيه هذه السيرة إذن للجدل الدائر في الساحة السياسية العربية، سيما في الدول التي تعيش حالة من الثورة والتغيير، حول الإسلام والقوى السياسية الإسلامية والدولة الحديثة؟
1- باعتبار التاريخ الإنساني الطويل وتاريخ الاجتماع السياسي، تعتبر الدولة الحديثة ذات عمر قصير بالفعل، بحيث يصعب فهم سيطرتها القاطعة على تصور المجتمع الإنساني للدولة وفهم احتكارها القطعي للنظام الدولي. ولكن، وبالرغم من المعضلة التي تمثلها الدولة الحديثة للمجتمع الإنساني، فلا يبدو أن الإنسان الحديث في طريقه لإيجاد بديل عنها. وربما كانت المهمة الأولى أمام الشعوب العربية اليوم، بما في ذلك القوى السياسية الإسلامية، العمل على منع انهيار مؤسسة الدولة وانتشار الفوضى، من جهة، وعلى تحرير الدولة من الاستبداد، عقلنتها وجعلها أكثر تعبيراً عن الإرادة الشعبية وطموحات الناس، من جهة أخرى.
2- أدت سيطرة نموذج الدولة القومية – الحديثة، باعتبارها وحدة النظام الدولي وأساس العلاقات بين الشعوب، إلى ولادة مفهوم الدولة الفاشلة. فالمفترض أن كل دولة تعجز عن امتلاك السمات الأساسية للدولة القومية - الحديثة هي بالنتيجة دولة فاشلة. والمؤكد، أن عدد الدول الحديثة التي فشلت بالفعل خلال الحقبة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أو تلك التي تعاني صعوبات هيكلية، هو عدد كبير بالتأكيد. ثمة دول شهدت موجات متكررة من الحروب الأهلية، على خلفية من أسباب عرقية – إثنية أو دينية أو سياسية، مثل لبنان وباكستان الكبرى وسريلانكا، ويوغسلافيا وجورجيا، ونيجيريا والكونغو ودول البحيرات العظمى وليبيريا وأثيوبيا والصومال، التي تعتبر الآن الشاهد الأبرز على فشل الدولة وانفراط عقدها. وهناك دول عانت أو تعاني من فترات متفاوتة من العنف الداخلي، مثل العراق والجزائر وافغانستان والسودان وباكستان واليمن. إضافة إلى دول تمر الآن بمرحلة من القلق، مثل بلجيكا وحتى بريطانيا.
3- إن أغلب الأنظمة العربية هي أنظمة تسلطية، تحكم من خلال سيطرة الحزب الواحد، بدون أي وجود حزبي، أو من خلال تعددية حزبية مظهرية. خلال العقود القليلة الماضية، لم تعد أي من الدول العربية تحرص على وجود محتوى أيديولوجي أو شبه أيديولوجي لنظام الحكم. هذه أنظمة حكم تسلطية سافرة. ثمة دول عربية تستمد استقرار سيطرتها التسلطية من شبكة علاقات قوى داخلية، وأخرى من النظام العالمي الذي ترتبط به، وثالثة من كليهما معاً. إن لم تحدث قطيعة كاملة وحاسمة مع نظام الحكم التسلطي، فسيصعب التخلص من الاستبداد، وسيقوم هذا النظام بإعادة توليد نفسه، على نحو أو آخر.
4- يتعلق أحد الشروط الضروية لمواجهة الاستبداد بتقليص حجم الدولة، لاسيما حجم الأجهزة الأمنية والبيروقراطية الإدارية لمؤسسات الحكم المختلفة، التي تضخمت على حساب أجهزة الدولة الأخرى، ونظراً لإخفاق الدولة في القيام بمسؤولياتها الضرورية في مجالات الاقتصاد والتنمية ومكافحة الفقر والصحة والتعليم.
5- ويتعلق الشرط الثاني لمواجهة الاستبداد في تعزيز قوة المجتمع ومقدراته. لقد أضعفت حركة التحديث القدرة التفاوضية للمجتمع في تعامله مع مؤسسة الدولة الحديثة، ولإعادة بناء هذه القدرة التفاوضية لابد من دعم مؤسسات العمل المدني وتجنب إغراءات القضاء على ما تبقى من المؤسسات التقليدية، بحجة رجعيتها وعدم ملائمتها مع الاجتماع السياسي الحديث. إن أغلب المؤسسات التقليدية تستديب بطبيعتها للخطاب الإسلامي وتتماهى معه.
6- لقد ولدت فكرة تطبيق الشريعة، أو العودة إلى حكم الشريعة، في حمى التدافع السياسي الذي شهده المركز العثماني في ستينات القرن التاسع عشر. كان خطاب الشريعة، بالرغم من الغموض الذي أحاط به، الإطار الرئيس لحركة المعارضة التي قادها عدد من إداريي الدولة، الذي سيعرف بعد ذلك باسم "العثمانيين الجدد،" ضد رفاقهم من الحكام التحديثيين. رأى العثمانيون الجدد كيف أن حركة التحديث عززت قبضة الدولة وولدت استبداداً لم يعرفه الميراث العثماني، ورفعوا بالتالي شعار الشريعة لمواجهة استبداد الدولة الحديثة. ولكن لا العثمانيين الجدد في القرن التاسع عشر، ولا أبناء الحركة الإسلامية في القرن العشرين، نظر إلى عواقب تجسيد مفهوم الشريعة الغامض في إطار من لوائح القوانين المركزية الحديثة، وتسليح مؤسسة الدولة الحديثة بهذه اللوائح. وربما تعتبر هذه المسألة واحدة من أصعب التحديات التي تواجه القوى السياسية الإسلامية اليوم، نظراً للتناقض الأصيل بين بنية الدولة الحديثة والتصور المؤسس لهذه القوى. وليس ثمة شك في أن تسلم بعض القوى الإسلامية لمقاليد الحكم يغري، على المدى القصير أو البعيد، بمحاولة أسلمة الدولة، أو تسليح الدولة بأداة الإسلام والشريعة. مثل هذا التوجه لن يؤدي إلا إلى تعزيز قوة الدولة وسيطرتها، وإلى توليد نموذج جديد للاستبداد، يرتكز إلى الشرعية الدينية.
7- هذا لا يعني بالضرورة أن موقف الإسلاميين في الحكم لابد أن يكون موقف اللامبالاة من مؤسسة الدولة الحديثة التي يتولون أمرها. ما ينبغي القيام به، أولاً، هو تحييد الدور الإيديولوجي لمؤسسة الدولة. وبتحييد الدولة، وتحرير المجتمع من سيطرتها الإيديولوجية، يمكن للقوى الاجتماعية الإسلامية أن تعمل على بناء مجتمع القيم (moral society)، الذي هو الهدف الإسلامي الأكبر للحياة. وينبغي، ثانياً، أن تتجنب القوى الإسلامية في مرحلة الحكم إغراءات النهج الليبرالي – الجديد للدولة. للدولة، بما في ذلك الدولة الحديثة، مسؤوليات أخلاقية واجتماعية، ويجب على الدولة، سيما في البلاد العربية والإسلامية، مسؤولية حماية المجتمع من تغول رأس المال. وينبغي، ثالثاً، أن يحافظ الإسلاميون على حس نقدي تجاه الدولة، وأن يساهم المثقفون الإسلاميون في الجدل الدائر في أنحاء العالم حول الدولة الحديثة ومستقبلها.
8- إن التصاعد غير المسبوق للصراع على الدولة ينبع من طبيعة الدولة الحديثة المركزي والتحكمي والشعور بالعجز عن تحقيق البرامج بدون السيطرة على مقاليد هذه الدولة. فإن أمكن تحييد دور الدولة الإيديولوجي وتعزيز قوى المجتمع، ستتقلص على المدى البعيد السيطرة التحكمية لمؤسسة الدولة وتتوفر مجالات جديدة للتأثير في المجتمع.
9- إن تعزيز توجهات الوحدة، سواء الوحدات الإقليمية أو العربية الواسعة، هو المخرج الأكثر فعالية من أزمة الدولة الحديثة في نسختها العربية: نزوعها الطبيعي للسيطرة والتحكم، وعجزها عن الاستجابة لمطالب التنمية والرفاه، وضعفها أمام التحديات الخارجية.
10- إن على القوى الإسلامية السياسية أن تعترف أنه إلى جانب سيطرة نظام الدولة الحديثة، فإن المجتمعات العربية – الإسلامية شهدت قدراً ملموساً من العملنة، ليس بالمعنى القانوني والثقافي فحسب، ولكن أيضاً، وبصورة أكثر عمقاً، بالمعنى الاجتماعي. لم تعد طبقة العلماء هي التي تقود المجتمع وتضع قيمه وتصوغ خطابه، بل فئات اجتماعية حديثة، تلقت تعليماً وتدريباً حديثاً؛ وحتى تلك التي تعتبر نفسها إسلامية التوجه، تميل إلى قراءة الإسلام من خلال تصور حديث للعالم. ولكن هذه العلمنة لم تصل مطلقاً إلى مداها، ولم تستطع طمس ولاء الأغلبية لدينها. هذه علمنة وإن تشابهت مع نظيرتها الأوروبية، فإنها تختلف عنها من جهة نتائجها؛ ولابد أن يتطور خطاب إسلامي سياسي يأخذ هذا التطور غير المسبوق في التاريخ الإسلامي في الاعتبار.
11- كان انهيار الإجماع واحداً من أبرز مترتبات عملية التحديث والعلمنة وسيطرة الدولة الحديثة، سيما في ما يتعلق بمسألة الهوية والتوجهات الاستراتيجية والرئيسة للدولة والمجتمع. ولأن الأغلبية لم تزل على ولائها الإسلامي، فإن القوى الإسلامية هي أكثر القوى السياسية تأهيلاً لإعادة بناء الإجماع في المجتمعات العربية – الإسلامية. وليس هناك من إمكانية لتأسيس استقرار وإطلاق نهضة، أو حتى إطلاق حوار حول دور الدين في المجال العام، بدون توفر قاعدة إجماعية. وربما تكون هذه أكثر المهمات حيوية وضرورة للقوى الإسلامية الحاكمة.
12- ويتصل بظاهرة العلمنة المحدودة وانهيار الإجماع مسألة بروز الهويات الفرعية، لاسيما في البلدان ذات التنوع الديني والطائفي والإثني. وفي حين من الخطر إنكار وجود هذه الهويات، سيكون على القوى السياسية الإسلامية أن تكرس جهداً هائلاً للتعامل معها والحفاظ على وحدة البلاد في آن واحد.
13- في النهاية، ربما، لابد من التذكر بأن تصور أهل السنة للدين، يختلف إلى حد كبير عن نظرائهم المسلمين الشيعة، وعن المسيحيين أو أصحاب الديانات الشرقية. في تصور أهل السنة، تعتبر الجماعة/ الأمة مستودع الحق ومصدره، وليس الإمامة أو الكنيسة أو الطبقة المكرسة من رجال الدين، كما هو الوضع في التشيع أو الكاثوليكية أو البوذية والبراهمية. ما تراه الجماعة/ الأمة حقاً فهو حق؛ وهم أهل السنة لأنهم على نهج النبي، وهم ورثته.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق