الأحد، 17 أغسطس 2014

العنف المقدس وحتمية الدم في التغييرات التاريخية


مستوى العنف المصاحب للربيع العربي والثورة السورية والحركات الجهادية، خاصة الدولة الإسلامية في العراق والشام، أثار جدلاً كبيراً معظمه في اتجاه النقد والوصف بالدموية والقسوة. والعنف إذا لم يكن مبررا شرعا ولا أخلاقا، فهو مرفوض ولا يجوز إقراره ولا تأييده، لكن هناك فرق كبير بين الموقف الشرعي والأخلاقي، وبين الإقرار بحتمية تاريخية لقضية ما.
ربما يمكن تحقيق تغيير اجتماعي أو سياسي محدود دون دماء، لكن التاريخ يؤكد لنا أنه لا يمكن نجاح أي تغيير شامل دون سفك كمية هائلة من الدماء، سواء كان مبررا أو غير مبرر(١). وفي أغلب الأحيان يصحب ذلك العنف مستوى عال من القسوة والرعب والإرهاب. والعجيب أن هذه التحولات القائمة على الدم والقسوة، دائما ينظر لها تاريخيا من قبل الأجيال التالية بتعظيم وتقديس وأسطورية. الأعجب من ذلك أن تنسب مكاسب الحرية والعدل والديموقراطية التي تنعم بها كثير من بلدان العالم لهذه الأحداث العظام.

الثورة الفرنسية
دماء وفوضى جلبت الديموقراطية
لم تكن الثورة الفرنسية التي ينسب لها الفضل في الديموقراطية التي تشمل أوربا والعالم، مسيرات سلمية بريئة ولا نشاطا مدنيا هادئا، بل كانت عاصفة دموية صاخبة مليئة بالفوضى والتناقضات. أُعدم في المرحلة الأولى من الثورة الفرنسية ما لا يقل عن ٤٢ ألف شخص بينهم ١٧ ألف أعدموا بالمقصلة في باريس لوحدها. وكان من بين أكبر ضحايا المقصلة، نفس رموز الثورة، وفي مقدمتهم الرجل الأول في الثورة ماكسمليان روبسبير، وإعلامي الثورة والصحفي الأول جان بول مارات. هذه الأرقام لا تشمل الحروب التي حصلت بعد ذلك داخل فرنسا، إلى أن استلم نابليون المسئولية ثم الدماء التي تسبب بها نابليون.
ينظر الفرنسيون للثورة الفرنسية بكل فخر واعتزاز ويضعونها في مقام النبوة، بل يفتخرون فيها على كل العالم، وحق لهم ذلك فقد كانت الثورة ملهمة للتخلص من الاستبداد في معظم أوربا (الربيع الأوربي(٢)). الفرنسيون لا يجهلون كمية الدماء التي سفكت، والفوضى التي عصفت ببلادهم خلال الثورة الفرنسية، لكن هناك اتفاق تلقائي على تجاوزها، كدليل على الاعتراف بحتميتها التاريخية.

اوليفر كرومويل
المسلك الوهابي في بريطانيا
يتحدث الناس عن بريطانيا بصفتها أعرق ديموقراطيات العالم، ويصفونها بأنها أصدق في الحرية والعدل والمساواة من الديموقراطية الفرنسية والأمريكية. لكن الغالبية العظمى من الناس لا يعلمون أن كل هذه الديموقراطية مدينة بالفضل لأوليفر كرومويل(٣) الذي يكاد يكون نسخة بروتستانتية من تنظيم الدولة أو محمد بن عبد الوهاب.
ثار كرومويل على الملك تشارلز الأول حين رفض التنازل عن بعض السلطات للبرلمان، ودخل معه في حرب أهلية استغرقت أربع سنوات وتسببت في قتل ١٦٠,٠٠٠ شخص، سوى من مات بالمرض والمجاعة. ورغم ضغطه على الملك للتنازل عن سلطاته، فقد كان كرومويل بروتستانتيا متشددا، يحكم بتدمير التماثيل والصور ويُلزم المجتمع بالمظاهر الدينية، ويضيّق على الطوائف الأخرى ويسيّر حملات "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(٤).  
لا يشكك أي بريطاني في أنه لولا ثورة كرومويل لما آلت الديموقراطية البريطانية إلى ما هي عليه الآن، بل إن الشعب البريطاني يتفق على تعظيمه لدرجة أن تمثاله أهم تمثال أمام البرلمان البريطاني. هذا التعظيم والاحترام لدور كرومويل في التوطئة للديموقراطية، يحصل دون اعتراض على هذا السفك الهائل للدماء والتشدد "الوهابي" وإلزام المجتمع بالقيم الدينية. (٥)

يوليوس قيصر
ثار على الديموقراطية فأصبح عظيما
يقرأ الناس سيرة يوليوس قيصر قراءة روائية لا يدركون فيها البعد التاريخي السنني، ويكتفون بالمسرحيات والطرح الأدبي السطحي. يتفق المؤرخون أن يوليوس قيصر أهم شخصية في التاريخ الروماني، وهو الذي حول روما من إمارة صغيرة إلى امبراطورية، وهيأها لأن تبقى بعد ذلك عدة قرون بنفوذ وامتداد عالمي قل أن شابهه نفوذ في التاريخ. من المفارقات أن يوليوس قيصر صاحب هذا الفضل على الرومان، قضى على ديموقراطية روما (النخبوية) (٦)وحكم بشخصية المستبد، وتمكن بدهائه وقدراته القيادية من مضاعفة نفوذ روما عشرة أضعاف. حتى أن روما لم تتمكن من مواجهة الغال إلا بمهارته العسكرية وسلطتة النافذة.
ولم يستطع قيصر السيطرة المطلقة إلا بعد أن دخل في حرب مدنية مع مجلس الشيوخ (رمز الديموقراطية) التي تحالفت مع بومبي، وتسبب في كمية هائلة من الدماء أدت لسيطرته المطلقة على السلطة. بعد أن تخلص من خصومه، طبق نظرته للحكم التي كان فيها درجة عالية من الإصلاح الإداري. ويلخص مسيرة يوليوس قيصر قولته العظيمة "إذا كان ولا بد من خرق القانون فمن أجل السيطرة على الحكم فقط، وإلا فعليك الالتزام به".
  
بسمارك
بطل أسطوري بقوة الدم والخديعة والحيلة
لا يختلف اثنان من الألمان على أن بسمارك هو أب ألمانيا ومؤسسها، وإن توحيده للإمارات والممالك الألمانية عمل تاريخي عظيم، يجعله الشخص الأول في أي كتاب تاريخي عن ألمانيا. ولم تكن مسيرة بسمارك في توحيد ألمانيا سلمية ولا بالإقناع، بل كانت مسيرة طويلة حافلة بالحروب والدماء من سنة ١٨٤٨ إلى سنة ١٨٧١، حين تأسست الامبراطورية الألمانية وأصبح أول مستشار لها.
ورغم أن بسمارك ظهر بعد الربيع الأوربي وبعد وعي الناس بقيم الديموقراطية، إلا أن الزخم العام في الوجدان الألماني في حينها كان لديه الاستعداد بالتفريط ببعض قيم الديموقراطية في سبيل الوحدة والقوة للقومية الألمانية. وكانت أول خطوة دراماتيكية لبسمارك تجاهل البرلمان المحلي الذي عطل ميزانية الجيش، وصرف للجيش الميزانية رغم أنف البرلمان.(٧)
ولم تكن القوة سلاح بسمارك الوحيد، بل كان ماهرا بالحيلة والخديعة والإيقاع بين خصومه، حتى لو كان الإيقاع بينهم يتسبب في المزيد من الدماء والأشلاء، ما دامت النهاية تضخيماً لحجم الكيان الألماني. وبهذا الإنجاز صار بسمارك بطلا قوميا مقدسا عند الألمان، واعتبرت الحروب والدماء التي صاحبت إنجازه، ضرورة لا يمكن التغاضي عنها.

الثورة الأمريكية والحرب الأهلية
دماء لم يغضب منها أحد
لا يمكن أن يتكلم أمريكي عن جورج واشنطن وتوماس جيفرسون وغيرهم ممن يسمون الآباء المؤسسين، إلا بالتعظيم والتبجيل والإكبار، رغم ما تسببوا به من سفك هائل للدماء زاد عن ٢٥,٠٠٠ قتيل، صاحبه سنوات من تعطيل مصالح الناس والرعب تحت ظلال البندقية. هذه الدماء أنتجت أمريكا لكن القصة لم تكتمل إلا بعد الحرب الأهلية التي استهلكت ٦٢٥,٠٠٠ قتيل تقريبا (٨). وضوح الدستور وكثرة العقلاء لم تمنع خلافا حول قضية العبودية، يتسبب في سفك كل هذه الدماء. والأمريكان ليسوا آسفين على هذه الدماء، ويفتخرون بسفكها، بل إنهم ينسبون لها الفضل فيما هم فيه الآن من نظام حكم ديموقراطي، ودولة قوية تكاد تحكم العالم كله.

اتيلا الهوني 
قمة العنفوان المَجَري 
لا يمكن أن تقرأ في تاريخ المجر أو تمر بلادهم أو تتعرف على شخص مجري، إلا وتجبر مرغماً على استماع إسم القائد المجري العظيم اتيلا الهوني. لم يكن اتيلا الهوني مفكرا ولا مصلحا بل كان أميا عديم الثقافة، لكنه كان قائدا موهوبا تمكن من تأسيس امبراطورية في وقت قصير، هددت روما وحاصرت القسطنطينية، ودفعت كلتا الامبراطوريتين الجزية له. 
يوصف أتيلا بأنه كان جباراً متغطرساً، يتحكم في شعبه باستخدام خرافاته لتقديس ذاته العليا، وكان يمهد لانتصاراته بما يذيعه من القصص عن قسوته وبطشه بأعدائه، حتى لقد سماه أعداؤه المسيحيون "بسوط الله" كناية عن غضب الله على المسيحيين بسبب كثرة معاصيهم. وكان القتل الجماعي وحرق قرى ومدن كاملة، ممارسة عادية في حروبه، بل كانت سببا في انتصاره بسبب رعب خصومه من هذه النتائج، واستعدادهم للتسليم ودفع الجزية خوفا من القتل الجماعي. ورغم أن المجر مشهورة بالفن والموسيقى والأدب والفلسفة، فلا يمكن أن يتفوق افتخار أي مجري بفنان أو فيلسوف أو موسيقار أو أديب على افتخاره باتيلا الهوني.

إيفان الرهيب 
أعظم آباء روسيا قاس لحد الجنون 
كان إيفان الرابع أميرا لموسكو، ثم تمكن بشخصيته القيادية من إنشاء الامبراطورية الروسية، ووصف نفسه بالقيصر تأسيا بالرومان. وبهذا التأسيس يعتبر إيفان الرهيب هو المؤسس الحقيقي لروسيا، ولا يرى الروس أعظم منه في تاريخهم. فمنذ الخطوة الأولى في تحركه السياسي، كان دمويا حين انتقم من طبقة البويار (النبلاء) الذي كانوا أوصياء على العرش، وسحقهم بلا رحمة فتفرد بالحكم بشكل مطلق. ومنذ ذلك الحين، أصبح حاكما فردا مستبدا، يستمتع بالقتل والتعذيب والقسوة.
 من وسائله في التعذيب اغتصاب النساء أمام أزواجهن، وكان يتعمد اختيار النساء الأرستقراطيات لمتعة جنوده، حتى يهين أكبر العوائل ولا يبقى له منافس. ومن الطرق التي يستخدمها مع خصومه، تهشيم الأرجل ثم إلقاء الضحية في الثلج وتركه حتى الموت. ومن وسائل التعذيب الشوي بنار هادئة، أو ربط الضحية بحصانين ثم ركض الحصانين باتجاهين مختلفين. كل هذه القسوة والعنف يتجاوز عنها الروس وينظرون لإيفان بصفته أعظم الأبطال، لأنه هو الذي صنع روسيا وجعلها تمتد من بحر قزوين إلى البحر الأسود إلى بحر البلطيق إلى مساحات شاسعة من سيبيريا. 

فلاد المخوزق 
بطل بلغاريا القومي 
مر على بلغاريا شخصيات كثيرة هامة في التاريخ، لكن البلغار لا يحتفون بأحد بقدر ما يحتفون بفلاد الثالث "دراكولا" وذلك لما قدم لبلغاريا من فضل في جمع الأقليات البلغارية المبعثرة في دولة واحدة بجدارة. وبلغ من شدة بطش فلاد الثالث وقسوته أن نسج حولها الروائي الإنجليزي برام ستوكر شخصية كونت "دراكولا"، مصاص الدماء الأشهر، في روايته الصادرة عام ١٨٧٩ تحت عنوان "دراكولا" والتي مثلت بعد ذلك في أفلام كثيرة. 
اشتهر فلاد بـ"المخوزق" لأن الخازوق الذي يوضع في الدبر كان من أشهر وسائله في التعذيب والقتل، ويزيد عدد ضحاياه عن ٨٠,٠٠٠، هذا بخلاف القرى والحصون التي أحرقها عن آخرها. وكان يفتك بأعداء الدولة وبالمواطنين المتمردين على حد سواء بكافة أنواع التعذيب. ومما ينقل عنه أنه ينصب جثث القتلى على نفس الخوازيق التي قتلوا فيها. ومن الوسائل الموغلة في الوحشية، أن كان يشوي أطفال خصومه ويأتي بأمهاتهم فيأمرهن بأكل لحوم أطفالهن، ويأتي بالنساء ويقطع أثدائهن فيشويها، ثم يأمر أزواجهن بتناولها، وفي النهاية، يعدمهم جميعًا خزقًا. ومع ذلك لا يزال حتى الآن بطلا أسطوريا عظيما في عين البلغار، والشخصية الأولى في التاريخ البلغاري.

جنكيز خان
إله في عين المغول 
من أعظم الشخصيات سفكا للدماء في التاريخ جنكيز خان، فقد قتل ملايين البشر، وأحرق عشرات القرى والمدن في مسيرته التي وصل فيها جيشه من منغوليا إلى تخوم اوربا. لكن العجيب في تاريخ جنكيزخان أنه قضى من الوقت في توحيد قومه، أكثر من الوقت في اجتياح الصين وخراسان وفارس وآسيا الوسطى. واضطر جنكيزخان أن يقتل الكثير من قومه من أجل توحيدهم حتى أباد قبائل كاملة، قبل أن يلتف على جدار الصين العظيم ويجتاحها. ورغم كل هذا العنف والدم فإن جنكيزخان عند المغول ليس معظما فحسب، بل هو في مقام الإله.

التحولات الكبرى في التاريخ العربي والإسلامي تشهد بذلك
لم يتمكن محمد علي من تحويل مصر إلى دولة حديثة، إلا بسلسلة من الدماء افتتحها بمذبحة المماليك. وقبله لم يتمكن بيبرس من بناء دولة قوية يهزم بها المغول والصليبيين في وقت واحد، إلا بقسوة في الملك، وتساهل في الدماء، افتتحه بقتل رفيق جهاده قطز. وقبلهم لم يتمكن العباسيون من إزاحة الدولة الأموية إلا بثورة دموية، قتل فيها عشرات الألوف حتى سمي الخليفة الأول بالسفاح. ثم تبع ذلك قمع سلسلة من الثورات بلا رحمة على يد المنصور، إلى أن استقرت الدولة وبقيت قرونا طويلة مهيبة الجانب. 
ومهما حاولت الأمم تحاشي الدماء فمن حتميات التاريخ أن أي تغيير كبير لا بد فيه من دماء، ومن حتمياته كذلك أن عهد الدماء الذي ينتج ذلك التغيير، تقدسه الأجيال التالية حتى لو اشتمل على القسوة. (٩)
-------------------
(١) منعا لسوء الفهم، فإن هذا المقال ليس تبريرا للعنف، بل وصف للحتمية التاريخية من خلال سرد النماذج المعروفة في التاريخ.
(٢) الربيع الأوربي هو سلسلة من الثورات السلمية والمسلحة ضد الممالك الأوربية، بعدما تأثر سكان أوربا بالثورة الفرنسية وتتابعت آثارها على مدى سنوات وعقود. 
(٣) يعزو البعض التغيير الكبير في الحريات للماجنا كارتا (الوثيقة العظمى) التي تفاهم عليها رجال الدين والنبلاء والملك، لكن الحقيقة أن هذه الوثيقة لم تحد من سلطات الملك شيئا يذكر، والفضل الأعظم في الديموقراطية البريطانية يعود لكرومويل. 
(٤) كانت السلطة في أيام كرومويل تسيّر دوريات تفتيش في الشوارع والأسواق، بل وحتى داخل البيوت، ويصل التفتيش إلى حد البحث عن اللحم في أيام الصيام الأربعيني في البيوت، واعتقال ومعاقبة من يوجد عنده اللحم.
(٥) لا تزال آثار تدمير كرومويل للتماثيل والصور والرسومات على زجاج الكنائس، ماثلة في كثير من الكنائس الكبرى في بريطانيا، وعلى رأسها كاتدرائية كانتربري البروتستانتية، التي توازي الفاتيكان عند الكاثوليك.
(٦) كانت روما قبل يوليوس قيصر تحكم لعدة قرون بطريقة شبيهة بأثينا، وذلك بمجلس نبلاء يمثل مشاركة سياسية نخبوية لا تصل لمستوى المواطن العادي، لكن لا تسمح لشخص واحد بالاستبداد بالسلطة.
(٧) تعمد بسمارك تجاهل البرلمان الذي رفض إجازة ميزانية الجيش، ومضى قُدما بالقوة في صرف الميزانية، ليس رغبة في توفير المال للجيش، بل حرصا على كسر هيبة البرلمان بسبب رغبة الشعب في تقوية الجيش.
(٨) لم تكن الثورة الأمريكية معركة واحدة، بل كانت مسيرة لعدة سنوات ومعارك كثيرة في الحرب مع التاج البريطاني، وهكذا الحرب الأهلية امتدت لعدة سنوات كذلك.
(٩) لا شك أن الرسالة المحمدية ترسخت بسلسلة من الحروب، حتى إن بعض المؤرخين قدّر المدة التي قضاها النبي صلى عليه وسلم سائرا في غزواته أطول من المدة التي بقي فيها في المدينة. وحين تولى أبوبكر رضي الله عنه الخلافة لم يتردد في أن يرسل عدة جيوش لمحاربة المرتدين، إلى أن استتب الأمر في كل الجزيرة العربية.

مقالة سبق نشرها في صحيفة التقرير على الرابط.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق