الانتكاسات التي أعقبت النشوة الأولى المصاحبة لبداية ثورات الربيع العربي، كانت متتابعة وكبيرة في كل بلد حل فيه الربيع، فمن انقلاب مصر إلى مجازر سوريا إلى فوضى ليبيا إلى الغموض المطبق في تونس واليمن. ظن الكثيرون أن تلك النشوة لم تكن في محلها، وأن هذه الثورات لا تعدو أن تكون تحركاتٍ عاطفية غير محسوبة، وأن الدمار الذي خلفته هذه الثورات سيقنع الشعوب الثائرة بالحنين للماضي بعُجره وبُجره. وبناءً على هذه الرؤية فإن مصير الثورات إلى انحسار، وأن الشعوب ستقبل بأي نظام يوفر الاستقرار وشيء من الأمن وسريان الحياة العادية بعد أن ذاقت ويلات الثورات.
وهذا الموقف وأمثاله يناسب هوى الأنظمة التي تخشى انتقال العدوى إليها، لذا فهو مخدوم بشكل غير عادي في وسائل الإعلام ومنصات الثقافة، التي لا تزال مملوكة ومحكومة من قبل الأنظمة. وزبدة هذا الرأي المطروح أن هذه الثورات ليست إلا انتفاضات مؤقتة وسوف تنتهي بسبب ما جلبته من فشل وفوضى. والترويج المدعوم لهذه الموقف يتسبب في إضعاف الفرصة أمام الرأي الآخر، الذي يقول إن الربيع العربي ليس انتفاضات عابرة، بل هو نهضة حضارية ومسيرة تاريخية شاملة تتعثر لكنها ستفوز في الأخير.
ولو تجردنا من تدخل إعلام الأنظمة ومنصاتها الفكرية، وتجردنا كذلك من التفكير الرغبوي بكلا الاتجاهين فما هو الرأي الصحيح؟ هل الربيع العربي نهضة حضارية أم هو انتفاضة مؤقتة؟ الإجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تحصل بالمزايدات العاطفية والسياسية والاختزالات الفكرية، ولا بالنظرة السطحية قصيرة المدى، بل لا بد من فهم القضية بمنهجية ونظرة شاملة، ودراسة الأحداث بتفاصيلها وسياقاتها، وتأملها باستحضار التاريخ والسنن الاجتماعية. وربما يكون أفضل السبل للوصول إلى الجواب، هو في المقارنة بين النهضة الحضارية التي تحدث تغييرا تاريخياً شاملاً، والانتفاضة المؤقتة التي تُقمع بسهولة، أو تتلاشى مع تحصيل مطالبها، ثم تنزيل هذه المقارنة على أحداث الربيع العربي.
وقبل أن نبدأ المقارنة والإجابة على هذا السؤال، نؤكد أن هذه لفتات في عصف ذهني سريع وليست بحثاً متكاملاً، فالبحث لا يسعه مقال قصير في صحيفة. وما سيقرأ هنا من فروق قد يوجد غيرها، وقد تكون مستوفيةً للمطلوب، فالمقصد هو تسليط الضوء على أوجه المفارقة بين النهضة والانتفاضة كما يلي :
أولا: النهضة الحضارية مسيرة تاريخية متواصلة على مدى سنوات أو عقود، بزخم بشري يجرف ما أمامه حتى لو تعرقل قليلا أو كثيرا. وغالب التغييرات التاريخية الكبرى، تعرضت لعراقيل هائلة لكن زخمها العام كان في اتجاه التغيير الشامل. أما الانتفاضة المؤقتة فغضب عارض توفرت ظروف لترجمته على شكل تحرك محدود، بدوافع عاطفية قابلة للامتصاص والاحتواء، يزول أثرها بالكامل خلال فترة قصيرة. وصمود مسيرة الربيع العربي كل هذه السنين، وإصرار أهله رغم الصعوبات الهائلة ورغم التعاون العالمي لإيقافه، دليل على أنه مسيرة متواصلة وليس غضبا عارضا قابلا للامتصاص والاحتواء.
ثانيا: تتصف النهضة الحضارية بسعة الانتشار شعبياً، ولا تقتصر على مكان أو فئة. ربما يكون انطلاقها محدداً بمكان معين وظرف معين لكن يتبين أن ذلك ليس إلا شرارة تبعث التحرك في كافة الأماكن التي تمثل أمة معينة. أما الانتفاضة المؤقتة فدائماً تكون في مكان واحد أو أماكن قليلة، أو لفئة محددة مثل العمال والفلاحين، وتكون مرتبطة بالكامل بظرف انطلاقها وتموت معه في مكانها. وبما أن الربيع العربي حقق انتشارا تجاوز المدينة الواحدة إلى كامل الدولة، ثم تجاوز الحدود القُطرية، وواصل المسيرة فنحن قطعا أمام نهضة حضارية وليس أمام انتفاضة مؤقتة.
ثالثا: النهضة الحضارية مطلبها تغيير شامل، بإزالة آثار الماضي واستبدالها بأسس جديدة للحياة الاجتماعية والسياسية، وعلاقة الشعب مع بعضه وحكامه. وحتى لو كان انطلاق التحرك لأجل موضوع محدود، فسرعان ما يتحول -بسبب جاهزية الناس- إلى مشروع شامل بإصرار على تغيير كلي حتى لو بعد حين. الانتفاضة المؤقتة في المقابل غضب محدود من أجل قضية واحدة، أو قضايا مرتبطة ببعضها إما أن تُشبع فينتهي الغضب، أو تقمع فينتهي الحراك، ولا يمكن أن تتحول إلى مشروع شامل. ولا مجال للشك بأن مسيرة الربيع العربي مشروع تغيير شامل رغم أنها بدأت بمنطلقات بسيطة، وبذلك فهو نهضة حضارية وليس انتفاضة مؤقتة.
رابعاً: النهضة الحضارية وقودها إدراك واستشعار وتشرب قيم كبرى، مثل الكرامة والحرية والعدالة والهوية والانتماء والمسؤولية الجماعية. وليس متوقعا ممن يشارك في هذا الزخم أن يفلسف هذه المعاني بنفسه وبكلماته، لكنها ستبقى هي دافعه الحقيقي وفي ضميره، وإن لم يستطع التعبير عنها. وحتى لو كانت الدوافع بطالة أو حرمان أو فقر، فإن الثائر لم يغضب لأنه حرم منها كفرد، بل يغضب لأنها حق له ولبقية الشعب، وعلى النظام أن يوفرها لهم، باستحضار هذا الثائر وتشربه قيمة المسؤولية. أما الانتفاضة المؤقتة فدوافعها شخصية، ولو كانت على شكل غضب جماعي، فهي محدودة بمطالبات شخصية مرتبطة بغضبهم، ولا يمكن أن تتطور إلى القيم الكبرى كالحرية والعدالة والكرامة وغيرها. والراصد للربيع العربي، لا يخالجه شك أن وقوده هذه القيم الكبرى، ولم يطرح أي مطلب شخصي أو محدود، مما يجعلها في مصاف النهضات الحضارية بكل تأكيد.
هذه الفروقات ستقودنا إلى سؤال جديد، وهو إن كانت هذه نهضات حضارية فلماذا تتحرك بكل هذا البطء؟ ولماذا تتعرض لكل هذه الصعوبات؟. الإجابة أن هناك حتميات "سنن" في التاريخ لا يمكن تفاديها مطلقاً، ولا بد أن تواجهها الشعوب بكل آلامها وصعوباتها. ففي بداية فصل الربيع قد تأتي موجة برد تشعر المرء أن الشتاء لم ينصرم بعد "بياع الخبل عباته" لكن الحقيقة أن الفصل ربيع حقيقي، ولو مر فيه بضعة أيام تحسر فيها المرء على بيع عباته.
الحتمية الأولى هي الحاجة للوقت الذي يستغرق سنيناً وعقوداً، حتى تستكمل الثورة مسيرتها في نهضة حضارية. (ثورة كرومويل) في بريطانيا احتاجت أربع سنوات لحسم الأمر مع الملك، ثم احتاجت عشرين سنة لاستثمار هذا النصر. الثورة الفرنسية استغرقت عدة سنوات حتى وقفت على قدميها، ثم لم تنضج بشكل كامل إلا بعد عقود. وهذا هو حال الثورة الأمريكية والبلشفية، بل وحتى العباسية على الأمويين.
الحتمية الثانية الفوضى المصاحبة لهذه النهضات، والتي تتفاوت من غياب السلطة المركزية إلى حروب أهلية يطول مداها. فكرومويل في بريطانيا لم يتمكن من حسم الثورة إلا بعد سلسلة معارك طويلة، ذهب ضحيتها مئات الألوف من القتلى، وهكذا الثورة الأمريكية والبلشفية. أما الثورة الفرنسية فعانت من فوضى في السلطة، حتى تنبأ روبسبير (الشخصية الأهم في الثورة الفرنسية) بأن الشعب الفرنسي سيتمنى قائداً عسكرياً مستبدا يخلصه من هذه الفوضى، وصدقت نبوءته عندما احتفى الفرنسيون بنابليون.
الحتمية الثالثة تآمر القوى التي تخشى من نزعة الحرية ضد هذه الثورات، بجهد هائل وتضحيات عسكرية ومالية كبيرة، لأن في ذلك حماية لكيانها. وما يجري حالياً مع الربيع العربي، له سابقةٌ تكاد تكون نسخة منه، وهي تآمر ممالك أوروبا ضد الثورة الفرنسية، وتدخلها استخباراتياً ومالياً وعسكرياً من أجل إعادة الملكية. ورغم الانتصار العسكري الظاهري لهذه الممالك، إلا أن النتيجة النهائية تحول كل أوروبا الملكية للديموقراطية وليس العكس.
الحتمية الرابعة وهي فزع قوى لا تخشى من عدوى الحرية، لكن تخشى من آثار نهضة الأمة المتحررة. النموذج الأوضح للتمثيل، هو ما قامت به بريطانيا من محاربة للثورة الفرنسية، رغم أنها سبقت فرنسا إلى الحريات والحقوق. والسبب إدراك البريطانيين أن فرنسا ستكون أقدر على منافستها حين تتمتع بالحريات والحقوق، من قدرتها على المنافسة وهي في ظل ملكية مستبدة. حالياً تحرك الغرب الليبرالي الديموقراطي ومعه إسرائيل ضد ثورات الربيع العربي، كله من قبيل هذه الحتمية، فالغرب يخشى من آثار النهضة والتي يدرك الغرب ويعلم أنها ستُخرج العرب من فلكه بالكامل، وستجعل من مصير إسرائيل محتوم الزوال.
الحتمية الخامسة صعوبة بناء تشكيلة قيادية ناضجة بعد الثورة مباشرةً، وظهور نماذج مختلفة من العجز الإداري والتنظيمي في السلطة تضاعف مشكلة الفوضى. والسبب في ذلك أن هذه الشعوب عاشت تحت أنظمة شمولية تخنق الفضاء العام وتتسلط على الفضاء الخاص، وتمنع بالقوة ظهور بيئة خصبة لإنتاج القيادات المبدعة. وطول هذه المدة كفيل بتعويد المجتمع على الاتكال في كل شؤونه على السلطة الشمولية، فلا فرق عنده بين إزالة حفرة في شارع فرعي، وبين أزمة في العلاقات الدولية، كل القضيتين يقف فيها المجتمع والمواطن الفرد، موقف المتفرج ينتظر أن تبادر السلطة لحلهما. وفي حال الثورة والخروج من هذا الوضع الخانق، يصبح الثوار كمجموعةٍ تريد قيادة طائرة وصيانتها، وليس بينهم طيار ولا مساعد طيار ولا مهندس طيران ولا حتى فني صيانة.
هذه الصعوبات التي يتعرض لها الربيع العربي، دليل آخر على أنه يحمل ملامح النهضة الحضارية، التي سيكون مآلها نصر هذه الشعوب المستضعفة، وتمكين قوى الخير والحق لأن تتولى زمام الأمور. كما أنه دليل على أن المسيرة طويلة والصعوبات التي ستلاقيها الشعوب لن تنتهي عند انقلاب هنا، أو مجزرة هناك. بل هناك مشاكل وأمراض أكبر وأعمق لم تظهر على السطح بعد. وإذا استحضرنا مبدأ (المؤرخ توينبي) في التحدي والاستجابة، فإن هذه التحديات ستزيد الربيع العربي صفاءً وقوةً ومتانةً، والاستجابة لها سوف تنقل هذه الشعوب المستضعفة، إلى مرحلة تفوق حضاري وقيادة بشرية بانت ملامحها بحمد الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق