الأحد، 15 يونيو 2014

من يحصد أرباح الحرب على الإرهاب



يزعم البعض أن المواجهة بين أمريكا والحركات الجهادية لها دور قوي  في انبعاث الربيع العربي، باعتبارها دفعت العرب بالقوة لتذكر هويتهم الإسلامية العميقة. وهو زعم على فرض صحته يصعب إثباته إلا على أساس انثروبولوجي منضبط منهجياً وخاضع لمراجعة علمية نقدية. لكن يمكن رصد الأثر غير المباشر لهذه المواجهة، ليس على انبعاث الربيع العربي بل على تطوره ومستقبله، استناداً إلى قصة المواجهة الأمريكية الجهادية وقصة صعود الهوية العربية الإسلامية.

أمريكا تستشرف مواجهة الإرهاب منذ التسعينات
استشرفت المؤسسة العسكرية الأمريكية منذ منتصف التسعينات بشكل رسمي وموثق، وقوع مواجهة مع القوى الإرهابية الإسلامية. جاء ذلك في (تقدير الموقف الاستراتيجي) الصادر عن هيئة التقديرات والتخطيط الاستراتيجي التابعة للبنتاغون التي يشرف عليھا الجنرال "روبرت إيفاني". وسمى التقرير هذه المواجهة بـ"الحرب غير المتوازية" على اعتبار ان الحركات الإرهابية سوف تستخدم اساليب تم التوصل إليها بالتفكير في "غير المتوقع وغير المعقول" ثم تطبيقه على كل مستويات الحرب، بغرض تنفيذ عمليات بطريقة لا تخطر على البال منطقياً ولا تطرح نفسھا عملياً في التقديرات التي نستطيع تصورھا. 

أمريكا تتوقع غير "المتوقع" وتتصور "غير المعقول"
وحاولت المؤسسة العسكرية الأمريكية، مدعومة بالاستخبارات، توقع (غير المتوقع) وتصور (غير المعقول) حتى تستبق أي خطوة من الحركات الإرهابية، أو تحسن التعامل معها بعد حدوثها، وبذلت في ذلك جهدا كبيرا مستعينة بكثير من الحكومات الأوربية والإسلامية. واستطاعت أمريكا بهذا العمل المؤسسي جمع كمية هائلة من المعلومات والتوقعات التي استخدمتها في قتل أو اعتقال الكثير من القيادات الإرهابية، كما نجحت في تدمير عدد من مراكز التدريب والعمليات وربما اجهاض الكثير من العمليات. 

امريكا تكسب تكتيكيا وتخسر استراتيجيا
لكن رغم هذا كله فإن الجهات الرسمية وغير الرسمية تعترف أن النشاط "الإرهابي" في توسع مكاني ونوعي وأن خطره في ازدياد رغم كل الجهد المبذول. وهو ما أكده أحد التقارير الذي  صدر عن خبراء المجلس القومي للبحوث والدراسات الاستراتيجية التابع للاستخبارات المركزية الأمريكية CIA سنة 2005 وشارك في إعداده 1000 خبير خلال 30 مؤتمراً، الذي ذهب إلى توقع انتشار النشاط "الإرهابي" لدول كثيرة وأن عام 2020 ربما يكون عام الخلافة الاسلامية. وإحصاءات النشاط "الإرهابي" تثبت أن الازدياد تصاعدي  منذ أن أعلنت أمريكا حملتها العالمية ضد "الإرهاب" ويؤكد أحد المراكز أن الحرب على الإرهاب نفسها تسببت في زيادة الإرهاب. (1)

وهذا الرسم البياني يبين الصعود الصاروخي للعمليات "الإرهابية منذ انطلاق الحرب على الإرهاب





الخسارة الاستراتيجية لم تقف عند توسع "الإرهاب" بل أصابت أمريكا في ذات سياستها ووضعها الداخلي. ويجمع المفكرون أن أكبر خسارة هي نجاح الجهاديين في إجبار أمريكا على التخلي عن الحريات بزعم تحقيق الأمن، يليها استنزاف أمريكا اقتصاديا حتى تجاوز الدين القومي كامل الدخل القومي وأدخل أمريكا في مصيدة الدين الخطيرة. 

لماذا
إذا كانت المؤسسة العسكرية والاستخباراتية الأمريكية قد استشرفت هذه المواجهة وحاولت توقع غير المتوقع وتصور غير المعقول فلماذا انتهى بها المطاف لنتيجة معاكسة للمطلوب؟ 

الجواب أن أمريكا استهلكت كل جهدها في التعامل مع الجانب التنظيمي والحركي واللوجستي، وغفلت عن الصورة الكلية المرتبطة بأسباب المواجهة وطبيعة الهوية والانتماء للمسلمين. صحيح أن ما يسمى بالحرب على الإرهاب حققت انتصارات تكتيكية كثيرة لكن النتيجية الاستراتيجية كانت خسارة لها ومكسبا ليس للتيارات "الإرهابية" فقط، بل لكل الأطياف الإسلامية التي تتبنى مشاريع حقيقية للتغيير. ومردّ كل ذلك إلى أمرين: سياسة أمريكا تجاه قضايا المسلمين، وطبيعة الهوية الإسلامية والانتماء الإسلامي. 

السبب الأول:
كان تعامل أمريكا مع قضايا المسلمين في الأصل أهم أسباب اندلاع هذه المواجهة، فقضية فلسطين وحصار العراق أقوى وسائل التهييج ضد أمريكا في حينها. ولو كان راسمو استراتيجية الحرب غير المتوازية مدركين لهذا البعد، لجعلوا تعديل سياسة أمريكا تجاه قضايا المسلمين جزءا مهما من إجراءات هذه الحرب. الذي حصل هو العكس فقد تضاعف استفزاز المسلمين في احتلال افغانستان وشن حرب عالمية على "الإرهاب الإسلامي"، ومحاصرة النشاطات الإسلامية الخيرية والمالية في كل مكان. وذهب الاستفزاز الأمريكي للمسلمين شوطا بعيدا باحتلال العراق وفتح جبهة للعنف المسلح أخطر بكثير من أفغانستان. وصاحب ذلك تعاونا وثيقا بين الأمريكان والأنظمة القمعية التي تدير بلاد المسلمين، ضد من يتهم بأنه إرهابي فوصل الاستفزاز إلى الحد الأقصى. 

السبب الثاني: 
في موازاة ذلك لم يفطن راسمو استراتيجية الحرب غير المتوازية لمؤشر صعود الهوية في العالم الإسلامي، والذي بدأ يتنامى منذ مرحلة الصحوة ثم ما تلاه من شعور المسلمين باهمية موقعهم العالمي بعد انتهاء الحرب الباردة. كان صعود الهوية يرافقه غياب أي قيادة سياسية تشبع تطلعات المتحمسين من المسلمين في مواجهة التحديات العالمية، بل كانوا ينظرون لكل القيادات السياسية نظرة الموالية لأمريكا والسائرة في فكلها. ومرة أخرى تقع أمريكا في الفخ، وترفع الصوت عاليا في التعامل مع عمليات القاعدة بحملة إعلامية هائلة، أعطت الرموز الجهادية صفة الند لأمريكا الذي يشبع تطلع هؤلاء المتحمسين. 

والأعجب من ذلك أن الأمريكان لا يتعلمون مع مرور الوقت بل يستمرون في مضاعفة المشكلة، سواء في مزيد من استفزاز مشاعر المسلمين أو في مزيد من الإصرار على اعتبار الجهاديين رأس حربة في مواجهة أمريكا. هذا الاستفزاز لمشاعر المسلمين وذلك الترميز والتلميع للتيارات الجهادية هو السبب في الخسارة الاستراتيجية لأمريكا، مقابل المكاسب التكتيتية الكثيرة على المستوى الفني واللوجستي والتنظيمي. 

كيف تعجز أمريكا عن تفويت هذه الحقائق البسيطة؟
السؤال المهم هنا: كيف لدولة مثل أمريكا ملأى بمراكز الدراسات والرصد واستشراف المستقبل أن تقع في هذا الفخ، ويفوت عليها التصرف السليم بكل هذه السهولة؟ ربما نجد التفسير في أمرين الأول قدرة اللوبيات على جعل أولوياتها مقدمة على أوليات أمريكا الوطنية، والثاني طبيعة العقل الجمعي الأمريكي.

1) خطف النظام الفيدرالي من قبل اللوبيات
يتفق الدارسون للنظام الفيدرالي الأمريكي أنه قابل للخطف بسهولة من قبل اللوبيات الفاعلة، مثل اللوبي الصهيوني واليمين المسيحي ورجال الأعمال والنفط والسلاح الخ. وأقوى لوبي على الإطلاق هو اللوبي الصهيوني وهو بذاته مرتبط باليمين المسيحي ورجال الأعمال والنفط والسلاح. السياسة الخارجية لأمريكا لا يقررها وطنيون أمريكيون بل يقررها ساسة يتحكم بهم قيادات هذه اللوبيات، بل لا يمكن لأي سياسي أن يصل لمركز متميز إلا بإقرار هذه اللوبيات. ومع وضوح هذه النقطة فإنه لا أمل أن تغير أمريكا سياستها تجاه إسرائيل مهما غضب العرب والمسلمون إلا أن يثور الأمريكان ذاتهم على الاستبداد الصهيوني واللوبيات الأخرى. 

2) المشاعر الجمعية الأمريكية
المشكلة الأخرى التي تؤدي إلى نفس النتيجة هي نزعة المشاعر الأمريكية الجمعية إلى ردة فعل فورية غير خاضعة للهدوء وحسن التخطيط والتفكير"عقلية الكاوبوي"، خاصة إذا كانت الهوية الأمريكية هي المستهدفة. هذه النزعة المستعجلة تترجم إلى رأي عام يفرض نفسه على صاحب القرار في أمريكا مهما كان توجهه وتفكيره. ويجمع العارفون بالرأي العام الأمريكي أن أي رئيس أمريكي مهما كان عاقلا وهادئا لن يتصرف بأقل مما قام به جورج بوش وكلينتون ضد الهجمات "الإرهابية". صحيح أن جورج بوش بالغ في التصريحات المستفزة لكن الإجراءات التي اتخذها لن تكون مختلفة عن أي إجراءات يتخذها رئيس آخر. والدليل أن أوباما لم يغير كثيرا من السياسة تجاه الإرهاب بل ربما توسع قليلا في أمور كانت ستعتبر خرقا للدستور في أجيال سابقة "استهداف مواطنين أمريكين بطائرات الدرونز مثلاً". 

أمريكا والإسلام إلى أين؟

ترى هل ستستعيد امريكا رشدها وتعيد النظر في مواجهتها مع الإسلام، وهل سيستيقظ عقلائها ويقولون كفى استغراقا في الاتجاه الخطأ، وآن الأوان لإعادة النظر في كامل رؤيتنا للسياسة الداخلية والخارجية؟ مشكلة أمريكا أن مسارها الحضاري ليس في اتجاه الصعود والقوة بل في اتجاه الانحدار وربما السقوط. هذا الكلام ليس مشاعراً رغبوية، بل تحدث به الكثير من عقلاء أمريكا ذاتها من زوايا متعددة. وأخطر من تحدث عن ذلك ديفيد ووكر، الذي يتبوأ منصبا يسمى كبير مفتشي أمريكا في مقال نشره سنة (2007 (3. يقول ووكر أن أمريكا تعاني من نفس أسباب سقوط روما، وأنه مهما اجتهد العقلاء في منع هذا الانهيار فلن يستطيعوا منعه. وهذه بالمناسبة إحدى السنن التاريخية التي أشار إليها بن خلدون في مقدمته وهي أن الدولة حين تكتمل أسباب سقوطها لن ينجح عقلائها في منع السقوط مهما اجتهدوا في ذلك. كما أن الدولة المترفة أو الهرمة إنما تخسر من الدولة الفتية بالمطاولة وليس المناجزة، وهي سنّة تاريخية ذكرها ابن خلدون في ذات المقدمة(4).

------------------

(1) المصدر من موقع السي آي إي لا يمكن مشاهدته الا باشتراك في الموقع 
لكن يمكن قرائته من هذا الرابط بدون اشتراك اضغط هنا

(2) الرابط اضغط هنا

(3) مقال ديفيد ووكر في الفاينانشيال تايمز 21 اغسطس 2007 اضغط هنا

ويمكن قراءة ملخص عربي للمقال على هذا الرابط اضغط هنا

(4)
​ذكرها ابن خلدون في الفصل السادس والأربعون
في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع
والفصل الخمسون 
في ان الدولة المستجدة إنما تستولي على الدولة المستقرة بالمطاولة لا بالمناجزة

مقال سبق نشره في صحيفة التقرير هنا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق