الاثنين، 12 يناير 2015

متى تسبب الأحداث الصغيرة آثارا كبيرة؟

متوالية بدأت بقتل شخص واحد، وانتهت بحرب عالمية كان ميدانها العالم كله تقريبًا، قتل فيها ملايين البشر، وتغيرت الخريطة السياسية العالمية، وسقطت إمبراطوريات ونشأت عشرات الدول. تتسلسل المتوالية كالتالي:
اغتيل ولي عهد النمسا على يد شخص صربي. (1)
طلبت النمسا من صربيا تسليمها القاتل، فرفضت صربيا.
أعلنت النمسا الحرب على صربيا.
استنجدت صربيا بروسيا، فأعلنت روسيا الحرب على النمسا.
استنجدت النمسا بألمانيا، فأعلنت ألمانيا الحرب على صربيا وروسيا.
أعلنت فرنسا أنها ملتزمة بحلفها مع روسيا، فقررت ألمانيا غزوها.
لم يمكن للجيش الألماني غزو فرنسا إلا من خلال بلجيكا، فاجتاح الجيش الألماني بلجيكا.
كانت بريطانيا حليفة لبلجيكا، فأعلنت الحرب على ألمانيا دفاعًا عن بلجيكا.
وعد الحلفاء (روسيا بريطانيا فرنسا) إيطاليا بأجزاء من النمسا بعد كسب الحرب، فدخلت الحرب معهم.
كانت الدولة العثمانية حليفة لألمانيا، فدخلت في صفها.
غزا الحلفاء الأراضي العثمانية واستولوا على أجزاء كبيرة منها.
وعد الحلفاء رومانيا بأجزاء من المجر لو كسبوا الحرب، فدخلت لصالح الحلفاء.
أغرقت الغواصات الألمانية سفنًا أمريكية قادمة لبريطانيا، واكتشفت أمريكا أن ألمانيا تخطط مع المكسيك لمحاربتها، فأعلنت أمريكا الحرب على ألمانيا. (2)
في النهاية، شاركت أكثر من عشرين دولة في الحرب بشكل أو بآخر. (3)
هل كان سبب كل هذه المتوالية المعقدة، التي استمرت في دمار شمل ثلاث قارات، وامتد على مدى أربع سنوات، وقتل فيه الملايين، واختفت إمبراطوريات، هل كان سببه اغتيال شخص واحد؟ لقد اغتيل الكثير من الزعماء، فلم تحصل حرب صغيرة، فضلًا عن حرب عالمية، فهل كانت هذه المتوالية الضخمة صدفة؟(4)
هل كان سبب الثورة الأمريكية، التي أعقبها إنشاء أقوى دولة في التاريخ، رمي صناديق الشاي الإنجليزي في ميناء بوستن في البحر؟ (5) كم من تمرد وفوضى وشغب حصل في الموانئ، فلم يسمع عنه إلا من له علاقة به، فضلًا عن أن يتسبب في ثورة أو إنشاء دولة عظمى، فلماذا كان رمي عدد من الصناديق سببًا في إنشاء أمريكا؟
هل كان سبب ثورة غاندي التي انتهت بتحرير الهند وتخليصها من 400 سنة من الاحتلال الإنجليزي، قتل عدد من المعتصمين في إضراب الملح الشهير؟ (6) كم من متظاهر ومعتصم قتل بدم بارد في الهند وغيرها، ولم يتسبب بأي تغيير سياسي، فضلًا عن تحرير دولة سكانها مئات الملايين من المستعمر، فلماذا كانت مذبحة الملح سببًا في تحرير دولة كبرى مثل الهند؟
هل كان سبب توسع حكم جنكيزخان من قبيلة صغيرة في قطعة من صحراء منغوليا، إلى أوسع فتح في التاريخ، بسبب انتقامه بعد غزوة سبيت فيها زوجته؟ (7) كم من قائد تعرضت عائلته للسبي، ولم يترتب عليها أي توسع في حكمه، فضلًا عن إمبراطورية ضعف حجم الإمبراطورية الرومانية، فلماذا يكون سبي زوجة جنكيزخان سببًا في هذا الاكتساح الهائل؟
هل كان سبب الثورة الفرنسية، التي غيرت الأنظمة السياسية في كل أوربا، قيام لويس السادس عشر بحل الجمعية الوطنية والإفصاح عن الدين العام؟ (8) كم من ملك في فرنسا وغيرها، لم يقبل بجمعية وطنية، وقمع كل أنواع التمرد بكل نجاح، فضلًا عن أن يحل جمعية موجودة، فلماذا لم يحصل له مثلما حصل في الثورة الفرنسية؟
هل كان تدمير البرجين في أحداث سبتمبر سببًا للاستقطاب العالمي الهائل، والتحول الضخم في التوازن السياسي الدولي، والتغيير التاريخي العظيم الذي حصل بعدها؟ كم من عمارة دمرت في أمريكا وغيرها، بعمل مقصود ولم ينتج عنها أي حملة إعلامية ولا عسكرية، فضلًا عن أن تتسبب في استقطاب عالمي، فلماذا كانت أحداث سبتمبر سببًا في تغيير التاريخ كله؟(9)،(10)
هل كان سبب الربيع العربي، واندلاع الثورة في خمس دول ما قام به بوعزيزي؟ كم من شخص أحرق نفسه في العالم العربي، وغير العالم العربي، فلماذا لم تندلع ثورة ولم يتحرك أحد؟
التاريخ لا تصنعه المصادفات، وسنن الله لا تحصل بالحظ ولا بحوادث فردية، بل هي قوانين ثابتة حتى لو بدت بعض الأحداث مصادفات أو حظوظ. لكن، ما هو سر بعض الأحداث الفردية التي تغير وجه التاريخ؟
السر هو أن هذا الحدث ليس بذاته صانع التغيير، بل هو تحريك اللبنة القابلة للسقوط في بيئة متهيئة لأحداث كبيرة، ولو لم تستجب هذه البيئة له لاستجابت لغيره، ولو حصل نفس الحدث في بيئة غير مهيئة لكان حادثًا عابرًا مثل غيره. وبالمثال يتضح المقال، إن شرارة النار إذا قدحت في صهريج بنزين سوف تندلع فيه نار عظيمة، بينما لن يشتعل الشجر الرطب حتى لو أوقدت فيه نار حقيقية.
الوضع السياسي والعسكري والاجتماعي والاقتصادي والأمني، قبل الحرب العالمية الأولى كان مهيئًا لاندلاع الحرب، ويتفق المؤرخون أن الذي حدث لم يكن منه مناص. العلاقات بين الدول الأوروبية، ووضع الدولة العثمانية، وعلاقة أوروبا بأمريكا، كلها كانت في وضع يهيئها للحرب الشاملة، ولم يكن حادث الاغتيال إلا مجرد قادح لها. (11)
والكلام نفسه ينطبق على الثورة الفرنسية والثورة الأمريكية، وتوسع إمبراطورية جنكيزخان، وتحرير الهند على يد غاندي، وأحداث سبتمبر والربيع العربي، فهي مجرد أحداث، أربكت توازنًا هشًا وضربته في بؤرته الحساسة. وعادة ما يكون هذا التوازن الهش، خادعًا لا ينتبه لهشاشته الغالبية العظمى من الناس.
لم تدرك طائفة الموارنة، ولا غيرها من مكونات المجتمع اللبناني، هشاشة التوازن الطائفي في لبنان، وأنها ستنقلب عليهم، حين ردوا على محاولة اغتيال بيار الجميل بعملية الباص الشهيرة؛ ذلك لأن محاولة الاغتيال لم تكن بذاتها السبب في الحرب، ولا الرد عليها بعملية الباص سببًا كذلك، بل كان السبب هو التوتر الطائفي الجاهز للانفجار.
لم يدرك الصوماليون هشاشة التوازن القبلي والاجتماعي، حين انقلبوا على زياد بري، فامتدت الحرب الصومالية أكثر من عشرين سنة؛ ولهذا فإن الانقلاب بذاته لم يكن السبب في انطلاق الفوضى في الصومال، ولو كان هو السبب لأمكن ضبط الوضع القبلي والاجتماعي بأي قيادة أخرى، لكن غياب هذا التوازن منع أي قوة من ضبطه بعد ذلك.
هذا عن الماضي فماذا عن المستقبل؟ وهل هناك أدلة على تكرار هذا النموذج في المستقبل القريب في العالم العربي؟
الوضع الراهن في العالم العربي في حالة توتر سياسي واجتماعي وأمني وثقافي، ويشتمل على توازنات هشة جدًا، ويخبئ تحت رماده وميض صراع ضخم على الهوية والانتماء، ونُذر حرب طاحنة على المرجعية والمسؤولية. هذا التوازن الهش، شبيه بمقدمات التغييرات التاريخية الكبيرة، التي وردت في كثير من الأمثلة السابقة، والتي يقدح زناد التغيير فيها حدث صغير.
ومن عجائب التاريخ أن خطورة القادم، وإدراك هشاشة التوازن، لا ينتبه لها إلا أقلية صغيرة جدًا من العقلاء، وتفوت على الغالبية العظمى، ليس فقط من العامة، بل من النخبة المثقفة والعلماء. وغالبًا ما تشعر هذه الأقلية المدركة بالغضب اليائس؛ لأنها عاجزة عن إيصال رسالة التحذير لهذه الغالبية الغافلة. (12)
ولو وضعت هذه الملاحظة في إطار علمي، وأجريت عملية مسح شاملة، لمدى إدراك النخب المثقفة وجود خطر كبير خلف واجهة هذا التوازن الخادع، لكان الرقم صادمًا جدًا؛ ولهذا يشعر العقلاء المدركون بالغضب اليائس، لأن المخدوعين ليسوا أغلبية فحسب، بل لأنهم هم المتنفذون في مواقع التأثير الثقافي والاجتماعي والسياسي. (13)
وكمثال بسيط على هذه الغفلة، اعتقاد الغالبية العظمى من هذه النخب أن المؤسسات السياسية، والكيانات الحاكمة في العالم العربي، متماسكة وراسخة ولا يمكن أن يخلخل كيانها شيء. وهي قناعة لم تبن على حب هذه الكيانات، ولا اقتناعًا بشرعيتها، لكنها اعتقاد جازم، بأنها قدر هذه الشعوب، بعد أن طال عهد هذه الأنظمة فاستقر في وجدان النخب أن وجودها أبدي.
التغيير الاجتماعي والديموغرافي والثقافي الهائل، الذي حصل في الخليج وتأثيره وتأثّره بما يجري في مصر واليمن والعراق والشام، يحتوي على “المقادير” المثالية لتحول عظيم لربما نرى آثاره ليس في العالم العربي فحسب، بل في كل العالم. لكن، هذه المقادير لا يمكن أن يراها من يخدعه هذا الاستقرار الظاهري المرسوم بريشة السياسة والإعلام والمؤسسات الثقافية والدينية.
الواقع الحالي في دول الخليج ومصر والعراق وشمال إفريقيا، ليس معتمدًا على تخطيط استراتيجي واستقرار اجتماعي وحضاري، بل معتمدًا بالكامل على ترتيبات إدارية ومالية وسياسية لحظية، مرتبطة بظروف وقتية، ولو تخلخل واحد من هذه الترتيبات أو الظروف لتخلخل التوازن كله؛ ومن هنا، فإن أي لبنة تسقط في هذه الترتيبات تعني “كركبة” التركيبة كلها.
ما هو الحدث الصغير أو الكبير الذي سيؤدي إلى إزالة هذه الواجهة الكاذبة، ويخلط المقادير مع بعضها حتى تنفجر قنبلة نووية يصل أثرها للعالم كله؟ كل شيء وارد، لكن ربما تكون الأحداث السياسية أكثر قدرة على قدح هذه الشرارة خاصة فيما له علاقة بالقيادات السياسية في الدول.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
1) كان وريث العرش النمساوي الأرشيدوق فرانس فرديناند في زيارة للبوسنة والهرسك حين تم اغتياله على يد مجموعة من الصرب.
3) أكثر من عشرين دولة إذا حسبنا الدول التابعة لبريطانيا مثل الهند وأستراليا ونيوزيلندا.
4) اغتيل إبراهام لنكولن، وجون كندي، من رؤساء أمريكا ولم يحصل شيء يذكر بعد اغتيالهما.
5) كانت هذه الحركة من قبل العمال في ميناء بوستن في 16 ديسمبر 1773، احتجاجًا على إعفاء الشركات الإنجليزية من الضرائب وكانت باعثة للثورة الأمريكية ولم تكن سببًا لها.
6) انطلقت مسيرة الملح في مارس 1930 من “سبارماتى أشرام” إلى “داندي” لمسافة امتدت مئات الأميال، وانضم إلى المسيرة العديد من الهنود حين مرت في مناطقهم.
7) كان جنكيزخان قد سيطر على قبيلته وبعض القبائل المحيطة به، لكنه لم يفكر بالتوسع الحقيقي إلى أن غضب على قبيلة الميركيت الذين أسروا زوجته، فحاربها وانتصر عليها، فدانت له كل منغوليا فاتحةً شهيته لتوسع لم يمكن إيقافه حتى قال “أريد أن أغزو العالم كله، لكن عمري لا يكفي”.
8) إعادة وزير المالية المفصول، وحل الجمعية الوطنية، وإعلان الدين العام، هي التي أججت الشارع الفرنسي، وأدت لاقتحام سجن الباستيل، ومن ثم المسيرة إلى قصر فرساي وانطلاق الثورة الفرنسية التاريخية.
9) حادثة تفجير أوكلاهوما مثلًا كانت تدميرًا لمبنى فيدرالي كبير، لكن لم يترتب عليها أي تبعات محلية فضلًا عن تبعات عالمية وتم التعامل معها كجريمة عادية.
(10 “بعد 11 أيلول سبتمبر 2001، اتفق عمومًا على أن العالم قد تغير تغيرًا لا رجعة فيه” نعومي تشومسكي من كتاب الدولة الفاشلة ص 140.
12) قال ابن سعد في “الطبقات”: أخبرنا عفان بن مسلم قال: حدثنا زُرَيْكُ بن أبي زريك قال: سمعت الحسن يقول: إن هذه الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم وإذا أدبرت عرفها كل جاهل.
13) لا أبالغ إن قلت إن عدد المدركين لهشاشة الوضع في المنطقة، لا يتجاوز واحدًا في المئة بين المثقفين.

هناك تعليق واحد:

  1. إذا كنا نؤمن بأن هناك سننا كونية دقيقة،وهي لاتباعد في دقتها القوانين الفيزيائية، فلِمَ لانفحص التاريخ، ونبحث فيه عن مثل صورتنا؟ فقد نجد فيه إجابة،ولن تخرج من غضبك اليائس إلا من هذا الطريق.

    ردحذف