لم تتفق دول العالم في تنسيقها المخابراتيّ والأمنيّ والإعلاميّ والسياسيّ والعسكريّ والثقافيّ، مثلما اتفقت ضد التنظيمات الجهادية. إعلاميًّا، تعاونت الدول في تقديم أقوى البرامج لتخويف الشباب من الانخراط في الجهاد، وتقبيح صورته وإقناعهم شرعًا ومنطقًا وعرفًا أنه ليس جهادًا، بل خروج وتطرف وإرهاب، إلخ. ثقافيًّا وشرعيًّا ونفسيًّا، تعاونت الدول في استثمار كلّ من يمكن الاستفادة منه؛ من مشايخ ومثقفين وكتّاب ومفكرين في صناعة رأي عام يردع الشباب عن التفكير في الانضمام لأي تنظيم جهادي. أمنيًّا، تعاونت الدول في تتبع نشاطات الجهاديين وتمكنت من اعتقال أعداد كبيرة منهم، وممّن يدعمهم ماديًّا وإعلاميًّا وفكريًّا، ونشرت نشاطاتها في تتبعهم حتى يكون هذا رادعًا لمن يفكر بالالتحاق فيهم. عسكريًّا تمّ استهداف مواقع الجهاديين، وبلغ التعاون أن تسمح دول مثل اليمن وباكستان، بخرق سيادتها من أجل قصف تجمعات الجهاديين[1].
حملة تؤتي عكس المطلوب منها
كان المتوقع بعد هذه الحملة العالمية المتكاملة، أن يرتدع الشباب بالكامل عن الالتحاق بالتنظيمات الجهادية، أو على الأقل لا يلتحق بها إلا القليل جدًّا من “المتهورين” الذين يمكن عزلهم والقضاء عليهم. الذي حصل هو العكس؛ فقد تنامى المشروع الجهاديّ وقفز عشرات أضعاف حجمه وانتشر في العالم كلّه، بعد أن كان محصورًا في بلد واحد أو بلدين. وكذا حرص الشباب على الالتحاق به؛ فبدلًا من بضعة عشرات صار عشرات الألوف من المجازفين الذين يضربون بالتحذيرات والتخويف ونصائح المشايخ عرض الحائط، ويخاطرون بكل الصعوبات من أجل أن يصلوا لمواقع التنظيمات الجهادية[2].
وبقدر ما تبدو هذه الحقيقة ظاهرة وساطعة وفارضة لنفسها بكل قوة، فإنّه يجري تجاهلها والتعامي عنها وخداع النفس بنجاح البرامج التي تردع الشباب عن الالتحاق بالتنظيمات الجهادية. وما لم يتم الاعتراف بهذه الحقيقة والتوقف عندها وإدراك حجمها وتصور أبعادها؛ فلن يمكن فهم الظاهرة الجهادية فضلًا عن فهم سبب التحاق الشباب فيها. هذا التعامي وخداع النفس يأتي بنتيجة عكسية فيضخّ المزيد من القوة في التنظيمات الجهادية وجاذبيتها، ويضاعف من انخراط الشباب فيها[3].
اعتراف وتقصٍّ
لا بدّ إذًا من الاعتراف بهذه الحقيقة والتجرد من تراكمات الإعلام والإرهاب الأمني والتزوير السياسي والتلاعب الثقافي. وبهذا الاعتراف تنفتح أبواب كثيرة تسهّل فهم أسباب انخراط الشباب في هذه التنظيمات ولماذا تنظيم “دولة العراق والشام” بالذات؟
أول هذه الأسباب شعور هؤلاء الشباب بالاستفزاز بسبب ما يعتقدونه من هيمنة قوى “الكفر” على دول الإسلام، مقابل ما يعتبرونه تكليفًا شرعيًّا بهيمنة الإسلام على كلّ دين وأن تكون كلمة الله هي العليا. وكان أول تحول للجهاد من جهاد محليّ مرضيّ عنه في أفغانستان، إلى جهاد عالميّ مغضوبٍ عليه هو “حصار العراق” لأكثر من عقد كامل، وتنفيذ الحصار من قواعد أمريكية داخل بلاد المسلمين ثم إكمال “الجريمة” باحتلال العراق. هذا الحصار الذي جاء أصلًا مسبوقًا باستفزاز أمريكيّ قديم للمسلمين، في دعم غير محدود لإسرائيل ككيان استيطانيّ مزروع في قلب العالم الإسلامي[4].
السبب الثاني، اعتقاد هؤلاء الشباب أن القيادات السياسية في الدول الإسلامية خانعة لأمريكا وتمارس قمع الشعوب وقهرها من أجل تمكين أمريكا وإبقائها مهيمنة. ويذهبون لأبعد من ذلك بالاعتقاد أنّ هذه القيادات تسعى لإبقاء الأمة المسلمة متخلفة وضعيفة قصدًا، حتى لا يكون لها شأن أمام تفوق الغرب الكافر. ولهذا، ليس من الوارد أن ينتظروا تحركًا من هذه القيادات لقلب المعادلة، بل هي بالنسبة لهم في نفس الخندق مع مَن يعتبرونه العدوّ الكافر[5].
السبب الثالث، فقر الهُويّة عند هؤلاء الشباب الذين تعلموا في القرآن قوة وعمق وثقل الانتماء الإسلامي، وتفوقه بمفهوم الاستعلاء مقابل ما يلقنونه في المدارس والإعلام من مفاهيم الوطنية. هذا الانتماء المرتبط بالعقيدة ومشروع الخلافة لا يمكن إشباعه في الانتماء لدول قطرية حدّد حدودَها المستعمرُ، فأصبحت في نظرهم هُويّة مصطنعة مفتعلة، لا تساوي شيئًا أمام الهُويّة الإسلامية والانتماء الديني. وهذا الفقر في الهُوية رغم أنه مدفون في الوجدان، إلا أنه قد يكون أقوى الدوافع في التوجهات الجهادية بسبب ضخامة معنى الانتماء في الإسلام. وعلماء الاجتماع يؤكدون أن عامل الانتماء والهوية يتفوق على العوامل الأخرى في التغييرات التاريخية الكبرى[6].
السبب الرابع، أن كل أنواع القيادات الدينية المسموح لها بالحديث والنشاط لا تشبع تطلعات هؤلاء الشباب أبدًا. وهذه القيادات على نوعين؛ النوع الأول منها محسوب على السلطة نفسها فتسقط مصداقيته عند الجهاديين، لأنهم يمثلون تنظيرًا للدين محرفًا يناسب صاحب السلطة. النوع الثاني قيادات لم تبادر بأي عمل أو موقف أو قول يشبع تطلعات الجهاديين، بل ربما صدر منهم ما يخالف هذه التطلعات فعوملوا مثل معاملة النوع الأول. وهذا يجمد دور هذه القيادات تمامًا في التأثير على الشباب الذي يفكر بالجهاد؛ لأنها في نظرهم لم تنجح في اختبار قول الحق في القضايا التي يجب أن يقال فيها، فلن يكونوا أهلًا لأن يؤخذ عنهم في التوجه للجهاد أو عدم التوجه[7]
السبب الخامس، إغلاق الطريق أمام التغيير والإصلاح بالطرق السلمية والمبالغة في قمع مَن يفكر بالإصلاح سلميًا. ومن المسلّم به تاريخيًّا ومنطقيًّا أن إغلاق الطريق السلميّ في التغيير يدفع تلقائيًا لاستخدام القوة، سواء بطريقة منظمة منهجية أو طريقة فوضوية عشوائية. وبما أن المشروع الجهادي بتنظيره الفكري وتنظيمه الحركي جاهز لتلقي من يتبرم من إغلاق الطرق السلمية، فليس غريبًا أن يلجأ هؤلاء الشباب للتنظيمات الجهادية تلقائيًّا. ولعل هذا يبين لماذا يتهكم كثير من الجهاديين في “تويتر” على دعاة السلمية والإصرار عليها[8].
السبب السادس، هو مبالغة بعض الأنظمة في القمع والتعذيب والقهر والحرمان من العدالة، وتغييب المعتقلين وإغلاق طرق التظلم وإخفاء أي معلومات عنهم. فيُستفز المطلوب في نفسه وماله وعرضه وحياته وكرامته، ويقف العالِم والقاضي وشيخ القبيلة كلهم مع السلطة وضده في ذلك. هذا القمع الشديد الذي تغلق فيه أبواب التظلم ويحاصر فيه المطلوب اجتماعيًّا وهو يرى نفسه على الحق، يصنع حالة من النزعة الانتقامية لا يمكن أن يشبعها إلا التفكير باستخدام القوة. والقوة هنا لا يقصد بها ردع الظالم أو تخويفه، بل تعني إزالته تمامًا وتخليص الناس منه ومن طغيانه. ولأنّ التنظيمات الجهادية هي الوحيدة التي توفر فرصة لمن يفكر باستخدام القوة، فلا غرابة أن يكون التفكير فيها تلقائيًّا بعد ذلك[9].
السبب السابع، هو قيام أمريكا بترميز التنظيمات الجهادية وجعلها ندًّا كفؤًا لها، وذلك بردها عليها بصوت عالٍ، وكأنه اعتراف أو شهادة بأنهم الخصم الوحيد الذي استطاع أن يؤذي أمريكا في العالم. والجميع يذكر رد فعل أمريكا على تفجير سفارتيها في كينيا وتنزانيا سنة 1998، بقصفها مصنع الشفاء في السودان مصحوبًا بحملة إعلامية كبيرة، مما فيه ترميز هائل لابن لادن. أما أحداث سبتمبر، فقد كان الرد عليها ردًا كونيًا، ساهم في تجييش الكثير من الشباب في العالم الإسلامي لصالح التنظيمات الجهادية. ولا تزال أمريكا تتحدث بصوت مرتفع عن قلقها من الجهاديين، وتقصفهم في كل مكان بطائرات “الدرونز” وبوسائل كثيرة لا تستخدم إلا في الحروب. والشباب الكاره للطغيان الأمريكي يفهم من هذا الاعتراف: أنّ التنظيمات الجهادية هي الأولى بإشباع تطلعاته، لأنها هي التي تستطيع أن تشفي غليله في أمريكا[10].
وتتمة لهذا السبب، فإن الحكومات المتهمة من قبل الجهاديين بالتبعية والخضوع لأمريكا، تحمست في المساهمة بالدور المنوط بها، في محاصرة الجهاديين ونفذت ما يزعم أنه مطلوب منها في ملاحقتهم والقضاء عليهم. هذا الموقف من قبل الحكومات كان بالنسبة لهؤلاء الشباب دليلًا إضافيًّا على أن هذه الحكومات جزءُ من مؤامرة تقودها أمريكا، وبهذا فهم تابعون “للمشروع الكفري العالمي”. وهذا سهّل عليهم اتهام هذه الحكومات مباشرة بالكفر، سواء بإطلاق عام على السلطة ككل، أو بإطلاق معين على شخصيات معينة في السلطة.
ما ذكر أعلاه ليس تفسيرًا لحالات عابرة، كهروب من يأس أو تعبير عن غضب، بل هي ظاهرة عامة وواسعة حصلت لعشرات الألوف من الشباب. والقضية لا تقف عند القناعة بالتنظيمات الجهادية ورفض الطرح الدارج، بل تتجاوز إلى المخاطرة بخطوات عملية تنتهي بالانخراط في هذه التنظيمات، رغم المحاذير بوقوع هؤلاء في أيدي السلطات الرسميّة. ولولا مثل هذه الدوافع -وربما غيرها- لما جازف عشرات الألوف من الشباب بكل تلك المحاذير والمخاطر.
لماذا تنظيم “دولة العراق والشام” بالذات؟
يبقى السؤال الأخير: لماذا يتوجه الشباب إلى تنظيم “دولة العراق والشام” بالذات، رغم أنّ هذا التنظيم يتعرض للهجوم حتى من التنظيمات الجهادية الأخرى؟ ربما يمكن تفسير ذلك بأن تنظيم “الدولة” يشبع كثيرًا من التطلعات المذكورة أعلاه بدرجة أعلى بكثير من إشباع الفصائل الأخرى.
فحين تجيب كثير من التنظيمات بأجوبة متفاوتة حول ماذا تريد، فإن تنظيم”دولة العراق والشام” واضح بأنه يريد أن يتمدد كسلطة تنفذ الشرع، وتفتح الفتوح كمقدمة للخلافة. وهذا الطرح البسيط والمباشر يستهوي كثيرًا من الشباب المفتقر لإشباع الرغبة بالانتماء الكامل للهُويّة الإسلامية الاستعلائية. وغالب الشباب لا يحبون التأصيل المعقد في التدرج في الانتقال للخلافة وتستهويهم هذه اللغة البسيطة والمباشرة، فيشعرون بانجذاب قويّ تجاهها[11].
وبقدر ما يرى كثير من المراقبين تصرفات ومواقف تنظيم “دولة العراق والشام” تطرفًا وتساهلًا في التكفير والدماء، فإن الشباب المتحمس الذين اكتووا بقمع الأنظمة، ينظرون لها كتصرفات ومواقف مثالية تشبع فيهم رغبة الانتقام ضد الأنظمة، التي تعتقل وتعذب وتقتل وتفرض الفساد وتهتك الأعراض وتهين الدين[12].
والدائرة تستمر
وعودًا على بدء، فإن طريقة أمريكا والعالم المتعاون معها في الردّ على نشاط التنظيمات الجهاديّة، هي في الحقيقة ضخّ للمزيد من التجنيد لصالح هذه التنظيمات. ولو تتبعتَ أساليب التعاون العالميّ ضدّ “الإرهاب”؛ لأدركت أنّه أفضل وسيلة لتجنيد الشباب لهذه التنظيمات[13].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
[1] تحالف التحالفات ضد الإرهاب: دورية الصراعات والإرهاب
A Coalition of Coalitions: International Cooperation Against Terrorism
Studies in Conflict & Terrorism
[2] لا توجد تقديرات متفق عليها في عدد مَن التحق بالجهاد على مدى الثلاثين سنة الماضية، لكن يقدر عدد المجاهدين من خارج سوريا في سوريا بعشرين ألفًا، طبقًا لما يتداول في وسائل الاتصال.
[3] راجع كتاب مايكل شوير Through Our Enemies’ Eyes
[4] ولهذا نرى في كتابات الجهاديين كثرة استدعاء أحداث الغضب للهُوية في التاريخ الإسلامي، مثل رسالة هارون الرشيد لملك الروم، وقصة وامعتصماه.
[5] ولهذا السبب حظي جمال عبد الناصر وصدام حسين في مرحلة من المراحل بإعجاب الناس، لأنهم حققوا شيئًا من التحدي للمشروع الغربي.
[6] راجع كتاب مانويل كاسل (قوة الهوية) The Power of Identity
[7] هذا الكلام ينطبق على ما يسمّى علماء الصحوة؛ لأن الشباب الجهادي يعتبرهم من النوع الثاني.
[8] “من يجعلون الثورة السلمية مستحيلة، يجعلون الثورة العنيفة حتمية”، الرئيس الأمريكي جون كنيدي.
[9] راجع هذه المقالة العلمية، “الانتقام في الإرهاب”.
“Revenge in Terrorism: Its Presence and Its Power” Bradford, E. J. and Wilson, M
[10] راجع كتاب مايكل شوير Through Our Enemies’ Eyes
[11] لهذا السبب تناقل الكثير من الشباب فيديو تدمير المنافذ بين سوريا والعراق باحتفالية بهيجة.
[12] عرضت السي إن إن تقريرًا عن صليل الصوارم والإبداع الفني فيه لإظهار أشد علامات القسوة ضد أعداء الجهاد.
[13] راجع كتاب مايكل شوير Through Our Enemies’ Eyes
مقال سبق نشره في صحيفة التقرير على هذا الرابط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق