انتشرت كثير من البحوث والمقالات التي حاولت مناقشة الفروقات الفكرية والمنهجية والتنظيمية بين “القاعدة” وبين “دولة العراق والشام”، لكن قليل من تناول الفروق في الرؤية والاستراتيجية. وحتى من تناول هذه المسألة، فإنما ناقشها بشكل عارض أو كلام محدود في سياق قضية أخرى. والسبب أن معظم الباحثين والمعلقين يشدهم الاهتمام العالمي وتوفر المعلومات، أكثر مما يشدهم معرفة الصورة الكاملة عن المشروع الجهادي والتنظيمات الجهادية. والحديث عن الاستراتيجية متعب؛ لأن الباحث فيها عليه أن يستقرئها استقراءً بسبب قلة الحديث عنها في أدبيات الجهاديين بكل تياراتهم[1].
أربع مراحل
ومنعًا للاختلاف في المصطلحات، فإن المقصود بالرؤية هو النظرة الكلية للواقع والهدف العام بشكل مجمل. أما الاستراتيجية، فهي التصور التفصيلي لفهم الواقع وتحديد موقع التنظيم فيه، وتحديد الخطة العامة والخطط المرحلية بوضوح. وطبقًا لهذه المعاني، فقد مرّ المشروع الجهادي بأربع مراحل مفصلية تشكلت استراتيجية “القاعدة” في المرحلة الثالثة، وتشكلت استراتيجية “الدولة” في المرحلة الرابعة.
المرحلة الأولى، الجهاد ضد الاحتلال السوفيتي لأفغانستان كردّ فعل بدون رؤية ولا استراتيجية، لكنها مرحلة تسببت -عن غير قصد ولا تخطيط- في بعث المشروع الجهادي كله.
المرحلة الثانية، بدأت بعد أزمة الخليج وخروج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان، وفيها تشكلت الرؤية العامة باعتبار أمريكا خصمًا أساسيًّا للإسلام بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وتفرد أمريكا بالتحكم بالعالم، وهذه كسابقتها كانت بدون استراتيجية.
المرحلة الثالثة، بدأت بعد عودة بن لادن لأفغانستان من السودان ولقائه مع الظواهري، والذي حوّل رؤية بن لادن إلى استراتيجية متكاملة ويحق لنا بذلك أن نسميها استراتيجة الظواهري.
المرحلة الرابعة، بدأت بإعلان الدولة الاسلامية في العراق بناء على رؤية جديدة مخالفة للقاعدة، ثم تحولها إلى دولة العراق والشام باستراتيجية مختلفة عن القاعدة، ويحق لنا بذلك أن نسميها استراتيجية البغدادي.
من صاحب الرؤية ومن صاحب الاستراتيجية؟
كانت الرؤية واضحة عند بن لادن كما جاء أعلاه، لكن لم تكن لديه استراتيجية متكاملة. انحصرت خطة بن لادن فقط في إجبار الأمريكان على الخروج من بلاد المسلمين، وذلك باستهدافهم بعمليات مباشرة تتسبب في بثّ الرعب فيهم ومن ثم يجبرون على الخروج رغم أنوفهم. لم ترق هذه الخطة كثيرًا للظواهري ورأى أن فيها تبسيطًا للمشكلة، وعدم فهم للمعطيات المحلية والعالمية. ومن هنا، طرح الظواهري تصورًا شاملًا وتفصيليًّا للواقع العالمي، وأسّس، بناءً عليه، خطة كاملة لتمكين المشروع الجهادي من تحقيق غاياته بعد التحييد الكلي لأمريكا[2].
تركيبة العالَم في عين الظواهري
الظواهري رأى أن تركيبة العالم تشكلت بعد أزمة الخليج وسقوط الاتحاد السوفياتي وتفرد أمريكا بالنفوذ كبناء له ثلاثة مستويات، كل مستوى من هذه المستويات يقدم ضمانًا لحماية التركيبة ويقمع أي رغبة في تغييرها.
المستوى الأول، سلسلة الدول القطرية في العالم التي ظاهرها الاحترام المزعوم للحدود والسيادة، وباطنها التعاون فيما بينها لقمع أي نزعة لتغيير هذه الحدود، أو أي رفض للهيمنة الغربية. ولأن هذه الدول تعمل كمجموعات إقليمية وعالمية، فإن أي مخالفة للنهج العالمي تعني أن يكون هذا المخالف وجهًا لوجه مع كثير من دول العالم.
المستوى الثاني، هو هيمنة الغرب القوي على العالم سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا، حتى صار في الوجدان البشري هو العالَم وهو المجتمع الدولي وهو الرأي العام الدولي.. إلخ. هذه الهيمنة الغربية تقدم ضمانًا أعلى مستوى من ضمانات الدول القطرية بقدراتها السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية، لمنع أي تمرد على النظام الدولي الحالي في أي قُطر من الأقطار، سواء كان صادرًا من الحاكم أو من الشعب.
المستوى الثالث، هيمنة أمريكا على الجميع وموافقة الغرب على قيادتها وريادتها وأن تكون الضامن النهائي لسلامة هذه التركيبة العالمية. وأمريكا -من خلال هذا الموقع- ستكون قادرة بذاتها أو من خلال هيمنتها على الغرب، أو من خلال هيمنتها على كل الدول، على منع أي خلخلة في هذه التركيبة سواء كانت هذه الخلخلة من خلال حركات إسلامية أو غيرها.
وإذا وضع هذا التصور على الواقع، يتبيّن أن فيه درجة عالية من الدقة؛ فقد تعاونت كل دول المنطقة ضد صدام حسين الذي لم يعترف بالحدود مع الكويت، وتعاونت مرة أخرى حين رفض أن يكون جزءًا من الهيمنة الأمريكية، وكان المهيمن على الموقف العالمي هو الغرب الأوربي بقيادة أمريكا. وتكرر الحدث مع طالبان، كما تكرر أيضًا مع دول الربيع العربي، فقد تعاونت الدول الإقليمية بدعم غربي وقيادة أمريكية لإيقاف الربيع العربي، بل ومحاولة قلب الطاولة على من انطلقوا به.
ويرى الظواهري أن أي خلخلة لهذه التركيبة من أسفلها على أساس كل دولة سيكون مضيعة للوقت، فحتى لو وصل الجهاديون لمرحلة الاستيلاء على السلطة فمآلهم للفشل بسبب قوة التعاون على المستويات الثلاثة. والعكس صحيح؛ فالظواهري يرى أن هذه التركيبة قد اعتمدت كثيرًا على القيادة الأمريكية إلى درجة أنّها ستصاب بالارتباك والفوضى لو فقدت قيادة أمريكا، ولن تتعافى إلا بعد أن تجد بديلًا قياديًّا بحجم أمريكا.
ولهذا بنى الظواهري تصوره على أساس أن هذه التركيبة يجب أن تُخلخل من أعلاها وليس من أسفلها، وذلك بتحييد، أو شلّ، أمريكا وإشغالها بنفسها ومنعها من القدرة على التدخلات العالمية. وحين تنشغل أمريكا بنفسها وتخسر موقعها القيادي العالمي يمكن التلاعب بالوحدات القطرية، والتأكد من أن أي نفوذ سياسي على الأرض للجهاديين لن يكون في خطر.
المعالم الأساسية في خطة الظواهري
لكن كيف يمكن مواجهة أمريكا وهي أقوى من الجميع، بل إن الجميع يخدمها في حمايتها؟ الحلّ عند الظواهري هو في “نظرية الكاراتيه” أو ما يسميه القادة الاستراتيجيون في الغرب “الحرب غير المتوازية”، التي تعتمد على تحويل قوة الخصم ضده. يعرف الظواهري العقلية الأمريكية جيّدًا؛ لأنه قضى وقتًا في أمريكا وأدرك سهولة تطبيق نظرية الكاراتيه عليها. والفكرة تتلخص في استثارة الأمريكان لردة فعل محددة، تتسبب في ضررهم من خلال تحقيق مآرب معينة يريدها الظواهري، مستفيدًا من نفسية الكاوبوي الأمريكية المستعجلة في الرد والانتقام. وقد رتّب الظواهري خطته على ثلاث مراحل:
مرحلة التجنيد، وتتلخص في استخدام أمريكا كشركة علاقات عامة، تقدم دعاية هائلة ومجانية للقاعدة وبن لادن، وذلك باستفزاز أمريكا وإجبارها على الرد بصوت عالٍ على القاعدة، ومن ثم إقناع المسلمين الغاضبين على أمريكا أن القاعدة هي الأحق بإشباع تطلعاتهم، وإن رغبوا بشفاء الغليل منها فعليهم الالتحاق بالقاعدة. ومن هنا جاء استفزاز أمريكا بضرب سفارتيها في كينيا وتنزانيا عام 1998بدلًا من استهداف قواعدها العسكرية في الخليج. وتحقق مطلب الظواهري وهو التجنيد فعلًا؛ فقد قفز عدد الملتحقين بالقاعدة في أفغانستان بعد الرد الأمريكي عشرات الأضعاف عما كان عليه قبله.
مرحلة الاستقطاب والاستنزاف، تتلخص في استخدام أمريكا كأداة لإجبار كافة المسلمين على الوقوف ضد أمريكا نفسها، وذلك من خلال استفزازها في عقر دارها ودفعها لتحريك حملة هائلة، يظن المسلمون أن المستهدف فيها هو الإسلام نفسه. وقد تحقّق ذلك فعلًا في أحداث سبتبمر/ أيلول وكان رد الفعل الأمريكي شاملًا وعالميًّا دفعَ المسلمين لأن يقتنعوا أن الحملة ضد الإسلام نفسه. خصوصًا أن الحملة العسكرية صاحَبَها تضييق على كافة الأنشطة الإسلامية كالدعوة والإغاثة وغير ذلك. وهذا الاستقطاب جعلَ فئات من المسلمين في كل مكان جاهزين لتنظيم أنفسهم تلقائيًّا ضد الأمريكان، دون تنسيق مع القاعدة وما يترتب على ذلك من استنزاف ضخم للأمريكان اقتصاديًّا وعسكريًّا ونفسيًّا. ومرّة أخرى، تصدق توقعات الظواهري ويتم الاستقطاب والاستنزاف ويتجيش المسلمون ضد أمريكا في كل مكان في العالم وينتشر الفكر الجهادي عبر كلّ الحدود.
مرحلة التحييد تحصل بطريقة تراكمية، من خلال الإرهاق الاقتصادي والعسكري إضافة للخلخلة الداخلية للنظام الفيدرالي والمجتمع الأمريكي. الإرهاق الاقتصادي والعسكري حصل باستمرار النشاطات الجهادية في كل مكان وإجبار أمريكا على إنفاق تريليونات لاحتواء خطر القاعدة (مجموع ما أنفق على احتلال افغانستان والعراق يقترب من 10 تريليون دولار). الخلخلة الداخلية لأمريكا حصلت بإجبار أمريكا على التنازل عن الحريات والعدالة من أجل الأمن وإبقاء المجتمع الأمريكي تحت إرهاب الدولة وإضعاف الثقة بالنظام الفيدرالي. وصدقت توقعات الظواهري للمرة الثالثة، وانحسر نفوذ أمريكا وتآكل اقتصادها وضعفت ثقة الشعب بالنظام الفيدرالي كثيرًا.
بعد التأكد من تحييد أمريكا، أو بعبارة أخرى؛ عجزها عن قيادة هذه التركيبة العالمية، يمكن وقتها تغيير هدف العمليات من مهمات محدودة لكل عملية، إلى سيطرة حقيقية على الأرض وإسقاط أنظمة ودمج دول كاملة في دولة إسلامية واحدة. ويرى الظواهري أن مرحلة الارتباك التي تمرّ بالغرب ومنظومة الدول القُطرية بعد شلل أمريكا، مدة محدودة يجب أن تستثمر فورًا قبل أن يعيد الغرب ترتيب صفوفه ويدبر قيادة بديلة[3].
البغدادي والاستراتيجيّة الأفقيّة
بدأ مشروع “الدولة” منذ أيام الزرقاوي، ولكنها كانت رؤية عامة ليس فيها استراتيجية تمامًا مثلما كانت رؤية بن لادن دون استراتيجة. لم تتضايق قيادة القاعدة من إعلان الدولة في العراق، بل أيّدها ابن لادن ببيان رسمي وذلك لأنه يراه مشروع إمارة محدود لتنفيذ الشرع في الأماكن التي يسيطر عليها المجاهدون. وبهذا لم يكن في إعلان الدولة خروج عن استراتيجية القاعدة التي تنتظر تحييد أمريكا. واستمر الحال مع القيادات التي خلفت الزرقاوي على نفس الطريقة إلى أن وصلت قيادة الدولة إلى أبي بكر البغدادي. ساهمت أربعة عوامل في اتخاذ البغدادي قرارًا بالتمدّد الأفقيّ، وعدم انتظار التحييد الكامل لأمريكا، ومن ثم تجاهل خطوات الظواهري:
العامل الأول، انطلاق الربيع العربي واشتراك كثير من الشعوب في غضبة جماعية ضد الأنظمة الحاكمة، مما سبب إرباكًا للنظام العالمي على المستوى الأول (القُطري) دون الحاجة لتحييد أمريكا.
العامل الثاني، انطلاق الثورة المسلحة في الشام وتكوين فصيل ضخم من القاعدة فيها (جبهة النصرة) والتي يعتقد البغدادي أن قائدها (الجولاني) كان تابعًا له في العراق وعليه أن يستمر في التبعية له ما دامت الشام مجاورة للعراق.
العامل الثالث، القمع الشديد الذي تعرض له السنة في العراق من قبل حكومة المالكي، مما جعل الحاضنة في وضع مثالي لمن يخرجهم من هذا الوضع البائس. والمساحة التي فيها هذه الحاضنة كبيرة بما يكفي للاطمئنان للتمدد الأفقي.
العامل الرابع، أنّ أمريكا وإن لم تصل لمرحلة الشلل والتحييد الكامل؛ فقد أرهقت كثيرًا خاصة في العراق وأفغانستان ولم تعد قادرة على التدخل في منطقتنا كما كانت تفعل من قبل.
هذه العوامل مجتمعة إضافة للشخصية المتوثبة لقيادات الدولة دفعت البغدادي لأن يعزم بمشروع التمدد الأفقي ويوسع مفهوم الدولة لدولة العراق والشام ثم الخلافة. وبرصدٍ هادئ لبيانات البغدادي والعدناني مقابل بيانات الظواهري، يتبيّن أن هذه النقطة هي أساس الخلاف، وليس ما يتبادر عادةً بأنها الإشكال بين البغدادي والجولاني. ولأنّ البغدادي يعلم أنّه حين أقدمَ على إعلان دولة العراق والشام يكسر استراتيجية الظواهري، لم يفكّر باستشارته، بل صرح بمخالفته وتخطئته. وذهب بعض أتباع البغدادي إلى حد مطالبة الظواهري أن يقوم هو نفسه بمبايعة البغدادي. الخلاف إذًا في تقدير المرحلة، هل تم تحييد أمريكا بما يكفي لعجزها عن إبطال المشروع أو لم يتم هذا التحييد بعد؟[4]
هل يصدق تقدير البغدادي في تحديد المرحلة أو يصدق تقدير الظواهري، وهل تستطيع دولة البغدادي (الخلافة) أن تصمد أمام مناعة المستويات الثلاثة التي لا تزال متماسكة رغم إرهاق أمريكا؟ أيًّا كان الجواب، فإن البغدادي نفذ ما يؤمن به ولن يعود للوراء، وأما الظواهري فعلى الأرجح سيساير الوضع بحذر ويتخذ موقفًا وسطًا؛ فلن يندفع في دعم (الخلافة)، ولن ينأى بنفسه عنها[5].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] لا يمكن الإحالة لوثيقة محددة أو تسجيل صوتي أو مرئي محدد من أدبيات الجهاديين أو غيرهم بل هذا التصور تم استقراؤه من تتبع شامل للأدبيات ومن حوارات شخصية طويلة مع بعض المحسوبين عليهم. وأما ما نشر تحت عنوان “إدارة التوحش” فقد كان محاولة تفسيرية تأريخية أقرب منها شرحًا لاستراتيجية مرسومة. وكذا كتابات حسين بن محمود كانت أقرب للتحليل السياسي منها للاستراتيجية.
[2] تحدث ابن لادن في جلسة خاصة يعتقد أنها سجلت أيام أزمة الخليج أن الخصم القادم بعد الاتحاد السوفياتي هو أمريكا مما يدل على وضوح في الرؤية، لكنه استمر يفكر بمشروع إخراج الأمريكان من بلاد المسلمين.
[3] بغضّ النظر عن المواقف الشرعية والأخلاقية من الجهاديين، فإن هذه الاستراتيجية تدل على وضوح كامل في التصور وقدرة على صناعة الحدث وإجبار الخصم على ردة الفعل وليس العكس.
[4] تزعم جهات استخباراتية وأخرى تدعي أنّها مطلعة أن الشخصية الرئيسة في تنظيم الدولة ليس البغدادي ولكن شخص يُقال له أبو علي الأنباري. وأيًّا كان، فصاحب القرار في التنظيم فقد اختار المضي قدمًا في الاستراتيجية الأفقية.
[5] بعد الفراغ من كتابة هذا المقال، انتشرت في الإنترنت رسالة منسوبة للظواهري يؤيد فيها الدولة بموقف قريب ممّا توقعناه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق